يُعتبر الدكتور عبد الله الغذّامي أحد أبرز النقاد العرب المعاصرين. ولا تكمن أهميته في عدد المؤلفات التي أصدرها، وهي متنوّعة وكثيرة في حقل النقد الأدبي، وإنما في اجتهاداته النقدية التي قادته إلى تطويع المفاهيم والنظريات النقدية الغربية الحديثة بما يتناسب مع خصوصيّة النصّ الأدبي العربي، ولا سيما الشعري، هذا بالإضافة إلى تملّكه هذه النظريات بما يسمح بقراءتها قراءة نقدية عوضاً عن استخدامها بطريقة آلية. كما تميّز الغذّامي باطلاعه الواسع على التراث النقدي والإبداعي العربي الذي شكّل في مختلف دراساته النقدية مخزوناً معرفياً استند إليه لقراءته قراءة حديثة تنقّب وتنتقد لاستكشاف مدلولات مختلفة كانت حتى زمن قريب خافية على سواه من النقاد العرب الحديثين.
تبنّى الغذّامي النقد الثقافي عوضاً عن النقد الأدبي، معتبراً أن النقد الأدبي على أهميته في الوقوف على جماليات النصوص (أوقع نفسه وأوقعنا في حالة من العمى الثقافي التام عن العيوب النسقية المختبئة من تحت عباءة الجمالي). والنقد الثقافي ليس بمفهوم جديد. وإنما هو مرتبط بالدراسات الثقافية التي رافقت تطور الدراسات الأدبية في بريطانيا، لا سيما تراث النقد الأدبي والثقافي الإنجليزي الذي بدأ مع ماثيو أرنولد في ستينات القرن التاسع عشر، والذي تطور مع ليفيز منذ ثلاثينيات القرن العشرين وحتى الخمسينيات، وصولاً إلى الباحث فنسنت ليتش الذي دعا في بداية التسعينات إلى (نقد ثقافي ما بعد بنيوي). ويقوم جوهر هذا النقد على الروابط القائمة بين الثقافة والمجتمع. بما في ذلك العلاقة بين ما هو مكرّس كأدب (عظيم) وبين المواقع السلطوية، إذ اعتُبر أن (المعايير الجمالية الكونية في ظاهرها، بل تكريس مجموعة من النصوص الرسمية المعتمدة، ما هي إلا نتاج عمليات اجتماعية وسياسية معيّنة متأصلة في ممارسات مجموعة من المؤسسات مثل مؤسسات التعليم والنشر والنقد الأدبي). بمعنى أن تشكيل تراث الأدب الإنكليزي المعتمد ما هو إلا نتاج (لآليات السلطة التي استلزمت استبعاد مجموعات معيّنة من الكتاب، مثل كتابات الطبقة العاملة، ومعظم كتابات المرأة، وكتابات الملوّنين والروايات الشعبية). كما يقوم جوهر هذا النقد على تقويض الحدود بين الحقول المعرفية المختلفة وعلى فكرة فقدان الأدب امتيازه التي تستدعي قراءة النصوص الأدبية إلى جانب أنماط الكتابة الأخرى باعتبارها واحدة من بين عمليات ثقافية عديدة (...) وقد شكّل ذلك علامة على التحوّل عن نظريات الأدبية literariness باعتبارها سمة جمالية ثابتة ومعتمدة إلى الأدبية باعتبارها تصنيفاً اجتماعياً يتم إنتاجه عبر ممارسات مؤسسات النشر والتعليم والنقد الأدبي. وقد أفاد النقد الثقافي خلال مسيرته، لا سيما في السبعينات، من نظريات عديدة كالسيميولوجيا، والماركسية، والنسوية، والتحليل النفسي، وما بعد البنيوية، ونظريات الأعراق والكولونيالية.
وبالعودة إلى الغذّامي فقد أفاد من فنسنت ليتش كما يشير إلى ذلك في كتابه (النقد الثقافي)، مضيفاً أن هذا الباحث أطلق على مشروعه النقدي مصطلح (النقد الثقافي) وجعله رديفاً لمصطلحي ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية، محولاً اهتمامه إلى الخطاب ومستنداً إلى منهج تحليل يستخدم (المعطيات النظرية والمنهجية في السوسيولوجيا والتاريخ والسياسة والمؤسساتية، من دون أن يتخلّى عن مناهج التحليل الأدبي النقدي). ولعل من أبرز خصائص هذا النقد تركيزه الجوهري على أنظمة الخطاب وأنظمة الإفصاح النصوصي كما هي لدى بارت وديريدا وفوكو.
