تصدر هذا الأسبوع أعماله القصصية الكاملة إبراهيم الناصر الحميدان: عاشق الجمال والحرية
|
تصدر هذا الأسبوع بإذن الله الأعمال القصصية الكاملة للرائد القاص إبراهيم الناصر الحميدان، وتنشر «الثقافية» المقدمة التي كتبها الناقد عبدالله السمطي.
ينطوي الفعل الإبداعي السردي عند المبدع الرائد إبراهيم الناصر الحميدان على جملة من القيم الفنية المثلى التي ترشح بها نصوصه القصصية، إنه يقف بدئيا موقف المتأمل في هذه اللوحة الإنسانية الكونية، المتأمل بدأب وبتساؤل شاسع، فيرصد النماذج والشخصيات المتحولة دراميا التي تختزن ذاكرة المكان والزمان معا، وعبر التحديق في الواقع وتبدلات المجتمع يتقدم السؤال الإنساني على ما عداه، تتقدم الفكرة وانبثاقاتها الاجتماعية ليس تقصيا لما هو سيسولوجي، إنما للبحث عن هوية الإنسان المعاصر الذي يحيا على إيقاع أحداث كبرى أو صغرى يشارك بها، يتأثر بها, وينفعل بتوتراتها حتى لو كان في بقعة قصية من العالم.
إن الوعي الماثل الذي يتحرك في مكامن نصوص الحميدان يتجلى في هذا الاحتفاء المترع بالكثافة بكل ما هو جميل وفاتن، والجمال هنا لا يومئ إلى المعنى الحسي فحسب، أو إلى ما تطاله الحواس من لذة بصرية أو سمعية بل إنه جمال لا يحد، يمتد في المطلق عابثا بمكونات الحياة، مغتبطا بها إلى أبعد مدى.. إن هذا الميسم السردي يحقق لدينا حالة شعرية باذخة تتحلى بها نصوص الحميدان. فمن الجمال النائم على شاطئ البحر إلى جمال المشهد الصحراوي حين تزحف عليه المدنية، إلى القرية الطاوية تجدد آمالها في أن تمسها يد الحضارة، إلى هذه الغرائبية ببراءتها وتلقائيتها ولا وعيها أيضا التي تتحرك في لحمة بعض النصوص وسداها.. إلى البحث القلق عن فتنة الحياة، وربما لذة الحزن التي يشير إليها الحميدان في أحد نصوصه بالقول:( معذرة ألا يكون أحدكم قد عاش حزنا أبديا كتجربتي، أو أنه فقد لذة الحزن لفرط ما عب من جرعاته المترعة، وتلظى على موقده المستعر حتى أصبح مدمنا على تناوله)، إن هذا كله يمثل فيما يمثل الأفق الرحب الذي تترى فيه نصوص الحميدان القصصية، والذي يحتضن تجربته الناهضة المتحولة التي تقدم جمالا من نوع آخر، يتجاوز تفاصيل الحسي إلى كينونة المعنوي.
2
إن صدور الأعمال القصصية الكاملة للمبدع يمثل علامة فنية فارقة في مسيرته وتجربته الإبداعية، ولعل في ريادة إبراهيم الناصر الحميدان السردية التي تشكلت عبر تاريخية مديدة تتجاوز النصف قرن من الزمن الكتابي، ما يمهر هذه الأعمال بذاكرة مشحونة بأحداث ومواقف ورؤى، سمقت عبر طودين جوهريين لدى الحميدان: الرواية، والقصة القصيرة.. وإذا مثل هذان الطودان الشامخان فرسي الرهان التخييلي لديه عبر توازي الفعل الكتابي للتجربة الحميدانية الروائية والقصصية، فإن الأمشاج السردية التي تتواتر جيئة وذهابا فيما بينهما تجعل استثمار الفواعل النصية والآليات التقنية مهادا ومرتكزا مهما للتلاقح الفني بين النوعين الأدبيين الفاتنين، تصدر هذه الأعمال وفي اليقين ما تمثله من قيمة جمالية وتاريخية وسسيو ثقافية، فالحميدان يقف على حقبة زمنية مديدة من عمر المملكة العربية السعودية، إنه يقدم التاريخ التحتي الموازي وهو سيرة الناس نفسها، بخصوبتها الثرة، وأفكارها الصغيرة الكبيرة، ووقائعها البسيطة البريئة المدهشة.. وعبر هذه الصورة المبدئية يتسنى لنا قراءة المشهد السردي الحميداني.. هذا المشهد تمثله بجلاء هذه الأعمال القصصية الكاملة.
