في نظرية الرواية العربية (2) د. سلطان سعد القحطاني
|
قبل ثلاثين عاماً من الآن قرأت رواية الكاتب الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال» وبهرت بها أشد الانبهار، ليس مما فيها من الجرأة في طرح المسكوت عنه في ذلك الوقت، ولكن في دقة البناء الجغرافي، وشدة ارتباطها بالمتلقي، ولم يكن في ذلك الزمن قد ظهرت الرواية الجغرافية، تلك الرواية التي تهتم اشد الاهتمام بالجانب الجغرافي في اسلوب روائي، وليس بالوصف الجغرافي، أو ما يسمى أدب الرحلات، أو أسلوب الرحالة في وصف البلدان، وهذا امر بسيط جدا يستطيع القيام به أي انسان زار بلداً وذكرها بطريقته الخاصة، على اسلوب النقل الصحافي الاستطلاعي.
ان جذب القارئ الى احداث الرواية يأتي من دقة الوصف للمكان، وليس هذا نهاية المطاف، فاللغة السلسة المتقنة الناقلة للحدث اهم من كل العناصر التي يقوم عليها البناء الروائي، مما يجعل المتلقي يعيش الحدث لحظة بلحظة، وكأنه يسير بجانب شخوص العمل الروائي، والوصف ركن مهم من اركان البناء الروائي، بل إنه الشاهد الأول في الحكم على قدرة الروائي او ضعفه أمام المتلقي، لكنه ليس بالركن الوحيد الذي يتم الحكم من خلاله على قدرة الروائي، ان لم تسنده اللغة الروائية السلسة، وتوظيف الحدث في مكانه الصحيح، وتراتب الشخصيات الروائية، ومصداقية الزمان، وطبيعة المكان «الخاصة والعامة»، وصدق الحدث المساند للحدث العام. كل هذه اركان رئيسة وفرعية يجب توفرها في العمل الروائي، ولا يتم توظيفها إلا علي يد الروائي الموهوب المحترف، فالرواية لم تعد تلك الفكرة الانفعالية التي يفرغها الكاتب على الورق وكفى، كما القصيدة ذات الموقف الانفعالي الآني، او القصة القصيرة ذات النفس الانفعالي المعبر عن لحظة آنية، قد تزول بعد لحظات أو أيام قليلة بزوال المؤثر، والسبب في ذلك ان الرواية ذات نسيج مترابط ومتفاعل من عدد من المواقف الانفعالية، منها العلمي والفني والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، ومنها المعلن والمضمر، تسير وفق تسلسل تأريخي وجغرافي ، هما الزمان والمكان، يستطيع الروائي الماهر ان يمرر كلما يشاء قوله من خلال هذا النسيج المحكم الذي يغلف الخطاب الروائي في داخله، ومن هنا يكون الفن الروائي المميز، وليس المذكرات اليومية، فالرواية اليوم صناعة فنية، تعدت ذلك الاسلوب الكتابي المنمق بعبارات البلاغة الخاوية من المعنى والموضوعة في غير مكانها، والمادة الروائية تشبه مادة الحلي التي هي في الأصل مادة متحجرة صاغتها يد الصانع الماهر وأحالتها الى حلية جميلة، فالأحداث موجودة في الحياة كما هي موجودة في الطبيعة، وتحتاج الى صياغة، فهل يستطيع الكاتب صياغة هذه الاحداث؟ وهل صناعة الرواية مثل الصناعات الأخرى التي تحتاج الى تطوير وتجديد في المضامين والرؤى؟ وهل استطاع الروائي ان يوظف الاحداث التاريخية والأساطير والحكايات توظيفا فنياً يسد الفراغ الحاصل في الحياة العامة والمواقف الخاصة التي تنطبق عليها مثل هذه الحالات؟
هذا ما نود مناقشته في هذا العمل الذي بين ايدينا، وقد قدمت له برواية للكاتب حسن الشيخ بعنوان «الفوارس» لعها تكون مدخلاً لدراسة الرواية العربية في نظريتها الحديثة، خاصة وانها فن العصر. والفوارس حي من أكبر أحياء الهفوف، العاصمة الاقليمية للأحساء، وهي رواية مكانية، أي تركز اهتمامها على المكان، والمكان كما ذكرت من قبل ركن مهم من اركان الرواية، وإذا كان كبار الكتاب في القرن العشرين قد اهتموا بالرواية المكانية حتى تحول البعض منها الى رواية جغرافية بحتة، مثل خيري شلبي في روايته «بطن البقرة»، وهي رواية اهتم فيها الكاتب بجغرافية القاهرة وتاريخها، لكنها في صياغتها تختلف عن الوصف الجغرافي والحدث التاريخي المباشر للقاهرة، كما كتبه المؤرخون، من امثال المقريزي وغيره من المؤرخين، فإن البعض قد صاغ المكان في رواية من الروايات العالمية، مثل «جيمس جويس JAMS JUICE» في روايته العالمية «أهل دبلن The Dubliners»، ودبلن عاصمة ايرلندا، مما جعل المهاجرين الايرلنديين في امريكا يتداولون هذه الرواية وكأنهم يتجولون في شوارع تلك المدينة. وقد شهد النقد بحرفية بعض الكتاب العرب في رواية المكان، وذكروا بالحرف الواحد مجموعة من الكتاب، مثل نجيب محفوظ في رواياته «زقاق المدق وبين القصرين والسكرية»، وابن هدوقة في روايته «ريح الجنوب»، وكاتب هذا المقال في رواية «خطوات على جبال اليمن». ولم يكن حكم النقاد على هذه الروايات من اجل انها قدمت وصفا دقيقا للمكان، ولكن حرفية الكتاب في وصف المكان، فيما يتعلق باللغة الروائية وانفعال الكتاب مع الحدث المكاني.