إفادة الغذّامي من ليتش جعلته يطوّر مشروعه النقدي العربي واضعاً هدفين: أولاً، تحرير مصطلح (أدبي) و(أدبيّة) من قيد التصوّر الرسمي المؤسساتي الذي حصر الأدب بالخطاب المقرَّر من قبله وبناء على موروثه البلاغي والجمالي قديماً وجديداً، وثانياً الكشف عن عيوب الجمالي بما يفضي إلى إيجاد نظريات في (القبحيات)، أي إيجاد عيوب الجمالي وعلّله. وقد حدّد الغذّامي فهمه لـ (القبحيات) على أنه (كشف حركة الأنساق وفعلها المضاد للوعي وللحسّ النقدي).
غير أن الهدف الأول المتمثّل بتحرير مصطلح (أدبي) من قيد المؤسساتي بدا لدى الغذّامي الشرط الأول لتحرير الأداة النقدية. لكن من دون أن يعني ذلك القدرة على التحرير بمعزل عن التحويرات والتعديلات التي ينبغي القيام بها في المصطلح نفسه. كما أن إحداث نقلة نوعية للفعل النقدي من كونه الأدبي إلى كونه الثقافي يقتضي في مشروع الغذّامي القيام بعدد من العمليات الإجرائيّة، تبدأ بنقلة في المصطلح النقدي ذاته وتنتهي بنقلة في التطبيق، مع ما يتخلّل هاتين النقلتين من نقلة في المفهوم (النسق) ونقلة في الوظيفة. على أن تشمل النقلة الاصطلاحية عناصر الرسالة (الوظيفة النسقية)، المجاز (المجاز الكلّي)، التورية الثقافية، نوع الدلالة، الجملة النوعية، المؤلف المزدوج. لأن ذلك يشكّل المنطلق النظري والمنهجي لمشروع الغذّامي في النقد الثقافي.
وفي ما يتعلّق بعناصر الرسالة، استعار الغذّامي النموذج الاتصالي لجاكبسون في النظرية الأدبية القائم على ستة عناصر، لكن مع إضافته لعنصر سابع أسماه (العنصر النسقي)، معتبراً أن هذا العنصر يتيح المجال للرسالة ذاتها كي تكون مهيأة للتفسير النسقي.
أما انتقاله من مفهوم المجاز إلى (المجاز الكلي) فيهدف إلى تخطّي ثنائية الحقيقة - المجاز، أو حدود اللفظة والجملة، ليشمل هذا المفهوم المعدَّل الأبعاد النسقية في الخطاب وفي أفعال الاستقبال انسجاماً مع الوظيفة النسقيّة للّغة. فيما الانتقال من مصطلح (التورية) إلى مصطلح (التورية الثقافية)، ومن (نوع الدلالة) إلى (الدلالة النسقية)، ومن (الجملة النوعية) إلى (الجملة الثقافية)، ومن (المؤلف المزدوج) إلى (المؤلف النسقي) يغدو مع الغذّامي انتقالاً مفاهيمياً يتعدّى الحدود الشكلية للمصطلح لارتباطه بمشروعه النقدي الذي أراده بديلاً نظرياً وإجرائياً عن النقد الأدبي. إنه مشروع النقد الثقافي المستند إلى (الثقافة) بمعناها الأنتروبولوجي الذي يتبنّاه غيرتز Geertz، أي الثقافة بما هي آليات الهيمنة (خطط، قوانين، تعليمات...) المتحكّمة بالسلوك. وليس الثقافة بوصفها مجموعة من الأنماط السلوكية المحسوسة وحسب أو بوصفها مجموعة العادات والتقاليد والأعراف.
