واقع الفن التشكيلي المحلي (17) هل يتحول الفن التشكيلي إلى أداة تشويه للجمال؟ محمد المنيف
|
في نهاية الحلقة الماضية، أشرنا إلى أننا سنتطرق لبعض نماذج التشكيل السعودي التي نعني بها أصحاب التجارب ذات الاتجاه الحديث في اللوحة التي لامس فيها بعض التشكيليين الكثير من الإبداعات ضمن إطار التجريب، مع احتفاظنا بحق ودور مختلف الأساليب الأخرى التي تثري الساحة ويجد كل منها التقدير والإعجاب مع أن من يتجه نحو التحديث أو التجريب يبقى في حدود الجمهور النخبوي المتخصص أو المكتسب للخبرات الإبداعية العالمية والمتتبع لكل تبدل أو تغير يحدث لها، حاملين معهم القناعة بأن دخول هؤلاء الفنانين لمثل هذه النقلة الجديدة لم يأت عبثاً أو اندفاعاً مع مجرد التبعية والتقليد بقدر ما يراها الكثير من تراكم خبرات آتية من مختزل كبير، مؤطرة بروح المواجهة بين مرتكزات الموروث والبحث عن سبل المغامرة والتجريب والتجديد بشكل مدروس منطلق من قاعدة متينة من الوعي بما سيقدم عليه الفنان مع إبداعه لا أن يزج به في بحور لا يجيد السباحة فيها.
فقد برزت العديد من الأسماء بعد أن وضع أصحابها إبداعهم على قاعدة راسخة، بعد اكتشافهم أهمية الهوية ووجود الخصوصية المكانية والزمانية في أعمالهم مع تمازج وإيجاد علاقة بالجديد في عالم الفنون التشكيلية في فترة ليست قصيرة منذ أن تعرف كل منهم على أهمية الحذر عند التعامل مع أي توجه أو مؤثر غربي قد يلحق الأذى برسالتهم أو أن يضفي عليها صفة التابع ويبعدهم عن صفة المجددين أو المطورين لإبداعه بإحداث نقلة كبيرة في أشكال التعبير الحديث بكل مسمياته مع بقاء مرجعيتهم بكل مصداقية وأمانة.
نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر خصوصاً من لهم أثر فاعل على الساحة محلياً وعربياً الفنانين عبد الرحمن السليمان، عبد الله الشيخ، عبد الله حماس، عبد الله إدريس، عبد الله فلمبان، عبد العزيز عاشور، سمير الدهام، فيصل المشاري، عبد الله الشلتي، عبد الله شاهر، زمان جاسم، عبد العزيز الناجم ومن الفنانات الفنانة علا حجازي، ووفاء بهاني، مع التحفظ على أسماء أخرى لامست التجديد ولكنها جانبت الاحتفاظ بالهوية والمرجعية التراثية فاندفعت خلف التيار، حاول أولئك الفنانون القفز على الحواجز دون استعداد لياقي متكامل مما جعلهم في حيرة في كيفية التعامل واتخاذ القرار بين الاستمرار أو التراجع.
السؤال المطروح
بعد هذه الإشارة العابرة عمّا حدث ويحدث للفن التشكيلي العالمي ووصول الكثير منه إلى محيطنا ومن ثم استعراضنا لنماذج من الأسماء البارزة نعود لنطرح التساؤل الأخير حول معرفة بعض الفنانين لما تعنيه فلسفة التجريب وعن إمكانية وصولهم إلى كيفية تسخيره لمنجزهم التشكيلي، باعتبار أن هذا الشكل أو الإطار الجديد حينما يؤخذ على علته يعتبر نمطاً مغايراً للسائد العام في المعارض والأعمال ولدى المتلقي.
وان في مثل هذا التوجه يعني ولوج الفنان واقتحامه لأبعاد فكرية وتقنية جديدة قد يترتب عليها تجاوز المعهود كما أشرنا، خصوصاً إذا كان تجاوزاً غير عقلاني، أما إذا كان أكثر تعقلاً وأكثر كشفاً للصالح منه فسوف يدفعنا للإعجاب والتقدير واحترام ما يقدمه الفنانون من أعمال نفهم جميعاً أنها توجه أصبحنا مطالبين به لعصر تتابعت فيه مصادر التواصل مع الآخر على أن يحمل رسالتنا الإبداعية المؤطرة بهويتنا الخاصة والحرص على عدم ركوب موجة التمرد باسم التجديد التي قد توقعنا فيها الكثير من السلبيات التي نراها واضحة المعالم في تجارب الآخرين وما تمخض عنها من حالات سوداوية الشكل والمضمون.
ومع كل تلك المساهمات نحو الأخذ بالفن التشكيلي للمنافسة إلا أنه لا يزال يبحث عن مرسى وشاطئ أمان ومساحة تتيح لنا إعادة النظر ومعرفة إلى أين تتجه بنا سفينته من بين مفترقات الطرق؟ ومنها:
* إحداث الزوبعة حول الذات بطرح الغريب الذي لا يتلاءم مع واقع المحيط.
* التقليد والتبعية لمطابقة ملامح وتقاسيم الوجه الآخر.
* أخذ ما يتناسب مع الوقع العام من قيم وتقاليد وموروث بصري وفكري لإيجاد التوازن.
