الدكتور خالص جلبي لـ«الثقافية»: الثقافة العربية مشحونة بالثأر وليس بالحب والتسامح
|
«لكي تكون فيلسوفا فليس الامر هو ان يكون لديك افكار حاذقة او تكون منتميا لمدرسة معينة بل هو ان تكون قادرا على حل مشاكل الحياة، ليس نظريا فقط بل بشكل عملي».
هذا ما قاله الفيلسوف الامريكي هنري ديفيد وهو امر صحيح اذ ان الفلاسفة دائما ما يوصفون بانهم اولئك الذين يعيشون في ابراجهم العاجية بعيدا عن دراما الحياة وقد ازدادت هذه الهوة في عصر العولمة والانترنت الذي تتسارع فيه عجلة التنمية بشكل لم يسبق له مثيل، وتراجعت الفلسفة وتركت مكانها للعلم والتقنية وعلم النفس.
في هذا اللقاء سنتحدث مع احد اولئك الذين يحاولون اسقاط بعض الافكار الفلسفية على الواقع العربي والاسلامي ويجتهدون في محاولة شرح هذه الافكار النظرية وتطبيقها على ارض الواقع، ويحاولون الابتعاد قدر الامكان عن الابراج العاجية التي يلجأ اليها الفلاسفة عادة عندما يجدون صعوبة في تطبيق افكارهم الفلسفية.
الدكتور خالص جلبي هو احد المفكرين العرب والكتاب القلائل الذين برعوا في كتابة المقال في الصحافة العربية بأسلوب مختلف يجذب القارئ ويرغمه على المتابعة في القراءة حيث يملك اسلوبا فريدا في طرح قضيته ويستشهد فيها بكل ما يعرفه من ثقافة عالية في القرآن الكريم والطب والفلسفة وعلم النفس والاجتماع وعلم الانسان.
حوار خالد العوض:
* المتتبع لمقالاتكم الصحفية المتناثرة في الصحف يلحظ استخداما مثيرا لحقائق علمية وطبية وفلسفية وتاريخية واسقاطها على ما يحدث في الواقع الاسلامي او العربي فتقدم قراءة جديدة من نوع مختلف تجذب القارئ بقوة الى التفاعل معها، كيف استطعت المزج بين كل هذه التخصصات واسقاطها على الواقع الذي نعيشه؟
الجواب متعدد فمن جهة لابد من قاعدة نظرية ولكن لابد من تفاعل القاعدة النظرية مع الممارسة بل وتتبلور وتتشكل بهما كما ان منها تتطور فهذه ثلاث حقائق من تأثر النظرية بالممارسة، ولكن استخدام قاعدة واسعة من العلوم يلقي المزيد من الضوء على الفكرة عندما نأخذ بعين الاعتبار ان الحقيقة نسبية وان الاقتراب منها يتم بمنحنيات تماس رياضية لا نهاية له.
* أنت تهتم كثيراً بفكر السلم ونبذ العنف والذي تتفق به مع المفكر الاسلامي جودت سعيد ايضاً.. البعض يرى ان مثل هذا الطرح يعارض مبدأ الجهاد في الفكر الاسلامي.. كيف ترد على مثل هذا الرأي؟ اللاعنف او الجهاد المدني هو اسلوب الانبياء وهو جهادهم الاساسي وعندما لا نفهم ماهي بنية الجهاد ووظيفته وبيد من يكون وضد من يشن تحصل اختلاطات كما وصفتها في مقالات عدة ان بين الجهاد والجريمة شعرة فكل منهما يترتب عليه سفك دم، ولكن شتان بين ممارسة امرين، ونحن في الجراحة ينزف معنا المريض ولكن في النهاية يكتب له الشفاء.
