حسن القرشي.. الشاعر الذي قدمه طه حسين قبل أن نقدمه!! (2 / 3) عبدالله سالم الحميد
|
(الأمس الضائع) عنوان لإحدى المجموعات الشعرية للشاعر حسن القرشي، وقد أوردنا أبياتاً من إحدى قصائد هذه المجموعة التي صدرت في طبعتها الأولى عام 1957م وقدم لها الدكتور طه حسين مقدمة إبداعية رائعة نشرت مع الطبعة الثانية للديوان عام 1968م، وكانت تلك المقدمة إحدى مواد كتاب الدكتور طه حسين بعنوان (كتب ومؤلفون) الصادر عام 1980م، يقول فيها عن الشعراء، وعن شاعرنا حسن القرشي: (هذه نسمات من الحجاز تبلغنا في مصر بعد أن طال العهد بنسيم الحجاز الأدبي، واشتد التفقد له، وملك الظمأ نفوسنا التي كاد يحرقها الصدى، لقد سكت الشعر الحجازي فأطال السكوت وأسرف فيه على نفسه وعلينا، وهو الآن يؤوب بعد غيبة طويلة، وينشط بعد هدوء أوشك أن يكون خموداً، ويرسل إلينا بين حين وحين نسمات حلوة (مرة) فيها لين ورحمة، وفيها شدة وقسوة، وفيها دائماً صفاء يسرع بها إلى أن تمازج الأرواح، وتملأ القلوب روعة وسحراً، ما أكثر ما تغنى ابن أبي ربيعة في بطاح مكة وظواهرها، وما أكثر ما تغنى الأحوص في ساحات المدينة، وفي ضواحيها، وما أكثر ما تغنى العرجي في منازل بين هاتين المدينتين المقدستين، وما أكثر ما ملأ غناء أولئك الشعراء نفوس الأجيال حبا وحزنا وفرحا ومرحا وطموحاً إلى الجمال، وهؤلاء شعراء الحجاز المعاصرون قد أخذوا يصلون القديم بالحديث، ويردون إلى الحجاز مجده الفني العظيم، كان قدماء الشعراء الحجازيين يتغنون في مكة والمدينة، فلا يلبث غناؤهم أن يملأ الأرض الإسلامية رضاً وأملاً وحباً للحياة وشوقاً إلى ربوع الحجاز، ولم يكن أيام أولئك الشعراء من أدوات النشر ووسائل الإذاعة ما يملك المحدثون الآن) هذا ما قاله الدكتور طه حسين في مقدمته عن الشعراء الحجازيين، فماذا قال عن شاعرنا الأستاذ حسن القرشي؟؟ يقول طه حسين عن الشاعر القرشي:(ولقد سمعت بين من سمعت من الشعراء شعر الأستاذ الصديق حسن عبدالله القرشي، ولم أكد أسمعه حتى كلفت به وتمنيت أن أراه منشوراً يقرؤه الناس في الحجاز، وفي غير الحجاز من أقطار الأرض، والأماني تخدع أصحابها أحياناً، ولكنها تسمح لهم أحياناً أخرى، ويظهر أنها سمحت لي بشعر الأستاذ الصديق، فها هو ذا يهيأ للنشر وها أنذا أسعد بتقديمه إلى القراء، وسيقرؤونه وسيعلمون أنه قد آن لشعر الحجاز أن يحتل مكانه الممتاز بين الشعر العربي الحديث). وبعد قراءة حديث الدكتور طه حسين عن ديوان (الأمس الضائع) يحسن بنا أن ننصت إلى مقطع من قصيدة بعنوان (حسناء النيل) أعجب بها الدكتور طه حسين، وأورد أبياتاً منها في مقدمة الديوان، بعد إصغائه إليها يقول منها الشاعر حسن القرشي متغنياً بما شهد من جمالات النيل ومحاسنه التي تسكن الوجدان فتؤثر فيه:
أريقي على مسمعي النداء | وروّي حياتي رحيق الصفاء | جمالك يا فتنة الملهمين | أناشيد قد نغمتها السماء | ونجواك نبض فؤادي الحنون | وروح النعيم.. وعطر المساء | قد اشتعل الموج إلا ظلالا | تخالسه دفقات الضياء | وضوَّا فيه البريق الفريد | عقوداً من الماس تهدي السناء | أريقي على مسمعيَّ النداء | فقد رنح الروح هذا البهاء | وقد عشت في حلم ساحر | من الحسن والنيل.. ياللرواء! |