الفعل النقدي المستند عند الغذّامي بشكل رئيس إلى مفهوم (النسق الثقافي) يحدّد النسق من خلال وظيفته وليس من خلال وجوده المجرد لأن (الوظيفة النسقية لا تحدث إلا في وضع محدّد ومقيّد، وهذا يكون حينما يتعارض نسقان أو نظامان من أنظمة الخطاب أحدهما ظاهر والآخر مضمر، ويكون المضمر ناقضاً وناسخاً للظاهر. ويكون ذلك في نصّ واحد، أو في ما هو في حكم النصّ الواحد. ويشترط في النصّ أن يكون جمالياً، وأن يكون جماهيرياً).
أما وظيفة النقد الثقافي فهي الانتقال من نقد النصوص إلى نقد الأنساق، أي نقد المستهلك الثقافي وليس نقد الثقافة بالمطلق أو دراستها ورصد تجلياتها وظواهرها. لأن هذا النقد الثقافي يرصد الاستقبال الجماهيري لخطاب ما وإن كان غير متناسق مع تصورات هذا الجمهور عن نفسه وعن وظيفته في الوجود، إذ يكون الجمالي عندئذ (مخالفاً للعقلي، والمقبول البلاغي يناقض المعقول الفكري، وينشأ تضارب بين الوجدان الخاص الذي يصنعه الوعي الذاتي فكرياً وعقلياً حسب المكتسب الشخصي للذات مما هو تحت سيطرة المرء الفرد بما أنه من فعله الذاتي الواعي، وبين الوجدان العام الذي تصنعه المضمرات النسقية وتتحكم عبره بتصوراتنا واستجاباتنا العميقة).
لا شك أن النقد الثقافي الذي انطلق منه الغذّامي يؤمن بأن الإبداع الثقافي بأنواعه كافة، يعكس من خلفه نظام الثقافة التي ابتدعته. وهو في مشروعه هذا لم يهمل المنهجيات الحديثة في النقد الأدبي، وإن كان قد أحلّ النقد الثقافي مكان النقد الأدبي. وإفادته هذه جعلته يصف القراءة بأنها فعالية أدبية وليست مجرد مظهر ثقافي، (و) أننا نستطيع أن نضمن للنصّ حقه في أن يكون فعلاً أدبياً وليس قولاً إخبارياً. كما أفادته في إيلاء أهمية للشعرية (أو الشاعرية حسب ما ارتأى الغذّامي كترجمة لمصطلح oPoetique). هذه الشعرية التي تسعى حسب تودوروف في سياق دراسة العمل الأدبي واستنطاق خطابه النوعي إلى معرفة القوانين العامة التي تنظّم ولادة كلّ عمل، (...) (و) تبحث عن هذه القوانين داخل الأدب ذاته. ما يشكّل من العمل الأدبي في حدّ ذاته موضوع الشعرية طالما أن البحث يتّجه إلى (الخصائص المجرّدة التي تصنع فرادة الحدث الأدبي، أي الأدبيّة). لكن هذه الشعرية التي واجهت تقليداً أدبياً يطمس أدبية النصّ الأدبي لصالح الكاتب ومقاصده ونيّته وسيرته ونفسيّته... جعلت النصّ الأدبي نصاً مغلقاً، الأمر الذي رفضه الغذّامي مستنداً إلى مفهومي التناصّ والسياق وإلى المناهج البنيوية والسيميولوجية والتفكيكية، لا سيما كما طبقها كلّ من بارت وجاكوبسون ودريدا، كأساس لانبثاق التجربة الأدبية، ولقراءة النصّ قراءة فاعلة يشترك فيها القارئ والنصّ. ويعيّن الغذّامي في أكثر من نتاج خاص به حدود إفادته من المناهج النقدية الحديثة. لكن جوهر هذه الإفادة يقوم على المنبع السيميولوجي الذي يجعل الأدب حسب بارت قادراً (على أن يلعب لعبة الدلائل بدل أن يقوّضها، وأن يقذف بها في آلة لغوية ليس من الممكن التحكم فيها. ومجمل القول، قدرته على أن يقيم في الّلغة المستعبدة ذاتها تعدداً حقيقياً لأسماء الأشياء). بحيث أصبحت اللسانيات نفسها نمطاً أساسياً للتحليل البنيوي للسرد. لأن الخطاب، بوصفه مجموعة من الجمل، منظّم. و(يبدو بهذا التنظيم كرسالة للغة أخرى تفوق لغة اللسانيّين. لأن للخطاب وحداته وقوانينه وعلم القواعد الخاص به. وينبغي له بالطبع أن يكون موضوع لسانيات أخرى تتجاوز الجملة على الرغم من كونه مؤلفاً من جمل فقط).
