عبادة التاريخ.. حضارة.. أم تخلف؟!(1-4) سهام القحطاني
|
في البدء كانت صرخة الوجود التي حطمت حاجز الأعجمية الفكرية وتنفست الضوء المحرر من عبودية شجر الأدغال.. وستر عورة الجهل برداء العلم.. ثم خلقت اللغة من الضلع الأيمن لإرادة الإنسان في تعريف الأشياء هروباً من حصرية كهوف الجبال ووثنية الخطاب الاشاريّ لتبادل خبرة المعرفة.. ثم ولد التاريخ الابن البكر والشرعي للغة.. حينها أمن الإنسان على ميراثه المعرفي، ومع التاريخ اختلف مفهوم الإنجاز وهدفية صياغته والتعامل مع الآخر إنتاجاً ومنافسةً وتكويناً للحضارة المخصوصة، لقد أصبح سلطة رسمية في تشكيل ذاكرة الشعوب لحضارتها السلفية متجاوراً مع طوطم الإله المصنوع من حكايات الماضي والسلف الذي نجبر على عبادته وتقديسه باتفاق مبرم أو ضمني لارتباطه الإنمائي بنضوجنا، ثم نتشكل داخله كهوية أحاية منفصلين عن التجربة الحضارية الجديدة..!!
التاريخ أيها السادة ليس طوطم عبادة، إنه تجربة إنسانية وموقف تعليمي، إنه كما يقول مارتن لوثر: (يرينا أنفسنا على حقيقتها وكأنما ننظر في مرآة تنعكس عليها خلجاتنا، وإنه لا بد من الاستفادة منه في سلوكنا واتخاذه معياراً نحكم على أعمال الأفراد على اختلافهم حتى يكون أقرب إلى العدالة) ولا شك أن الرؤية النفعية أو الاسكاتولوجية للحادثة التاريخية من الأسس الأولى في تكوين التاريخ الإسلامي خاصة المنبثق من مرجعيّة قرآنية، فابن خلدون يعرف التاريخ (إن فن التاريخ فن عزيز المذهب شريف الغاية إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم سيرهم والملوك في دولهم وسياستهم حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والأنبياء والدنيا).
وقد حاول مؤرخو الإسلام بلورة مفهوم التاريخ ضمن صياغة غاية مغزى العظة والعبرة فربطوا دراسة التاريخ بالهدف الدنيوي والغاية الاخروية، انطلاقاً من هدفية السرد التاريخي في القرآن الكريم القائم على غاية الهدى والذكرى والعظة والعبرة عبر مشهد تجربة الحدث المحكي، والسرد القرآني إجمالاً لا يقصد توثيق حالة لأنها ليست هدفاً في ذاتها، بل اكتشاف مغزى الحالة، لذا يوجز في ذكر مكان وزمان الحادثة التاريخية لأن ليس لهما دور في تفعيل الأثر الوجداني للمتلقي ، فالحكاية التاريخية في القرآن لا تخرج عن كونها وسيلة تعليمية، إذن التاريخ معرفة كشفية للفعل الإنساني السوي والشاذ، إن الأثر الناتج عن قراءة التاريخ أو ما نسميه بالعظة والعبرة، هو مكون المرجعية المعيارية نحو الأشياء ومؤلف مقاييسنا النقدية للمختلف خارج التجربة التاريخية التي بلورناها كأنموذج للتطبيق، وبذلك فهو معين في إيجاد الربط بين ثنائيات التجربة الإنسانية المستجدة، فالتاريخ ليس انعكاسا للفعل الماضوي فقط انه فتح لرؤى جديدة في تشكيل تجربة إنسانية، نعم لا تنفصل عن سند المرجع الماضوي، وفي ذات الوقت يجب أن تتحرر من عقدة تقليد التجربة القديمة، فهذا الأمر يساعدنا على الانعتاق من عبودية التجربة التاريخية العظيمة التي نستبدل بنجاحها تقويم التحصيل الضعيف لتجربة الحاضر واستحضارها في تعليل ضعفنا الحضاري بين الشعوب، ونعتمد في اجترارها على انتعاش حالة الخمود الحضاري، الذي يغيب بدوره الفكر الخلاق والفعل المنجز المتميز ويرفسنا بظلال ذاكرته نحو غروب التخلف، إن التناص في التجربة الإنسانية بأبعادها الزمانية الماضي والحاضر والمستقبل، هو أمر حتمي باعتبار أن المصدر الانفعالي ثابت الطبيعة، المؤثر في خلق السلوك الإنساني، وإن كانت النسبية ها هنا شكلانية لا مفهومية غالباً، لذا فتقديس التجربة التاريخية مجردة من مغزاها التعليمي غير ذات معنى، فالتاريخ دراسة الحضارة، والدراسة تعلمنا كيف نستفيد من التاريخ في المنجز الحضاري الجديد، يعلمنا كيف نقرأ التجربة الماضوية كفكر وإنجاز وعظة وعبرة، فالأثر الرجعي لقراءة التاريخ ليس وجدانياً بل وسلوكياً وهذا ما يحررنا من نظرية عبادتنا للتاريخ كونه الأنموذج الأمثل لحضارة قوية كانت تحتوي إنجازاتنا الماضوية نستجدي بسيرها الذاتية عطف ظلم التخلف الذي يغرقنا بسواده، بدلاً من العمل على إنجاز تجربة حضارية جديدة، إن إشكاليتنا كعرب ومسلمين، أننا ننظر إلى تاريخنا كطوطم مقدس كلما سنحت لنا الفرص تمسحنا وتبركنا به وطوفنا حول كعبته ونحن نبتهل بحكايات الماضي وإنجازاته، حتى تحول داخلنا إلى قانون وسلطة حجز عنا شمس الحضارة الجديدة.
وبعد.. عندما نقف فوق تل معشوشب أو مجدب لا فرق، فنحن نرى كل الاتجاهات المختلفة للشروق والغروب، لكن عندما نحتمي من الآخر بوجه مخصوص من ذلك التل فنحن عادة لا نرى سوى الغروب فقط، التاريخ ليس فعل احتماء من الآخر بل اكتشاف للأنا والآخر (ما زلنا بحاجة إلى استكشاف أعمق للجوانب الحضارية الشاملة من فكرنا وتراثنا وتاريخنا، الذي يختزل لنا الشيء الكثير ، وينتظر من يستكشفه) كما يقول المفكر الإسلامي صاحب نظرية تعارف الحضارات زكي ميلاد.. والأمم تتساوى في تقنين احتمائها بسلطة تاريخها، والدفاع عنه من خطر الآخر، أليس هذا ما أراد تعليمنا إياه صموئيل هنتيجون بنظرية صدام الحضارات، لقد استدعى مفهومه للحضارة المخصوصة بروح التاريخ المخصوص، نابذا باقي الحضارات التي قاسها بكيل القوى السياسية في حضور التحول الحضاري للشعوب وكأنه يعرض تواريخ الأمم الأخرى داخل سوق نخاسة ويتهمها بالعربدة حيناً وبالجهل حيناً، ومع أن نظرية صدام الحضارات هي نظرية سياسية في المقام الأول، قد يدهش البعض كيف تحولت إلى نظرية ثقافية، ولا غرابة في الأمر فحضارات الأمم ما هي سوى أدلجة لسياستها هذا ما لا نريد أقصد العرب أن نفهمه حتى الآن، ونطبقه في مواقفنا الفكرية ومناهجنا الثقافية.
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|