ويتشكل العمق الكمي لهذه الأعمال من ست مجموعات قصصية هي:( أمهاتنا والنضال، أرض بلا مطر، غدير البنات، عيون القطط، نجمتان للمساء، العذراء العاشقة)، تتضمن (106) قصة قصيرة، وقد صدرت أولى المجموعات القصصية في العام 1381هـ 1961م أي قبل أكثر من أربعين عاما، بما تختزنه هذه المرحلة من أحداث وطنية وتاريخية واجتماعية داخليا وخارجيا، طغى فيها الهم العربي، وسادت مرحلة النضال الوطني والتحرر من الاستعمار الغربي، والصراع العربي الإسرائيلي، مما انعكس بشكل أو بآخر على الأبعاد الدلالية لبعض نصوص المجموعة التي تحمل عنوانا لافتا هو:( أمهاتنا والنضال) حيث تحمل هذه المجموعة الهم الوطني العربي، وتعد نموذجا معبرا عن هذا الهم. أما المجموعات التالية فقد صدرت على فترات زمنية متقاربة او متباعدة، وأحدثها مجموعته:(العذراء العاشقة)، وهذه المجموعات جميعا تمثل تجربة الكاتب وصورته وتحولاته من مرحلة لأخرى، ومن تقنيات جمالية إلى تقنيات أخرى، تؤكد على سيرورة الرؤية الإبداعية لدى الحميدان، وعلى اعتصامه بالمخيلة السردية لتحقيق صورة فنية مثلى تعبر في الجوهر عن عالمه القصصي الأثير الذي تتشابك في أطرافه وجهاته الرؤى الرومانسية والواقعية والاجتماعية.
3
تتمظهر الفعالية السردية لدى إبراهيم الناصر
الحميدان في إيثاره التعبير عن مكامن الجمال الإنساني بكل مستوياته من جهة، والبحث الأبدي عن الحرية بكل تجلياتها..، بما يمثل نسقا دلاليا جوهريا يتبدى حيالنا في التحليل اللانهائي لتجربة الحميدان السردية.. من هنا فإن السيرة العاطفية، والتجربة الوجدانية للشخوص القصصية، والكشف الدائب عن الجمال الأنثوي، وابتكار الأفق النسائي بكل صيغه، والانشغال بهموم المرأة بحثا عن الحب والأمل والغبطة والتوتر العاطفي الرومانتيكي والدرامي، أيضا تمثل أوابد أساسية لدى الحميدان، وتشغل مساحة كبيرة كمية ونوعية من قصصه في المجموعات الست.. إنها أحلام ومواقف وتجارب، ورؤى، وصراعات صغيرة، وسورات عاطفية تحتدم في قلوب العاشقين يصوغها الحميدان بشكل نضر وتلقائي.. يبرز جانبا في العمق من جوانب الصيغة البشرية الإنسانية الباحثة عن الحب والجمال.
من جانب آخر فإن إحدى شخصيات قصص الحميدان تهتف:( الأعمال متوافرة يا أماه.. ولكن الحرية هي الأزمة). بلى: الحرية هي الأزمة، حين تصبح كذلك فإن هذا يدل على انشغال الكاتب والمكتوب عنه بها، وطرحها عبر آفاق متعددة من الصيغ، ومن بينها الصيغة السردية، خاصة حين تقرن بالمعرفة، طبقا لما يرد في أحد النصوص:( المعرفة هي ينبوع الحرية أبداً). لقد شغلت مسألة الحرية جانبا لا بأس به في قصص الحميدان، سواء كانت تتعلق بقضايا كبرى عامة، كقضية الاستعمار مثلا بما تحويه من خطاب كولونيالي ينظر إلى الشعوب المقهورة نظرة دونية، ونظرة استعلاء كبرى من ناحية، وبما يقدم من طرف آخر نقيض، مناوئ لهذه النظرة، من بحث عن الحرية والهوية والإعلاء من الذات الوطنية، أو تتعلق بقضايا ذاتية صغرى، تتجلى في الهموم اليومية التي يعايشها الفرد الساكن في الصحراء أو في القرية أو في المدينة.
إن المرأة وعالمها تمثل بعدا دلاليا رئيسيا في تجربة الحميدان، ولو استقصينا من وجهة كمية قصص المجموعات، سنجد أن حضور المرأة فيها يتجاوز ثلثيها، سواء كانت المرأة بصورتها الرومانسية العاشقة او المرأة بصيغتها الاجتماعية الصرف: أما وزوجة وأختا وابنة، وهي تظهر بشكلها القصصي لتقدم نماذج متعددة للمرأة سواء المرأة البدوية الصحراوية أم المرأة في القرية أم التي تسكن المدينة، وهي في كل ذلك لا تتغير كثيرا، فما تقدم القصص، بل إن مزاجها وطبعها متقارب، خاصة فيما يتعلق فيها بالجانب العاطفي الرومانتيكي الذي يؤثره الحميدان في قصصه.. الذي نظر إلى النساء من منظور الجمال، خاصة حين يتخلصن من الغضب كما تقول إحدى شخصياته:( لو تخلصت النساء من الغضب لأصبح جمالهن يفتن عباد الله)!!