وقد قاد هذا المنبع الّلساني إلى افتراق النقد الحديث عن النقد الكلاسيكي القائم على معايير الموضوعية والذوق والوضوح. وجرى بالتالي إيلاء أهمية كبيرة للوظائف في الحكي، وللشفرة الموجودة داخل النصّ، وما يتبع ذلك من رفض للمعنى النهائي للنصّ، ومن تبنٍّ لمقولات مثل مقولة موت المؤلف. تلك المقولة المجازية التي عبّر من خلالها بارت عن مفهوم جديد للقراءة يغدو بموجبها النصّ ذاته محور القراءة. لأن الكتابة، هي ملتقى المنظورات المتباينة وهي غير حاملة للحقيقة. على أن هذا الملتقى ليس الكاتب، بل القارئ الذي تُترك له مهمة الاستكشاف، نظراً لارتباط الكتابة بالصمت المولِّد لتعدّدية المعنى. الكتابة الجديدة يقول بارت، الكتابة الصامتة (تضع نفسها في وسط الصراخ والأحكام من دون أن تُشارك أياً منهما. فهي- أي الكتابة - قائمة بالتحديد من غيابهما).
إفادة الغذّامي من اتجاهات النقد الحديث، لا سيما مفاهيم السياق والتناصّ وتفسير النصوص تجلّت في كتابه (الخطيئة والتكفير)، وتحديداً في قراءة أدب حمزة شحاتة، حيث أظهر الغذّامي انسجاماً بين ما أفادته به المناهج الحديثة في النقد الأدبي وبين قراءته التطبيقية لأدب شحاتة. وذلك بخلاف ما هو عليه الأمر في قراءته الثقافية التي أهملت البنية الكاشفة للأعمال الشعرية. ما يدفعنا إلى التساؤل عمّا إذا كان همّ الباحث المتمحور حول (إحداث نقلة نوعية للفعل النقدي من كونه الأدبي إلى كونه الثقافي) وما يتبع ذلك من (انتقال من نقد النصوص الأدبية إلى نقد الأنساق الثقافية) يبرّر هذا الإهمال للبنية الكاشفة للأعمال الشعرية. كما يدفعنا ذلك من ناحية ثانية إلى التساؤل عمّا إذا كان كشف الغذّامي للأنساق الثقافية يبرّر إهماله لتاريخية هذه الأنساق.
في إهمال البنية الكاشفة للأعمال الشعرية
انطلق الغذّامي في قراءته لعمرو بن كلثوم ودريد بن الصمّة والحطيئة وجرير والفرزدق والمتنبي وأبي تمام ونزار قباني وأدونيس وسواهم من البحث عن النسق الثقافية التي تمررها نصوصهم الشعرية والتي تعيد إنتاج نفسها عبر الجمالي، كنسق (الفحل) ونسق (الطاغية). وهي أنساق تحمل منظومة قيم سلبية تشكل علامة في هذا النسق الشعري العربي قديمه وحديثه، وتستقر في الذهنية الثقافية العربية. الخلاصة الّلماحة التي توصّل إليها الناقد تتعارض مع فهمه البنيوي للنسق. لأن النسق في قصيدة ما أو في مجموعة من القصائد يتحدّد بحسب شمولية البنية الأدبية التي لا تقوم على مجموع العناصر التي تؤلفها وحسب، وإنما على العلاقات القائمة بين هذه العناصر والتي تنتظم في حركتها داخل هذه البنية. أما قراءة الغذّامي للنصوص فقد استندت استناداً شكلياً إلى عناصر النموذج الاتصالي لدى جاكبسون وإلى مفهوم التزامن البنيوي الألسني. وقد أفضى ذلك إلى إسقاط النموذج الذهني الموجود في وعيه على النسق الشعري الذي يدرسه، وذلك من دون أن يكون ما جرى استخراجه من النصوص قائماً في العمل نفسه، إذ جاءت قراءته انتقائيّة، تقتطع النصوص الشعريّة من سياقاتها، وتنتقل به من شاعر إلى آخر ومن عصر إلى عصر بحثاً عن (الجملة الثقافية) التي لا يستخرجها الناقد من سياقها الأدبي وإنما من انطباعاته هو حول القيم السلبية التي يتضمنها الخطاب العربي الأدبي وغير الأدبي (السياسي، الحزبي، الإعلامي...)، وذلك على الرغم من محاولته تبيان العكس. أي كونه حاول أن يظهر أنه ينطلق من النصوص لإطلاق أحكامه وتعميمها، لا سيما في استخدامه مصطلحات البنيوية الألسنية. كالقول بأن النصّ هو الرسالة، وأن الرسالة هي نظام معيّن من المفاهيم والشفرات، وأن محاولته ترمي إلى تحديد أنماط خطابية من خلال التعرّف إلى خصوصية النظام المهيمن عليها في السياق الثقافي للنصوص...إلخ.
