قصة قصيرة بهية بوسبيت المُعجب المجهول
|
أنهت أماني قراءة آخر قصة في المجموعة القصصية التي اقتنتها مؤخراً، والتي لم تكف عن مسح قطرات الدموع، التي كانت تتدفق من عينيها تأثراً بقصة البطلة التي عانت كثيراً من سوء الحظ الذي يحرمها من كل إنسان تحس أنه قريب منها، وتألفه روحها، وترتاح له نفسها، ويطمئن له قلبها، وتشعر بالراحة والطمأنينة معه، فأضحى سوء الحظ الذي يلازمها كالعدو المتربص بها.. بكت كثيراً لأنها رأت في قصة البطلة صورة طبق الأصل لقصتها، رنَّ هاتفها الصغير، رفعت السماعة لترد عليه بعد أن جففت آخر دمعة من دموعها محاولة أن يبدو صوتها طبيعياً، لكنها لم تكن مكالمة فائتة.. بل رسالة قادمة.. فتحت بريد الرسائل فقرأت ما جاء فيها: أتطلع إلى جديد من قلمك الفريد لأنهل منه كل مفيد، هنيئاً لك هبة العزيز الحميد، يا صاحبة القلم المجيد، ابتسمت لهذه الرسالة الشاعرية الرقيقة التي لامست شغاف فؤادها، حاولت معرفة مرسلها بعد أن بحثت في دليل هاتفها، لكنها لم تجد الرقم مسجلاً لديها، عادت لإكمال عملها، في اليوم التالي: وصلتها رسالة جديدة جاء فيها: ما أجمل قصائدك أيتها المبدعة! أحسَّت بسعادة غامرة لهذا الإطراء والإعجاب من متابع جاد.. أغلقت هاتفها واتجهت إلى مكتبها في الجريدة التي تعمل بها.. وفي مكتبها انكبت على عملها بكل دقة واهتمام وحرص، فأعدت قصة العدد الأسبوعي التي كانت تحررها، كما أنهت إعداد بعض المقالات التي سترسلها لبعض المطبوعات.. وبينما هي غارقة في قمة عملها، وصلتها رسالة جديدة، فتحت بريدها قرأت الرسالة التي جاء فيها: لقد قرأت قصيدتك الأخيرة فوجدت فيها رقة المشاعر وصدق الأحاسيس، وجمال التعبير، فأنت بحق مبدعة كبيرة.. ضحكت أماني بحبور ونشوى، لهذا المُعجب المجهول.. ثم تساءلت بينها وبين نفسها ترى من تكون يا صاحب هذه الرسائل المجهولة؟ خطر على فكرها خاطر، هل تبعث له بهذا السؤال؟.. فكرت قليلاً وجدت أن ذلك ليس مناسباً، وأن هذا المجهول لديه مكونات الإبداع، ويبدو أنه إنسان متذوِّق لكل الأدب، وقد تكون لديه موهبة مدفونة، ورغبة مخزونة لكنه لا يجرؤ على إظهارها أو لا يعرف الطريق إلى إبرازها، أو يخشى أن يُواجه من البداية بإحباط، بدل التشجيع، فقررت أن تعمل على تشجيعه.. فبعثت له تقول: شكراً على ثنائك لي، ويبدو لي أن شاعراً يسكن في أعماقك.. لكنه بحاجة لمن يخرجه إلى النور.
لم تكد تنهي أعمالها في المكتب وتهم بالخروج منه، حتى وصلتها رسالة منه يقول فيها: تلقيت شهادة من فارسة الكلمة.. ففتحت لي أبواباً مغلقة، وأخبرتني عن كنز دفين يجب إخراجه من مدفنه، لله درها من فارسة محنَّكة.. ضحكت بسعادة كبيرة وهي تحدث نفسها إذن صدق ظني!
