لا العود عودي، ولا الأوتار أوتاري |
ولا أغاريدكم من شدو أطياري |
من أين جئتم بهذا (الطير) ويحكموا؟! |
لا الريش ريشي ولا المنقار منقاري |
إني أرى في جناحيه وسحنته |
سمات (اليوت) لا سيماء (بشار) |
وصرت أسمع ألفاظاً مقلقلة |
طرق المسامير في دكان نجار |
ألبستموني ثياباً لا تشرفني |
كأنها فوق جسمي حبل قصار |
سود وحمر وصفر لا انسجام لها |
كرسم (بيكاس) يعي فهمه القاري |
ماذا؟ يقولون تجديد.. لقد هزلت |
وساقها كل مهذار وثرثار |
ما الشعر؟ هل هو ألفاظ مسيبة |
بلا قيود ردي للمنطق الهاري |
الشعر هندسة تكاد ترى |
في النسج واللفظ منه روح فرجار |
والوزن للشعر روح وهي ان فقدت |
أضحى جماداً بلا حسٍ كأحجار |
(قصيدة النثر) مثل الحشي جامدة |
والشعر كالرقص في ترنيم قيثار |
ورب حرف صغير الشأن يرفضه |
والشعر كالرقص في سيقان أبكار |
تأبى الحروف التي صيغت نماذجها |
من رعشة الروح في أعماق أسرار |
إن تلتقي معكم في سبك خاطرة |
عرجاء تحجل في ميثاء مهيار |
لكل فن أصول يستقل بها |
شتان ما بين سباك وعمار |
تبينوا بعض ما تبغون وانطلقوا |
في الروض ما بين أزهار وأثمار |
وجنبونا غثاء لا جمال له |
ولا رواء ولا يوحي بإكبار |
إن كان لابد من فن نجدده |
فجددوا في مضامين وأفكار |
وأنطقوا الصخر في ترنيم قافية |
كرعشة الضوء في لمع السنا الساري |
(حرية الشعر) في إشراق فكرته |
وفي تساميه عن لغو وأقذار |
وأن يكون لكم في كل معترك |
رأي جهيم وعزم غير خوار |
أما كفى أننا فقراً ومخمصة |
نستورد الغرب حتى صبغ أظفار |
فكيف تبغون أن تستوردوا أدباً |
من صنعه نيكلاً بدينار |
والشعر نور ونار والنفوس لها |
طبع الفراشات عشق النور والنار |
ورب ذي قلم أعطى لأمته |
ما ليس يعطيه فيها نهرها الجاري |
ونحن هنا ليس في مجال مناقشة موقفه المعارض للقصيدة الجديدة، أو الشعر الحر، أو قصيدة التفعيلة، فهذا رأيه وموقفه.. إنه أستاذنا الشاعر الكبير محور موضوعنا هذا (محمد بن علي السنوسي)، الذي تجاوز بشعره محيطه الاقليمي مرتحلاً ومسافراً كالطيور المهاجرة إلى بلدان الوطن العربي، وقد مثل بشعره المملكة في العديد من المؤتمرات الشعرية العربية، وتربطه بالعديد من الشعراء والأدباء العرب صداقات ود واحترام وتقدير، بل ان بعضهم كتب عن شعره دراسات وكلمات تقريض!! |
كانت بداية معرفتي به عام 1380هـ بجيزان، حين كان مديراً لجمركها، وكنت في كل لقاء به ألقى منه التشجيع، وعبارات الثناء بعد قراءته لما أكتبه في الصحف والمجلات، وكنت وقتها في بداية حياتي الأدبية، كانت كلماته وعباراته أعدها من بدايات الدروس والنصائح التي تمثلتها.. منها: لكي يكون الإنسان كاتباً، وأديباً يجب أن تتوافر لديه الموهبة التي تُنمى وتصقل بالقراءة الجادة والدائبة، مع الاستمرار في الكتابة للدربة والمران، وتقوية الملكة، وتنمية وتطوير الموهبة. |