4
في ظل هذا الأفق فإننا نطالع وجوها متعددة للمرأة في قصص مثل:( أمهاتنا والنضال، أمينة، خيانة، الزوجة الثانية، العودة إلى الحياة) حيث المرأة المكافحة، المرأة المثال، كما نرى المرأة المغوية الفاتنة، والمرأة البدوية والقروية والغجرية كما في:(الوجه الأبنوسي، والصديقة، والهينة، وعروس القرية، وغدير البنات، وناعسة في ليلة الفرح، والغجرية، والعذراء العاشقة) على سبيل المثال. إن هذا الانشغال بالمرأة هو انشغال بقيم الجمال الإنساني وصوره المتعددة.
وتحمل القصص صورا من القضايا الاجتماعية المختلفة المتعلقة بمشاكل القرية وتطويرها والاحتفاء بالكهرباء مثلا، أو ظهور السيارات والهاتف والتليفزيون والراديو وأدوات الحضارة الأخرى ونظرة القرويين أو سكان الصحراء لهذه الأدوات واعتبارها (مخترعات شيطانية)، وتضمين ذلك رؤية غرائبية للأشياء، كما تحمل الهموم الاجتماعية وقضايا الزواج والطلاق والعنوسة، وقضايا العمل والمعيشة والقضايا الحياتية الأخرى، وهي تقدم ذلك في نسق فني واقعي اجتماعي يحتفي بالمباشرة وقيم الوضوح الفاتن الذي تتخلله تعبيرات سردية مكثفة تحملها لغة ذات إيحاءات بعيدة أحيانا. ولعل هذا الطقس القصصي الذي يفضي به الكاتب إنما يشكل لوحة تاريخية اجتماعية مهمة يمكن التأمل في دلالاتها وانعكاساتها لأنها تنقل التاريخ الحي التحتي كما ذكرت سالفا لمجتمع ما يزال يشهد من التحولات الخصبة ما تزكو به حياته، وما تتعزز به هويته وثقافته.
ولا تثريب على الحميدان وفق ذلك أن يقدم شخصيات اجتماعية وواقعية صرف، فأغلب شخصياته هي من الشخصيات المهمشة البسيطة التي تجابه الواقع والعالم بتلقائيتها وبراءتها، خاصة أنها تحيا في أفق زمكاني يختلف ويتعدد في ثقافته وثوابته ومتغيراته، وهي شخصيات تحتية بالأساس مما يعزز قيم المفارقة المكانية ما بين الصحراء والقرية والمدينة، وما بين الدخل والخارج، وهذا الاختلاف والتفاوت على المستوى المكاني أدى بطبيعة الحال إلى التفاوت الشخصي في آليات التفكير وتلقي الأحداث والتأثر بها والتأثير فيها.
إن شخصيات القرويين، والصحراويين، والعمال البسطاء، والنسوة المتشحات بالأمل، والصبية الصغار تمثل الملهاة المأساة القصصية التي يبرزها الحميدان في قصصه.. وعلى المستوى السيري فإن الذاكرة القروية للحميدان تلعب دورا دلاليا ناتئا في صياغة الأبعاد السيميولوجية والرمزية نادرا في خطابه السردي.. ولعل للقرية وفق هذا ميسما، وتجليا كبيرين في هذا الخطاب.
ولا تختلف المستويات اللغوية كثيرا في جل المجموعات، حيث إنها تتأدى وفق لغة مباشرة حية، يغلب على مضامينها الأفق الاجتماعي، وإن كانت بعض الحوارات القصصية تحمل أفق عاميا بعض الأحيان، إلا أن الحميدان يصبو إلى تقديم لغة متقاربة لا تجريب فيها أو إيغال في التعقيد والتركيب، وهو ما يجعل قصصه أكثر شفافية ووصولا للقارئ.. ويغلب الوصف أحيانا على الخطاب السردي الحميداني خاصة في القصص التي تنقل تجارب رومانتيكية فاتنة. إن الأفق السردي الذي يقدمه الخطاب الإبداعي القصصي للحميدان يحتشد بجملة كبيرة من المعلوماتية إذا صح التعبير لمن يرد التأمل في عالم القرية، وفي قراءة التحولات الاجتماعية والتاريخية والواقعية لمجتمع المملكة، وهو بهذا التضمين، إنما يؤكد على الجدارة الفنية السردية التي تلتقط ما تعايشه وتعيد تكوينه في شكل فني فاتن، ويبرز من جانب آخر قدرة المخيلة القصصية على التكوين والتركيب السردي الذي يتواءم وطبيعة المرحلة الواقعية والفنية أيضا.
إن إبراهيم الناصر الحميدان، القاص والروائي الرائد، يقدم في قصصه لوحة إنسانية تعمق سؤال الوجود، وسؤال الإنسان بالأحرى، وهو حين يقدم ذلك إنما يشير إلى هذه الذات التي تغتبط بفكرتها، وبأنسها الشاف لتحولات الحياة، ومحبة الجمال، وعشق الحرية التي لا ينقطع فيضها، بل يتجدد ويتكاثر، ويسمو، نزوعا، إلى عالم أنقى.. وأكثر ثراء في تفاصيله، وكينونته، وأحلامه، ورؤاه المخايلة.
عبدالله السمطي
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|