إن حسن الشيخ في روايته هذه قد تعاطف مع المكان بلغة قصصية، وليست لغة روائية، اشعرت القارئ بحميميته الخالصة للمكان، ومن شدة هذه الحميمية تقديمه الاعتذار عن ذكر الاسماء وانها وهمية وليست حقيقية، وقد ذكرني بما كتبه محمد علي مغربي قبل سبعين عاما في روايته «البعث» من اعتذار للقراء بأن الأحداث مختلفة وليست حقيقية! وهذا أسلوب لا يليق بالرواية الحديثة.
تقع الرواية في 332 صفحة من القطع المتوسط، صادرة عن دار الكنوز الأدبية في بيروت، وقد زينتها الفنانة زهرة بو علي بلوحة الغلاف، وصمم الغلاف الفنان موسى الموسوي. وتقع الرواية في اربعة وعشرين فصلا، يربط الكاتب بينها في الكثير من الاحيان وتختلف في احيان كثيرة، ويسيطر على الكاتب في بعض الاحيان اسلوب الصحافة الخبرية والشعرية الكتابية في احيان أخرى، وبالرغم من المتعة الفنية التراثية التي تزخر بها الرواية فسرعان ما تفسدها بعض الاسماء الحديثة التي طرأت على المجتمع، مثل عماد، ابتهال، إياد، وهذا لم ينسجم مع ما قدمه من الموروث الاحسائي العريق، لكن الكاتب استطاع ان يكيف الظروف المكانية في قوالبها المعتادة في معايشة الواقع الفني من اسواق الاحساء العريقة، بل الهفوف بالذات، ازقتها الضيقة القديمة، واسواقها العريقة، القيصرية، وسوق الخميس، وشارع الخباز.. وهي معايشة الواقع التراثي وما يحمله من عبق الماضي التليد، اضافة الى ما كان يدور بين المثقفين الاحسائيين من تيارات فكرية في الحقب الماضية، تلك الحقب السبعينية الميلادية، مثل الناصرية والقومية العربية التي تبناه الفكر الناصري ثم انهارت بوفاة عبدالناصر وما كان يقابلها من تيارات فكرية ثقافية كان المثقفون يتبنون بعضا منها، فالكاتب حشد الكثير من تلك الأفكار، وببعض من يؤمنون بها ومن ينكرونها ومن يقفون على الحياد منها.
وتبدأ الرواية من وسطها، حيث يبدأ الكاتب بمغامرة رومانسية قبل اوانها، وقد قدم لها بمقال تمهيدي لما يريد ان يقوله، يقول: «أيام طويلة، مليئة باللذة والألم، إلا انها عبرت في خيالي، كفراشة نهر مبتلة، نجت من دفقات النهر، واصبحت وجبة شهية في حوصلة طائر، ايام ممتدة، بلياليها وهواجسها وعنفوانها.. تابعتها من بعيد، من سيارتي بعد انتهاء اليوم المدرسي.
عشرات الزنابق السوداء، تنتشر هنا وهناك إلا انني استطعت تحديدها، انتظرت طويلا، لا تهم تلك الحرارة المتفجرة . «ص 804».
كان هذا الخطاب المقدم به لعمل روائي فنا جديدا يحتاج الى اتقان محكم، ولا نقول: إن الكاتب لم يتقنه، لكن المقدمة اختلطت برؤية الحدث الرئيس في علاقة البطل بأنيسة الشابة التي يحبها، وانيسة تتكرر فيما بعد بدور اقوى من الدور الذي قدم به الكاتب لعمله، ولو تركها الى الوقت الذي يجب ان تظهر فيه لكان أحسن مما قدم به.
أما اللوحة الثانية فيظهر فيها رجل تعدى الستين أنهكته مجموعة من امراض العصر، يعيش وحيدا في منزله المتهالك مثلما تهالك هو، وكان من المفترض ان يبدأ الكاتب العمل من هنا، اذا كان يرغب في اسلوب البداية من النهاية على طريقة بعض الروائيين فيما يسمى بالاسترجاع «Flash back». وقد اجاد الكاتب في وصف حالته المرضية، مما يدل على ما وصل اليه من الاجهاد، مثل الرعاش والسعال ونوبة الربو وما يعاني من الوحدة، وهذا الفصل من اجمل فصول الرواية، ففيه الاسترجاع الجميل والتاريخية الاجمل لأسرة عاشت حياتها بكل صدق وأمانة، تجمعها المحبة حينا وتشب الغيرة بين افرادها احياناً كثيرة، مع ان الكاتب اعاد هذه المشاهد مرات عديدة في أثناء الحديث عن الاسرة العامرية.
ويقوم الفصل الثالث على الاستذكار الذهني في فترات متباعدة من الزمن بين البطل وأبناء عمه، وبينه وبين اصدقائه، وبينه وبين مدير المدرسة في يومه الأول، إنه النزاع النفسي الذي يعتري الكثيرين في علاقاتهم بالآخر وعلاقتهم بأنفسهم، وشخصية البطل شخصية غريبة الأطوار والتصرفات الفردية، فهو يرى الآخرين برؤية تختلف عما يرونه بها، مع نظرات الود والاعجاب لبعض الشخصيات، ص 19.
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|