* حاول العراقيون في يوم سقوط بغداد اسقاط تمثال صدام في ميدان الفردوس دون جدوى فلم تنفع حبالهم وعصيهم في تحقيق هدفهم، لكن احد المارينز يأتي لمساعدتهم فيقوم باسقاطه بسهولة، لكنه قبل ذلك يغطي وجه صدام بالعلم الامريكي، ثم يغير رأيه ويستخدم علما عراقيا قديما بدون عبارة «الله أكبر». كيف تقرأ هذا المشهد او هذه اللوحة التشكيلية او هذا النص الامريكي الما بعد حداثي؟! المشهد يؤكد على ثلاث حقائق كل واحدة أمرّ من الاخرى، وهي عجز عراقي داخل وخلاص خارجي وسرطان بعثي داخلي يتراكب عليه الآن قيح امريكي ويظن الكثير ان العراق تحرر وهو لم يتحرروانما انتقل من يد علي الكيماوي الى يد مشعان الجبوري الذي سكن في بيت الاول، وسكنتم في مساكن الذين ظلموا انفسهم وتبين لهم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الامثال. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يوصي اصحابه ان لانمر بأرض الظالمين الا ونحن باكين!
* كيف ترى مستقبل العراق السياسي في وجود السنة والشيعة؟ وهل ستنجح حكومة علمانية في العراق؟! لن تنجح حكومة اسلامية ولا حوزة علمية ولا علمانية فالكل يشرب من نفس العين الحمئة والسبب ان الخلاص لم يولد ذاتيا بل جاء بجراحة امريكية لاستئصال سرطان صدام، ونحن نعرف في علم الامراض ان السرطان ينمو في المعدة وينتشر الى الرئة والكبد والدماغ، واذا نجحت امريكا في ازالة سرطان المعدة فان الانتشارات موجودة ولا يمكن التخلص منها الا بمعالجة معقدة ومكلفة وهذا هو التحدي امام العراقيين. وكما قال احد رؤوس العشائر هل يبني احد بيته في فصل الشتاء ام ينتظر الربيع؟ ان العراق الآن في شتاء الانتهازيين؟
* أنت تؤمن بفلسفة العصيان المدني Disobedience Civil
كما جاء بها غاندي مثلا او تطبيق مبدأ اللاعنف في التظاهر ضد شيء ما سواء كان ذلك استعماريا داخليا او خارجيا هل كان بامكان العراقيين تطبيق هذه الفلسفة وابعاد نظام صدام حسين دون الحاجة الى الامريكيين؟ اعتقد ان هذا ممكن ولكنه يحتاج الى تدريب خاص من مستواه وهذا يعني نقلة نوعية في التفكير والتحدي فيه ان الثقافة العربية مشحونة بالثأر وليس بالحب والتسامح، بكلمة اخرى يحتاج الامر الى انقلاب نوعي في التفكير والتصرف، وهذا يحصل مع ولادة نفس عظيمة بتعبير شبنجلر.
* هل سيستفيد العالم العربي من درس العراق؟ بكلمة أدق ليس انه سيستفيد بل جرى قانون التاريخ ان من لايغير نفسه يأتي من الخارج من يغيره، والعذاب يأتي على دفعات وتزاد الجرعة كل مرة حتى يرجع المخطئ عن السلوك الشائن. وفي النهاية اذا اصر المستكبر على المضي بدون ان يرتده قصمه الله ولا يبالي، وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة.
* أنت دائما تقتبس وتستشهد بعلماء وفلاسفة من الغرب، لكنك تغفل الشرق، الا ترى ان فلسفة العلم والسلم التي تتبناها تقترب كثيرا من فلسفة الشرق، وهذا واضح مثلا عند اليابانيين اذ رغم انهم تعرضوا لعقاب نووي شديد وقاس في هيروشيما ونجازاكي لم يفكروا بعمل انتقامي ضد امريكا، كيف ترى فلسفة الشرق في مقابل فلسفة الغرب؟ ربما لم تتبع كلامي بدقة فانا استشهد من كل عين صافية او هكذا اظن ولكن الصحافة العربية قد لاتتحمل احيانا كلاما دون آخر، ولكنني ادور بين غاندي وراسل واقبال وزن وتينبي ودلاي لاما.