لقد وضّح الغذّامي أكثر من مرّة أن مشروعه النقدي الثقافي يطمح إلى تحرير مصطلح الأدبية من قيد التصور الرسمي المؤسساتي. وذلك بإعادة النظر في أسئلة الجمالي وبالعمل على كشف عيوب الجمالي. لكن الحصيلة أنه تمّ تجاوز المستويات المتعدّدة للأعمال الأدبية والعلاقات التي تربط عناصرها وتراتبها كما تم تجاوز كيفية إداء هذه الأعمال لوظائفها الجمالية والشعرية. ولعلّ تجاوز هذه الأدبية أدى إلى تجاوز البنية الدلالية للقصيدة الشعرية بوصفها حصيلة مجموعة من البنى المتمثّلة في البنية الإيقاعية والبنية التركيبية والشعرية والبنية التخييلية التي تصل إلى ذروتها في المستوى الرمزي الكلّي. وما رآه الغذّامي من (قبحيات) انطلاقاً من منهجه الثقافي قد يكون في البنية الدلالية للقصيدة أحد إمكانيات نظامها اللغوي، من حيث مكمن الجمال الخارج عن الشروط الجمالية المؤسساتية. لكن الغذّامي لم يلتفت إلى ذلك، وإنما اكتفي ليس فقط باقتطاع النصوص الشعرية من سياقها، بل باقتطاع أبيات شعرية من القصيدة بغية دعم حججه.
(تصوير الحقّ في صورة الباطل) كجملة ثقافية - نسقية عند ابن المقفع أضحت لدى الغذّامي، على سبيل المثال، الأساس النظري للبيان اللغوي العربي وللذات الثقافية العربية برمتها. في حين يقتضي هذا التعميم، ومن ضمن النقد الثقافي نفسه، بناء شبكة العلاقات والتماثلات بين عناصر البنية الشعرية أو المقامية أو النثرية، عوضاً عن الاكتفاء بإطلاق أحكام ومحاولة إثباتها كيفما اتفق. ولعلّ هذا الخلل المنهجي قد أفضى إلى تناقضات ومغالطات مختلفة طالت النقد الأدبي الذي ضلع فيه الغذّامي والنقد الثقافي الذي نجح إلى حدّ بعيد في بلورته على المستوى النظري دون التطبيقي. ومن أبرز هذه المغالطات: تناقض قراءات الغذّامي مع بعض قناعاته النقدية، والمغالاة في إعطاء الشعر دوراً في رسم سلوكنا العربي.