ولا أدري لماذا كنت أتوق أن أكون شاعراً؟ |
ألأن بدايات الكتَّاب والأدباء تتوجه نحو الشعر؟ أم لأن الشعر من الفنون التي تستهوي القلوب وتستقطب مشاعرهم، وتستولي على وجدانات المتلقين، مثله مثل الغناء والطرب؟ أم لأن الشعر يغفو داخل أعماق كل عربي، من منطلق مقولة (الشعر ديوان العرب)؟! |
وبكل شجاعة واندفاع الشباب حاولت كتابة الشعر، وعرضه على أستاذنا (السنوسي) للاستشارة، فيشجعني ويوجهني.. لكنه في كل مرة يطلب مني عدم استعجال النشر حتى يستقيم عودي، وتثمر موهبتي شعراً جيداً!! |
ولا أدري، مرة أخرى، لماذا أحجمت عن كتابة الشعر مكتفياً بقراءة الدواوين متذوقاً حيناً، ودارساً انطباعياً؟! وهذا ليس مهماً، لكن المهم هو ما كان يتحلى به شاعرنا (السنوسي) من دماثة الأخلاق، والروح العالية، والتعامل المتواضع في تشجيع الناشئة دون تذمر!! |
لم يسعدني الحظ أن أغشى مجلسه الخاص في منزله؛ لأنه يحب الاختلاء بنفسه لقراءاته، وكتابة قصائده الشعرية. ثم انتقلت إلى مدينة (جدة) التي كانت مشهورة بسعة مساحة أفقها الأدبي، لكثرة أدبائها وشعرائها، كما أنها مركز لأغلب الصحف التي كانت تصدر يومذاك على مستوى المملكة. |
وبعدها انتقلت إلى مدينة (الرياض).. ولأن أغلب رحلات شاعرنا (السنوسي) إليها فقد تعمقت علاقتي به، بحيث كنا نجتمع من العصر إلى منتصف الليل؛ لأن مجلسه لا يمل بما يعطره من مخزون ذاكرته الشعري، وحكايات التراث، وهو قليل الحفظ لشعره، في الوقت الذي يحفظ فيه قصائد للشعراء العرب أمثال أبي تمام، والبحتري، والمتنبي... وغيرهم. |
ويبدع (السنوسي) بل يبكي حين يكتب قصائد (الرثاء)، ومن قصائده المعروفة في غرض الرثاء، رغم ان شعره حافل بأغلب إن لم يكن كل أغراض الشعر العربي المعروفة، قصائده في رثاء صديق الطرفين (علي حمود أبو طالب) الذي مات في حادث مرور مروع مفاجئ، وفي رثاء كل من (محمد سعيد بامهير، والصبان، والعقاد، وأحمد قنديل، وضياء الدين رجب) تغمدهم الله جميعاً بواسع رحمته. |
والرثاء في شعر (السنوسي) يعكس خصاله الطيبة، وشمائله الإنسانية في (الوفاء) نحو الآخرين من أصدقائه، وممن قدموا أعمالاً تذكر فتشكر للوطن والأدب، مخلداً بذلك ذكرهم في ذاكرة الأجيال الحاضرة والمستقبلية.. في عصر عز فيه الوفاء، وتنامت فيه أشواك الجحود والنكران والنسيان. |
ومن الأبعاد الموضوعية في شعره حضوره الدائم في قضايا أمته العربية والإسلامية تاريخاً مشرفاً وحاضراً يستشرف المستقبل المشرق الوضيء.. وهذا البعد يحتل مكانة مهمة وواسعة في شعره. |
