مساقات عُوَيف القوافي.. يتحدّث! د. عبدالله الفيفي
|
وكيف يتحدث من لا يحسن الحديث؟ أم كيف يقول الشعر من تعافه القوافي؟ تلك معضلة عُوَيف القوافي، الذي استحق عليها أن يُقَدَّم الى جماهير الشعر بلقبه هذا؛ لأنه لا يتوفر على ملكة امرئ القيس التي سقنا صفتها في المساق الماضي، والتي استحق بها لقب (الذائد). فعويف القوافي كان شاعراً (مسكيناً)، فيما يبدو، ككثير من المتشاعرين الأدعياء، وهم في كل زمان ومكان (كالهم على القلب)، لكنه عاش في مجتمع صارم، لا يتسامح مع الأدعياء بترويج بضاعتهم المزجاة عليه، لا سيما اذا كانت تلك البضاعة من الشعر؛ لأنه مجتمع التجارة الشعرية، ومن ذا يجلب التمر الى هجر! إلا أن ذلك المجتمع شأنه في أحكامه السلطوية الميّالة للعنف والقمع لا يرضى لصاحبنا بأقل من عقوبة الاعدام! والاعدام المعنوي أشد من المادي. إذ أطلق عليه رصاصته كما أطلق جرير على الراعي النميري رصاصته، غير أن الرصاصة المطلقة على عويف القوافي كانت رصاصة الرحمة النقدية، به وبالناس من حوله على حد سواء ألم يقل محمود درويش ذات قول: (ارحمونا من هذا الشعر!)، حيث لم يعد للناس اليوم من بعض الشعر إلا أن يستغيثوا طالبين الرحمة في حين كانت رصاصة جرير رصاصة القَبَليّة والعصبية البغيضة، التي انكفأ اليها العرب منذ عصر بني أمية، كما لو كانوا إذ ذاك يشعرون برغبة تعويضية عن كبت مارسه عليهم الاسلام في العقود الأولى، ضد ما تشربته أفئدتهم من عرقيات وثارات. والرصاصة الأولى (النقدية) أشد فتكاً؛ لأنها تمحو اسم الشاعر من عالم الشعر محواً. إن الدارس، إذ ينظر هنا في ألقاب الشعراء الى أبعد مما كان يعللها به أصحاب التراجم فيستشف من ورائها علاقتها بطبيعة شعر الشاعر والاستجابات لشعره في أفق تلقيه المباشر ليرى خيوطاً من الدلالات تنمّ عن مواقف نقدية مباشرة أو غير مباشرة. ويدل على صحة ما تقدم في المساق الماضي من استنتاجات متعلقة بلقب (الذائد)، أن شاعراً من ورثة ذاك التقليد التلقيبي في العصر الأموي واسمه الحقيقي (عوف بن معاوية الفزاري، ت. 718م) كان يُعيَّر بأنه لا يجيد الشعر، فقال أبياتاً، منها: سأكذب من قد كان يزعم أنني إذا قلتُ شعراً لا أجيد القوافيا فنبزوه بلقب (عُوَيف القوافي)، على سبيل السخرية منه؛ لأنه لا يجيد ما يجيده امرؤ القيس من القوافي. والحكاية يرويها (الأصفهاني، الأغاني)، و(الجاحظ، البيان والتبيين)، و(السيوطي، المزهر)، و(البغدادي، خزانة الأدب). ف(عويف القوافي) إذن لقب يقابل لقب (الذائد). وقد صُغّر (عوف) الى (عويف) إمعاناً في التهكم بشعرية هذا الشاعر، لا سيما لما تحمله مادة الاسم (عوف) من دلالة لغوية تتساوق ومقصدية الانتقاص من شعرية الشاعر. ومن يدري، فلعل اللقب كان أسبق من بيت الشعر وجاء البيت محاولة للرد على ما أُلصق من عجز شعري بالشاعر، وإن كان الاخباريون قد عكسوا الأمر ليجعلوا البيت كالعادة سبباً وراء اللقب؟ ولكن حتى لو أُخذ بصحة ترتيب النتائج على الأسباب في الخبر أي انطلاقاً من تعييرهم الشاعر بعدم اجادة الشعر، ثم قوله بيته الذي قاله مكذباً إياهم، وصولاً الى تلقيبه بعويف القوافي فقد انتهى الأمر الى أن جعلوا تكذيبه نفسه تأكيده لضعف شاعريته، تأكيداً يلتصق باسمه فلا يفارقه. ولسان حال ملقبيه: (كاد المريب أن يقول: خذوني!) وتلك نكاية الجمهور المتلقي بمن يسوّق عليه دعاواه الشعرية. مهما يكن من شأن، فلقب (الذائد) ولقب (عويف القوافي) لقبان ارتكزا على عنصر القافية، بدلالتها الكلية على ايقاع التجربة الشعرية، لأجل التأكيد على علو كعب الشاعر أو تأكيد تدني مستواه الشعري. وليس من المهم بعدئذٍ مقاضاة اللقب الى شعر صاحبه للنظر في انصافه إياه من عدمه، بمقدار ما يعني البحث من هذه العملية تقنيةُ القدماء الى تقويم الشعراء والحكم على شاعرياتهم جوراً أو عدلاً من خلال الألقاب، التي كانت بمثابة أوسمة ترفع الشاعر أو رصاصات تقتله، على أسس من الرؤية الأدبية أو الثقافية العامة. وطبيعة النقد وأدواته لم يكونا لينفصلا عن طبيعة الثقافة والمجتمع اللذين نشأا فيهما. قطوف: قالوا: (الفنون جنون)! وذهب اليونان الى أن للشعراء آلهة توحي اليهم ابداعهم، بينما اعتقد العرب أن للشعراء شياطين تملي عليهم قصائدهم، إذ كل خارق للعادة لدى بني يعرب على كل حال كان مصدره في تصوّرهم الجنّ، منذ الشعر الى الراديو والسيارة في العصر الحديث. ولوثة الفن بعامة معروفة عن أصحابها، إن أُحسن الظن بهم، سُميت عبقرية، وإن أُسيء بهم الظن، نُسبوا الى العته والجنون، وإن توسط الحكم عليهم بين الحالين، قيل فيهم بمزيج من العبقرية والجنون. قد رأى أبو التحليل النفسي، سيجموند فرويد نفسه، في هؤلاء عصابيّين، دون الأسوياء وفوق المجانين! وليس فان جوخ، وجيمس جويس، وسلفادور دالي، في الغرب، ولا مجنون ليلى، ومجنون لبنى، وأبو حية النميري، وماني المجنون، وأبو الفضل جعيفران المجنون، وعباس المشوق المجنون، وخالد الموسوس، بمجانين على الحقيقة في الغالب، وإنما هم نماذج بارزة من هؤلاء الملبوسين بروحانية الابداع ولطف المخيلة. والعته الفني الجميل مزية ابداعية لدى هؤلاء لا مثلبة، يتطلبها غيرهم فلا يدركونها، إذ لا تخرج أعمالهم إلا متصنعة نكدة، لا تلامس شغاف النفوس وخائنات الخيال. أقول هذا وأنا أتصفح أعمال سعاد فهد السعيد، التي أشهد أنها من أعقل النساء، شهادة أجزم بها لأنها كانت من طالباتي اللاتي عهدت فيهن التميز العلمي. أصدرت سعاد أربعة عمال دفعة واحدة، (2003)، (يفرّون من رفوف المكتبة)، قصة، (إليشع بن آخاب ملك اسرائيل الشمالية)، قصة، (ظل الموجة يمتدّ في الأفق)، نثر فني، (الدائرة تكتمل)، نثر فني. وأولى حالات هذه الكتابات الممسوسة أنها بلا انتماء أدبي خالص، من حيث الجنس، وما تصنيفاتها هنا إلا محض تقريب، ففيها من مزيج الشعرية والنثرية ما يستعصي على التصنيف. فلا في الشعر هي، ولا في السَّرْد، ولا في النثر المجرّد. كتابات شاردة وكفى. وهذا أجمل ما فيها! لا تسل بعد هذا عن المعنى، فالمعنى في بطن المعنى! والمعنى ذو البطن يتطلب أن تترفع عن تطلب المعنى المباشر، أو الصلة الواقعية بين الدالّ والمدلول، الى المعنى القابل للتأوّل المستمر، المعنى الشفيف، الموارب، الذي يتفلّتُ عن الإمساك فتظل لذة ملاحقته لذة قراءة خاصة لنصّ خاص. تحية لسعاد السعيد، التي تخترق النوعيات الأدبية بكتاباتها! مقام:
وإنَّا نَبْدَأُ الأحْلامَ شِعْراً | فَتَنْبَجِسُ الخوابي بالصَّبُوحِ! |
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|