1- تناقض قراءات الغذّامي مع بعض قناعاته النقدية: نذكر في هذا السياق قناعة الغذّامي بمقولة (موت المؤلف) البارتية لا بمعنى انغلاق النصّ على ذاته على طريقة الشكلانيّين، بل كمقولة وضعت حداً للمناهج النفسية والاجتماعية في دراسة الأدب بسبب تجاوزها العمل الأدبي نفسه، وأعادت الاعتبار لهذا العمل بوصفه بنية كلية تحمل دلالاتها الخاصة، حيث يموت المؤلف ويتحوّل التاريخ والموروث إلى نصوص متداخلة، ويتمّ الاحتفال بمولد القارئ والعمل الذي أصبح الآن يدعى (نصّاً) صار يتفجّر إلى ما هو أبعد من المعاني الثابتة، إلى حركة مطلقة من المعاني اللا نهائية، تتحرَّك منتشرة فوق النصّ عابرة كلّ الحواجز، إنه الانتشار كما يسمّيه بارت. غير أن ما نلاحظه أن الناقد سرعان ما يتخلّى عن قناعاته النقدية هذه متطرقاً إلى السلوكيات الخاصة بأصحاب النصوص وإلى سماتهم الشخصية على طريقة النقد الانطباعي القديم، الذي لا يخلو من الأحكام الأخلاقية للناقد. فنراه ينتقد سلوك الفرزدق أو أدونيس - على سبيل المثال لا الحصر - معتبراً أن هذه السلوكيات هي مقولات تحمل دلالات نسقية عن الفحولة بكلّ ما تنطوي عليه من تأليه الذات ومن (طبقيات ثقافية). فيذكر الغذّامي أن الفرزدق استكثر على الشعراء قول أبيات هي أليق بالكبار فكان يأخذ الأبيات التي تعجبه منهم بحدّ السيف، أما أدونيس، ونقلاً عما رواه معدو معجم البابطين للشعراء، فقد اشترط أن يختار هو الأسماء التي تصحبه في المعجم، وما لم يتحقق ذلك فإنه يرفض المشاركة فيه.
2- المغالاة في إعطاء الشعر دوراً في رسم سلوكنا العربي: تمثّل أحد أبرز أهداف الغذّامي في مشروعه الثقافي في نقد الأنساق المضمرة التي ينطوي عليها الخطاب الثقافي بكلّ تجلياته وأنماطه وصيغه. وعليه، ترانا نتساءل عمّا إذا كان مثل هذا الهدف يسمح بالضرورة بالمغالاة في إعطاء الشعر دوراً في رسم سلوكنا العربي؟ وهي مغالاة برزت بشكل كبير خلال نقده الشاعر أدونيس القائل أن (لا حداثة في الثقافة العربية إلا في الشعر).
انتقد الغذّامي مقولة أدونيس هذه، لكنه في نقده هذا بالغ في منح الشعر دوراً في تكريس عيوبنا الثقافية. كقوله مثلاً: (كيف نتوقع حداثة اجتماعية وفكرية إذا ما كان النموذج المحتذى هو نموذجاً شعرياً - فحولياً - رجعياً. يقوم على إحلال فحل محل فحل، كما هو لبّ الدعوة الأدونيسية، ويضع الشاعر في الأصل محل الشعر، كما يقرّر أدونيس، وكأنما يضع الزعيم الفحل محل الوطن، ويضع الذات محل الموضوع، ويقول صراحة: أنا الشاعر، إذن: أنا الفورة، ويضع الحق مع الشعر، ويضع الشكل محل السؤال).
المغالاة في إعطاء الشعر دوراً في رسم سلوكنا العربي إلى حدّ القول بأنه حجب فرص التغيير بعد هزيمة عام 1967 أوقع الغذّامي في منزلق ثانٍ يختلف عن المنزلق الأول الذي لخصّناه بانتهاك النصوص الشعرية وأدبيتها. ويمكن ردّ هذا المنزلق إلى انتهاك الواقع الاجتماعي الثقافي. بحيث أُطلقت تعميمات على هذا الواقع انطلاقاً من تمثلاته الأدبية والشعرية تحديداً، وانطلاقاً من إهمال تاريخيّة هذه التمثّلات الذي أفضى إلى مماثلة البنية الثقافية المعاصرة بالبنية الثقافية الجاهلية وعصورها الّلاحقة. فجرت المماثلة بين القصيدة الحديثة والقصيدة العائدة لتلك العصور، وتمّ التغاضي عن المستوى التعاقبي (الدياكروني) للأعمال الشعرية من حيث هي هدم لأبنية قديمة وتأسيس لأبنية جديدة يختلف القانون الذي يحكم نسقها عن القانون الذي حكم نسق الأعمال السابقة. ولئن كان ذلك قد أدّى إلى حضور الذات الناقدة المجاوزة للزمن، فإنه في الوقت عينه أدّى إلى اختزال الاجتماعي بالثقافي وحده. في حين أن النشاط الثقافي بأشكاله المختلفة، فلسفية، فنية، أدبية، يحقق بنية متلاحمة دالة، تنبع دلالتها كذلك من الاجتماعي. ما يقتضي دراستها كبنية غير منغلقة على ذاتها، بل كبنية يتم الانطلاق منها إلى التاريخ والعكس. والقول بالاجتماعي يعني حكماً التاريخية التي ألغاها الغذّامي، سواء في قراءة النصوص التي لم يوضح وظيفتها في البنية الاجتماعية الأوسع منها، أو في قراءة النسق الاجتماعي المحيط بها.