*** | الرحلة في منتجعات شاعرنا الأستاذ حسن القرشي رحلة ربما تطول وتمتد إلى آفاق فسيحة، فهو يملك يراعاً متنوع العطاء، كتب بحوثاً وقصصاً منها (فارس بني عبس) و (شوك وورد) و (أنات الساقية) وله أكثر من أربعة عشر ديواناً جمع عدداً منها في مجموعتيه الشعريتين المجلدتين، وبقي الكثير وما زال العطاء مستمراً طامحاً إلى التطور والتجديد وعمق الإبداع تستوقفنا إيقاعات جميلة، وتطربنا بعض الأبيات حينما نصغي لها بصوت الشاعر أو نقرأها بين السطور. | من قصائد الوجد الرقيق نقرأ هذه الأبيات ذات الإيقاع السريع من قصيدة بعنوان (عيناك) يقول فيها متأثراً بالشاعر نزار قباني: | عيناك أغنيتا حنان | سحر يهدهده افتتان | رنتا فأشعلتا دمي | وافتر فيَّ الخافقان | عيناك.. أم موجُ المحبة | ضلّ فيه العاشقان | أتراهما وتران إذ | يتناغيان فيذهلان | حلم الطفولة فيهما | غضٌّ كزهر الأقحوان | خفرٌ يرف عليهما | أبداً.. فيزهو الحاجبان | ويهل فجرٌ للسعادة | إذ يغرد طائران | عيناك لون النرجس الوسنان | مؤتلق الجمان | تعدان بالوصل الشهي | ويمطل الوعد الزمان | كسبا رهان القلب لكني | خسرت أنا الرهان | (رحيل القوافل الضالة) عنوان لمجموعة شعرية من المجموعات الصادرة للشاعر حسن القرشي، صدرت هذه المجموعة الشعرية عن دار العودة ببيروت عام 1983م، وقدم لها الأستاذ شفيق الكمالي، وفي مقدمته التقليدية بعنوان (القرشي صوت من الجزيرة العربية) يقول عن الشاعر وتجربته في هذه المجموعة: (حين يطالعك الشاعر حسن عبدالله القرشي يطالعك وجه عربي من عمق الجزيرة، وجه يذكرك بأصالة الموطن ورقة غنائية الشعر العربي، وتلك النبرة الصحراوية النبيلة، وحين يقدم القرشي قصيدة يختار نفسه، يقدمها تجربة وتاريخاً وهوى، وهو صوت تميز بين الأصوات وظل في الهم الوجداني والهم القومي واحداً ممن يشار إليهم بالمحبة، إن حساسية القرشي وتوقيعه على تناغمات الجزيرة لم يجعل شعره (بدوياً) بالمعنى المحدد، بل عربياً بالمعنى الحضاري (أناقة) وشمماً، وهذا الجمع بين الرقة وفحولة الصحراء هو بعض خصائص العربي وبعض بوحه وانتمائه). | وقد اشتمل ديوان (رحيل القوافل الضالة) على عدد من قصائد المناسبات الحضارية مثل قصيدة (جامعة العرب) في إحدى مناسباتها، و(تحية مجمع اللغة العربية) و (تحية السودان) وفي قصيدته التي يشيد فيها بالجامعة العربية بعد مرور خمس وثلاثين عاماً على إنشائها وهي منظومات المناسبات التي نشهدها كثيراً في حضور الشاعر لهذه المواقف المضيئة يقول الشاعر القرشي: |
بعد خمس وثلاثين أقاموا | عرساً فيه الأماني زحامُ | والغد الدافىء حلم ورؤى | يتصبّاها احتشام واقتحام | ورياح العرب تسجو مرة | ثم تعلو مرة.. وهي جهام | بعد خمس وثلاثين مضت | دربنا فيها افتراق والتحام |