فالذاتيون هنا هم الفئة الباحثة عن أي وسيلة لفت نظر تجاههم ومنها لاحداث زوبعة من الغبار الملون، سعياً منها للخروج من منطقة شبه الظل ورغم ذلك فهي لم تطال الضوء ولا هي بقت في الظل وأراحت واستراحت، هذه الفئة تتعامل مع إبداعها بطرق غريبة وعجيبة تكشفها حالات عدم الاستقرار، إذ تتبدل يوماً بعد يوم، تتقدم خطوة يشوبها التردد وتتراجع خطوات كثيرة، تمتلك القدرات وتجهل توظيفها تبهرها العبارات الرنانة وتجذبها علامات التعجب والاستهجان في أعين الآخرين، اكبر قضاياها ومشاكلها أنها لا تستطيع تفسير ما تقوم به وتقدم أعمالاً معتمدة على الصدفة وأخرى على ما يعود به العقل الباطني من ذكريات ومواقف مشوشة وغير واضحة المعالم، فتنطبع على فعلهم الإبداعي الذي يُولد مشوهاً لا يقبل النمو أو المعالجة، فيصبح نشازاً في سياق سمفونية الإبداع التي يجيد تأليفها وتوزيع مقاطعها ويعزفها.
* الفئة الثانية هي المتجهة نحو مطابقة ملامح وتقاسيم الوجه الآخر عبر الطريق الذي سلكه الجميع وخصوصاً في بدايات تجاربهم وتأثرهم بالكثير من الأعمال السابقة التي تمثلها الأساليب الفنية القديم منها والحديث، إلا أن البعض يعود سريعاً والبعض الآخر يمر بمرحلة من التردد، أما القلة فهم من يبتعد كثيراً نحو العمق فيصبح في قلب تلك المؤثرات ومسالكها المجهولة، أما الأكثر ذكاء وفطنة فهم من يراقب عن بعد مقارناً بين ما يمكن أخذه وبين ما يستحق الرفض، هؤلاء حققوا الجمع بين محاسن الجديد في التجريب والبحث عن مصادر التطور التقني مع الاحتفاظ وخصوصيته.
* أما الفئة التي تقف عند مفترق الطرق واختارت لها طريق التوازن وأخذ ما يتناسب مع واقعنا العام من قيم وتقاليد وموروث بصري وفكري مكنهم من رسم مسار يحمل الخصوصية لكل منهم، متخذين من اللغة البصرية منطلقاً مبنياً على قواعد لا تختلف عن القاعدة في اللغة المقروءة عبر تلمس إرثها البصري التاريخي مع قولبتها وتفعيلها لتصبح ذات تواصل ذهني مع المتلقي أي كانت لغته أو ثقافته بكل رموزها وايحاءتها ومفرداتها المنتقاة مما يحيط بنا من دلالات ورموز إذا اعتبرنا أن الوحدة الزخرفية النابعة من ارث ثقافي إسلامي تصبح مفردة تحمل عنواناً وهوية يقاس عليها كل ما له علاقة بهذا المورث الكبير في مختلف مظاهر الحياة.
خروج الفن التشكيلي عن مساره
ومن المؤلم أن نرى الفن التشكيلي يخرج عن مسار نتاجه الثقافي الحضاري المساند للإنسان بمساهمته في بناء المجتمعات، إذ تحول إلى أداة للتشويه على أيدي بعض أبنائه وسعيهم إلى إيجاد فجوة من خلال العبث الفني إرضاء لرغبات الغريب دون شعورهم بالانفصال عن مجتمعهم الحقيقي المحيط بهم، وأن يكونوا أمناء على رسالتهم السامية، ومن المؤسف أن يكون الفن التشكيلي المحلي أيضا مرتعاً لتجارب الغرب التغريبية وبما يزعمون من تجديد وتبني البعض للحملات التي أحدثت قطيعة مع الجمهور وأضفت بظلالها المعتمة التي تشير إلى نهاية غامضة لهذا الفن لافتقاده أصوله وقيمه ومقوماته ومضامينه ومن ثم علاقته بالمتلقي، ومحتواه الذي يشكل عند الذائقة لغة بصرية تنقل فكراً وثقافة وتاريخاً ليصبح خالياً من أي دلالات إلى مصدر من مصادر السخرية والتهكم.
هذا الواقع أو الحال لم يكن وليد الصدفة، بل جاء نتيجة قيام المعنيين بالفنون والإبداعات الأدبية في الولايات المتحدة الأمريكية بإعلان المنافسة مع الدول الأوروبية وجعل نيويورك عاصمة ثقافية بدلاً من باريس تحت شعار الإبداع الحديث القائم على الكثير من المتناقضات التي تتشكل منها ثقافات الشعب الأمريكي وحينما فشل البحث عن إيجاد قاسم مشترك بينها خرجوا لنا بالانحراف في كل شيء، إضافة إلى أن الحروب التي عاشتها أمريكا كانت سبباً مهماً في هذا التوجه، فأخذت على عاتقها صناعة وتصدير هذه الظواهر الغريبة والسعي لتأسيس فن أمريكي جديد، فأصبحت بذلك حضناً آمناً لنوعية من الفنانين والمثقفين الهاربين من مختلف دول العالم وفي مقدمتها دول أوروبا ما تبع ذلك من تأثر الكثير رغم بعدهم عن المركز واكتفائهم بما يصلهم من معلومة أو بضاعة بصرية ليتحولوا من خلالها إلى تابعين.
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|