الأعمال الشعرية التي باتت مع الغذّامي مجرد حجة للبرهنة على مفاهيم ومقولات (الفحولة)، (الطاغية)، (شعرنة الذات العربية)، (والتمركز حول الذات)... قادته إلى الحكم بأن هذه السمات هي سمات نسقية زرعها الشعر في الشخصية العربية حتى أصبحت الثقافة العربية تعبيراً عن (اللا فاعلية واللا عقلانية). ولعلّ هذه الأحكام التعميمية تشكّل بحدّ ذاتها انتهاكاً للواقع الاجتماعي الثقافي المضاف إلى انتهاك النقد الثقافي الغذّامي للنصوص الشعرية. وهو يشير إلى مغالطات منهجية تخصّ قراءة الواقع نفسه وتظهر افتقار الغذّامي لأدوات البحث المنهجي الذي تفترضه القراءة الاجتماعية. لأن استخلاص الأحكام العامة حول ظاهرة ثقافية اجتماعية معينة يفترض مقاربة إحصائية وتحليلية قد تسمح ببناء معرفة ماكرو - سوسيولوجية تتعلق بالظاهرات العامة أو أخرى ميكروسوسيولوجية تتعلق بالظاهرات الأكثر خصوصية وتمايزاً. كما أن القراءة السوسيولوجية العلمية لبنية اجتماعية ثقافية ما، حديثة أو قديمة، تفترض في حال أردنا تلمسها من خلال أعمال مكتوبة، وجود وقائع موضوعية في هذه الأعمال التي يجري الاستناد إليها. وهذا ما ليس متوفراً في الأعمال الشعرية وإنما هو متوفر في أعمال المؤرخين وغيرها من الأعمال التسجيليّة. لأن غالبية المعلومات التي تتضمنها مثل هذه الكتب تنتمي إلى حقل الممارسة الاجتماعية. ولئن كانت مقاربة الأعمال الشعرية لاستخلاص أحكام عامة حول ظاهرة ثقافية اجتماعية ما ليست مستحيلة في إطار النقد الثقافي، إلا أن هذه المقاربة لا بدّ لها أن تكون مضبوطة منهجياً. ولعلّ إيرادنا للتحفّظ المنهجي الذي غالباً ما يقوم به أي باحث اجتماعي قد يسهم في توضيح الخلل المنهجي الذي وقع فيه الغذّامي عند إطلاق أحكامه المعياريّة على المجتمع العربي والشخصية العربية خلال نقده الثقافي. ومن دون أن يعني ذلك مماثلتنا بين دور الناقد الأدبي أو الثقافي وبين الباحث الاجتماعي.
ففي كتابه (مدخل إلى سوسيولوجيا التراث) الذي استند فيه صاحبه فريديريك معتوق إلى كتب الطبقات والسير لقراءة التراث، وضّح هذا الباحث الاجتماعي أن استناده إلى كتب الطبقات والسير لا يسمح بكشف كامل البنية الاجتماعية، لأننا (نجد أنفسنا محصورين في قفص طبقة الأعيان، ضمن نظرة هي نظرة الأعيان لأنفسهم)، ذلك أن المؤرخ يعتبر نفسه منهم، يؤرخ لزملاء له في الجاه الاجتماعي وفي إطار مفاهيم مصبوغة بالأخلاقيات الدينيّة. حصر الاهتمام بالأعيان، الذي هو أمر طبيعي بالنسبة إلى المؤلف، يضعف من قيمة كتابه السوسيولوجية إذا أردنا أن ننطلق منه لتكوين صورة شاملة عن مجتمع ذلك الزمان. لكن إذا اكتفينا بمقاربة ميكروسوسيولوجيّة فئة من الفئات الاجتماعية أو طبقة من الطبقات الاجتماعية كما كان يُقال سابقاً فإننا أمام كمية مهمة من المعلومات تفيدنا وتفيض عنّا.