ويأتي (الريف) وتعلقه به واحداً من الأبعاد الموضوعية في شعره، مما جعلتها اطلاق صفة (شاعر الريف)، كما جاء في عنوان هذا الموضوع.. وقد سبق أن أفردت له دراسة انطباعية بعنوان (الريف.. في شعر السنوسي) نشرت في أحد أعداد مجلة (اقرأ) الأسبوعية بجدة في عهد رئيس تحريرها الصديق العزيز (أسامة أحمد السباعي). |
ويكاد (السنوسي) أن يكون شاعراً للحياة، والأحياء، والطبيعة.. وتحتل (جازان) ومغانيها، وظواهرها الطبيعية والنفسية قدراً من مخيلته الشعرية، ومشاعره النفسية (الجوانية). |
وهو في نظرة الفنان الشاعر إلى الحياة يرى أن (الفن تعبير عن الحياة في أسمى صورها.. والفنان شاعراً كان أو كاتباً هو انسان قبل كل شيء، وهو لذلك يتأثر بكل لون من ألوان الحياة، وضرب من ضروب العيش.. وميزة الفنان هي أنه يستطيع الكشف عن خلجات قلبه العاطفية، وتجاربه الشعورية كشفاً انسانياً رائعاً. |
فإذا رأينا في أثر الفنان ما يعمق شعورنا، ويفتح عواطفنا، ويؤكد ثقتنا بالقيم العليا، والمثل الإنسانية السامية، فذلك هو الفنان الذي يخدم الحياة بانتاجه، حتى لو كان في (برجه العاجي)؛ وذلك لأن الفنان يرى الدنيا (الخارجية) من خلال نفسه الداخلية) (1). |
وهو في هذا الرأي يذهب مذهب (الفن للحياة)، لا كما يرى البعض أن (الفن للفن)!! |
وللسنوسي دواوينه الشعرية هي بالتسلسل حسب صدورها: (القلائد)، (الأغاريد)، (الأزاهير)، (الينابيع)، (نغمات الجنوب). |
وقد طبع بواكير شعره في ديوان (شعراء من الجنوب) اشتمل، إلى جانب بعض قصائده، على قصائد أخرى لوالده الراحل القاضي السيد علي بن محمد السنوسي، الذي كان من أوائل أساتذته، والمؤثرين عليه شعرياً، وقصائد للمؤرخ الراحل زميله وصهره الأستاذ محمد بن أحمد عيسى العقيلي، وقد طبع من هذا الديوان طبعة واحدة بمدينة (عدن) باليمن الشقيق، أيام الاستعمار البريطاني لعدن.. وللتاريخ نذكر أن اليمن أول من عرف المطبعة في الجزيرة العربية، حيث أنشأت الحكومة العثمانية مطبعة في صنعاء عام 1877م حوالي عام 1295هـ، بعدها عرفت (مكة المكرمة) المطابع عام 1300هـ (1883م).. كما يرى الصديق الدكتور محمد الشامخ في كتابه (نشأة الصحافة في المملكة العربية السعودية) ط (1) الناشر (دار العلوم) عام 1402هـ الموافق 1982م (ص.ص 11، 21).. وليس بمستبعد ان تكون (عدن) أسبق في معرفة المطبعة!! |
وقد أحسن نادي جازان الأدبي بطباعة دواوين شاعرنا السنوسي في مجموعة كاملة، وفاء له بعد رحيله؛ لأنه ظل الرجل الثاني الذي شغل منصب رئيس النادي حتى رحيله.. وقد كتب مقدمة المجموعة الصديق (عمر طاهر زبلع). |
ولشاعرنا السنوسي كتاب نثري بعنوان (مع الشعراء) عبارة عن رؤى في قصائد بعض الشعراء العرب البارزين، أذكر منهم (نزار قباني). |
هذا، وقد انتقل شاعرنا (السنوسي) إلى رحمة الله عام 1407هـ 1987م.. لكنَّ الجنوب وريفه، وطبيعته، والمملكة... ستظل خالدة في ذاكرتنها من خلال شعره الأصيل. |
وكما يقول الشاعر العربي: |