*** | وفي تحية مجمع اللغة العربية بمناسبة عامه الخمسين يقول القرشي: |
كل يوم آية للناظرين | لك تُجْلَى يا عرين الخالدين | قف هنا فالخير ثرُّ كالحيا | حين يسقى الروض بالماء المعين | قف هنا تختلج الروح هوى | فرحة يبعثها النصر المبين | مجمع الفصحى أفديك فكم | لك في الخافق من مأوى مكين | هي خمسون.. ولكن ريعها | بالسنا الساطع قد أعشى القرون | هي خمسون.. ولكن فيضها | أخصب الفصحى بما أثرى المئين | لغة القرآن ما أعظمها | خير مذخور لدنيا ولدين | صنتها عن عبث فارتفعت | في الدنى عن كيد كل الكائدين | وتبدّت كعروس.. تاجها | خير تاج ضاء في أسنى جبين | أورقتْ بعد ذبول وزهتْ | كمرايا عكست مجد السنين | إيه حصن الضاد كم أثريتها | باصطلاح واشتقاق كل حين | تحصد اللؤلؤ من مكمنه | وتنقّي جوهر الكنز الدفين | فإذا الدرُّ نسيق رائع | كرحيق سائغ للشاربين |
*** | ما أروع وفاء الشاعر لأصدقائه وأصفيائه، وما أجمل أن يتفصّد هذا الوفاء في نسيج تعبيري صادق، وفي حياة الشاعر لحظات ملأى بالتأثر والتفاعل مع تجارب الشعراء الآخرين تنطبع ملامحه على معاناته الشعرية أحياناً، وعلى عواطفه وانفعالاته أحياناً.. وتمتزج بوجدانه غالباً، وكما تأثر الشاعر حسن القرشي بتجارب الشعراء القدامى من المبدعين كعنترة بن شداد والبحتري والمتنبي والشريف الرضي، فقد تجاوز ذلك إلى التأثر بعدد من الشعراء المعاصرين كالبردوني وعمر أبي ريشة ونزار قباني وقبلهم بأحمد شوقي وحافظ إبراهيم، وقد شارك الشاعر حسن القرشي في المهرجان الدولي الذي أقيم في القاهرة عام 1982م بمناسبة مرور خمسين عاماً على وفاتهما، وكانت المشاركة بقصيدة شعرية ألقاها الشاعر القرشي في المهرجان تذكرنا بقصيدة القباني في ذكرى رحيل الدكتور طه حسين، يقول القرشي فيها بعنوان (شوقي وحافظ): |
الشهابان في الذرا الخالدان | ما يزالان ملء سمع الزمان | ما يزالان شاغلي ذروة الفن | وأنس السمار والندْمان | نابها دولة القريض سنا الروعة | فيه.. وصاحبا الصولجان | كم أثارا مواجع الحسن فينا | كم أجدّا مستحدثات المعاني | رفعا من منارها لغة الشعر | تراث القرون والفرقان | قد ذكرناهما.. فهاج بنا الشوق | ملحاً للذكريات الحسان | ولدينا تموج بالسحر.. والفتنة | تسري كالروح في الأبدان |
*** | من خلال قراءة عابرة لعدد من قصائد شاعرنا الأستاذ حسن القرشي نلمح ذلك التناغم والانسجام مع تجارب الشعراء التقليديين ومدى إعجابه وتأثره بهم ونشهد طموح الشاعر لا يتوقف عند حد، يتجاوز الوقوف عند بحر معين أو لون واحد أو معان متشابهة، يتجاوزها إلى التفاعل مع الجديد في الصياغة والتناول والتعبير، يبدأ ذلك من القراءة إلى التأمل، ثم الإعجاب والتأثر، يقول الشاعر حسن القرشي في مقدمته المطولة التي نشرها في المجلد الأول من ديوانه: (بعد استقرائي نماذج من الشعر الحر، ومناهجه مارست كتابة جانب كبير من تجاربي الشعرية بأسلوبه، ونشرت الكثير من ذلك في صحفنا المحلية، ثم مجلتي (الآداب) و (الأسبوع العربي) ولقد أعجبت على سبيل المثال ببعض النماذج لرواد حركة الشعر الحر كالسياب، والأصدقاء البياتي، ونازك الملائكة وبلند الحيدري وصلاح عبدالصبور، وفدوى طوقان ومحمد الفيتوري ونزار قباني، وبالمناسبة فإنني أرفض تسمية الشعر الحر بالشعر الحديث، فإن الجدة لم تتخلّ ولن عن الشعر العمودي، وواقع الشعر العربي يؤكد ذلك، وما أصدق شوقي حينما قال: |
الشعر صنفان.. فباق على | قائله.. أو ذاهب يوم قيل | ما فيه عصري ولا دارس | الدهر عمر للقريض الأصيل |
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|