* كيف تفسر انتشار الطائفية في الاسلام؟ تجد مثلاً القاديانية والبريلوية والاسماعيلية والزيدية والاباضية والشيعية والسنية والصوفية واسماء اخرى كثيرة لا نستطيع حصرها، كيف تقرأ لنا هذه الظاهرة؟ انتشار الطوائف ظاهرة صحية عن التنوع والتعددية ومدينة القامشلي التي نشأت فيه كانت تضم كل الاديان والملل والنحل ومن الفرق النصرانية يوجد فرقة النسطورية التي هي بحكم المنقرضة وتدعى الكلدانية، ولكن المرض هو في تبادل الريبة والكراهية والانغلاق، وهكذا كانت في مدينتي ايضا ولولا انها فئات قليلة في محيط سني غامر لأكل الناس بعضهم بعضا.
* الجامعة العربية فشلت فشلاً ذريعاً في التعامل مع القضايا العربية فهي لم تمنع احتلال الكويت ولم تمنع احتلال العراق.. البعض يفسر هذا الفشل بان الجامعة بنيت على اساس هش وهو القومية العربية.. في الاسلام، لا وجود للقومية وخير دليل على ذلك تواجد بلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي في صدر الاسلام، هل توافق الرأي الذي يقول ان القومية التي تتعارض مع بعض ما جاء به الاسلام هي السبب في فشل الجامعة، بعبارة اخرى الوحدة العربية هي نظريا فاشلة بسبب تعارض هذه الفكرة مع مبدأ اسلامي تتبناه هذه الدول مفاده ان اكرمكم عند الله اتقاكم وليس من كان عربياً فقط؟ اعتقد ان المرض الاساسي في الجامعة العربية ليس القومية ولا الاسلام والآن يوجد مؤتمر اسلامي وجوده لايزيد عن عدمه كثيراً، وكثير من المؤسسات تولد ميتة بسبب انها لاتحمل الكود الوراثي الكامل. والجامعة العربية فكرة ولدت من مخيلة السياسيين والسياسيون كذابون غدارون لايأمن بعضهم بعضا، ولو كانت الجامعة تمثل مؤسسات حية وشعوباً لربما كتب لها حظ وفر وانا اقترح على العرب ان ينعوا الجامعة العربية ويوزعوا بطاقات النعي وتقبل التعازي ولو متأخرة.
* سقط الاتحاد السوفيتي بسبب سقوط الفلسفة الاشتراكية.. هل يمكن ان نقول الشيء نفسه عن فلسفة ميشيل عفلق البعثية وانه آن الاوان لمعتنقي هذا الفكر ان يبحثوا عن فلسفة اخرى؟ لم يسقط الاتحاد السوفيتي ولا العراق بسبب الفلسفة بل بسبب الاضطهاد او الاكراه حسب مصطلحات القرآن، ومن فكرة الاكراه لا يعتبر الايمان ايماناً ولا الكفر كفرا ولا البعث بعثا ولا الشيوعية شيوعية، وما اسقط البعث والشيوعية هو نظام الديكتاتورية اكثر من الفلسفة.
* لكي نكون اقوياء لابد لنا ان نتجه نحو العلم وهذا لا يكون الا باتقان العلوم الانسانية.. كيف ترى معضلة العلوم الانسانية والعلوم الشرعية في المناهج الدراسية؟ ليس هناك من مشكلة في الجمع بين العلوم الشرعية والعلوم الانسانية مع ملاحظة تطوير كلا العلمين، فلا يمكن قراءة الحديث بعقلية فقهاء العصر المملوكي ايام ابو سعيد جقمق والناصر قلاوون.
* الخرافة، الاسطورة، الطب الشعبي، السحر والجن، كيف تقرأ هذه المظاهر في الثقافة العربية؟ عندما يغيب العقل تبزغ الخرافة، ومن رحم العقل النقلي يولد الطب الشعبي. وعندما لايوجد عقل نقدي فتوقع كثرة وجود الجن من الانس قبل الجان.
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|