إن مثل عملية القطع السوسيولوجي هذه المطلوبة من الباحث الاجتماعي بوصفها الشرط الأول للكشف عن بعض أوجه البنية الاجتماعية تحيل بدلالتها على الحيطة المنهجية التي لم يلتفت إليها النقد الثقافي الغذّامي، إذ هو مارس قراءة استقرائية للنصوص والأنساق الثقافية منطلقاً من الحالات الخاصة، أو من الخاص إلى العام، لكن هذه القراءة لم تخلُ من الاعتباطيّة والانتقائيّة سواء في اختيار النماذج الخاصة أو في إطلاق الأحكام العامة. ولأن الأمثلة كثيرة في هذا الخصوص، نكتفي بالإشارة إلى السمة الغالبة على النماذج الخاصة المنتقاة من قبل الباحث وخضوعها للمنطق الإخباري وليس التحليلي. وهو منطق إخباري نزع عن النماذج الخاصة دورها كحجج وبراهين. فنراه مثلاً، ينطلق من حالة فردية كعزوف الخليفة عمر بن عبد العزيز عن تكريم الشعراء المدّاحين، وما جرّه ذلك من تغيير في مسلك الشاعر جرير لاستنتاج أن (موقف عمر بن عبد العزيز من المؤسسة الشعرية هو علامة على ما يحمله من تصور طموح يتمثّل في رغبته في الإصلاح الإداري والاجتماعي، ورسم علاقة إسلامية إنسانية لرابطة الحاكم مع المحكوم، وحقوق العدالة). لكنّ الناقد سرعان ما يلجأ إلى إطلاق نظرية عامة تستند إلى هذه الحالة الفردية، ومفادها أن (الصلة ما بين الثقافة ونظرية الحكم صلة عضوية، وبمقدار ما يكون السلطان في خانة الممدوح فإن ثقافة المديح هي المتحكّمة في نظام الرؤية والمسلك، وتتشعرن المؤسسة. وإذا ما تخلّى الحاكم عن صفة الممدوح الشعري فإنه يكون أقرب إلى الإنسانية والعدالة، كما يؤكد مثال عمر بن عبد العزيز).
ونحن وإن كنا لسنا في صدد مناقشة هذه النظرية، فلأننا ننتقد المنهج الذي استند إليه الغذّامي في نقد الأنساق الثقافية، لا سيما في استناده إلى هذا المنطق الإخباري أو الحدثي الذي يحصر الواقع الثقافي في ظاهره، أي في التجربة المباشرة في ظلّ غياب الأدوات النظرية التي تستخرج الواقع من ظاهر يحجبه. لأن الواقع كمادة للمعرفة التاريخية الاجتماعية الثقافية ليست حالات مفردة ومتناثرة، بل مجموعة مترابطة من العلاقات المولّدة لهذه الحالات الفردية. وهو في منهجه الإخباري لم يخضع الأعمال المقروءة أو أنساقها الثقافية للفحص والتحليل والمقارنة، كما أنه - على سبيل المثال لا الحصر - لم يقارب موضوعه مقاربة كمّية إحصائيّة من شأنها دعم ملاحظاته حول بعض أوجه البنى الاجتماعية - الثقافية العربية السابقة وأنساقها. لذا نقول إن خلخلة الأنساق الثقافية وفضح عيوبها عكست جرأة الناقد دون أن تعكس ممارسة نقدية منهجية منسجمة مع النقد الثقافي كما فهمه هذا الناقد العربي المميّز وكما تبنّاه.
* دكتوراه في علم الاجتماع، باحثة اجتماعيّة وناقدة روائيّة