مرَّت الأيام سريعة كلمح البصر، لكنها في حساب المنتظر، تبدو كأنها سنوات.. وفي زحمة العمل نسيت أماني قصة صاحب الرسائل المجهول فأعمالها كثيرة ومشاغل الحياة لا تنتهي، وارتباطاتها العملية لا تكاد تترك لها مجالاً حتى للراحة، ذات يوم وبينما هي تحادث إحدى الزميلات جاءتها رسالة بعد أن أنهت، محادثتها فتحت الرسالة التي جاء فيها: أستاذتي الكريمة قرأت قصة العدد لهذا الأسبوع، وأخبرك أنني ذلك الرجل الذي اكتشفته البطلة لك فضل عليَّ كبير فشكراً لك.. أسعدها ما جاء في الرسالة.. بعثت برسالة تشجيع جديدة قالت فيها: أتمنى أن تكون حقيقة كبطل القصة.. لكن أرجو أن تكون نهايتك كما أراد بطل القصة.
بعد مدة من الزمن جاءتها رسالة أخرى قال فيها: أي علاقة تُبنى على أسس قوية فإنها تتحدى كل الظروف، وللعقل دور كبير في إيجاد التوازن الذي يضمن الاستمرارية.. كانت هذه الرسالة بمثابة جرس الخطر الذي جعلها تنظر لما حولها بحذر، كررت قراءة الرسالة أكثر من مرة، وتساءلت فيما بين نفسها ترى ماذا يقصد بهذه الكلمات التي تحمل في طياتها معاني عميقة؟ ولماذا شبَّه نفسه ببطل هذه القصة بالذات؟! امتلأ رأسها بأسئلة كثيرة مختلفة بين السلبية والإيجابية، وطوَّقتها الحيرة من كل اتجاه فلم تعد تعرف لأسئلتها أية إجابة مقنعة.. بعد أيام قرأ، لها مقالاً فبعث برسالة يسأل عن تاريخ كتابة هذا المقال، فاجأها سؤال الغريب! ذهبت بها الظنون بعيداً..
وامتطت الأفكار بخيالها بعيداً، ترى هل تحوَّل إعجابه إلى.. لا .. هل يمكن أن يحدث هذا؟ وبهذه السرعة؟ لم ترد على سؤاله، كرر سؤاله من جديد.. أرادت أن تريحه حددت له تاريخاً بين.. بين، ثم في رسالة أخرى.. سألته ما السبب في إصرارك على معرفة تاريخ كتابة هذا المقال؟ رد قائلاً: لا لشيء، لكنه سؤال خطر في نفسي، أدركت أنه يراوِّغ في الإجابة وقد تصدق ظنونها، لكنه يريد أن يتأكد من شيء ما يجول في فكره مع مرور الأيام، ورسائله التي تحمل تعبيرات صادقة، بمودة مبطنة بإعجاب واهتمام ظاهرين، ومع إصراره المتكرر لمعرفة تاريخ كتابة ذلك المقال الذي تحدثت فيه عن تآلف القلوب واتحاد الأرواح، رغم بعد المسافات، زادت حيرتها وألحت عليها الأسئلة تباعاً.. ترى هل تحوَّل إعجابه إلى مودة قلبية، وألفة روحية؟ حاولت كثيراً أن تطرد هذه الفكرة من مخيلتها.. لكن كل رسالة تصلها توقظ هذا التساؤل من جديد حينما تشعر براحة عميقة لرسائله وإحساس بالطمأنينة له.. سألت نفسها حتى وإن كنت واهمة؟ فلما أحسَّ بأن الهمَّ الذي يربض على صدري ينزاح مني في غمضة عين، وكأن كلماته بلسم يمسح تلك الهموم، لماذا أشعر بالفرح إذا رأيت رقمه أو قرأت إحدى رسائله، لماذا بدأت أفتقده إذا غابت رسائله طويلاً؟ ولماذا أحس بحلاوة الحياة وجمالها عندما أقرأ كلماته؟
ولماذا بدأ يستولي على تفكيري حتى في منامي، لماذا أحاول أن أتجاهله فأجده كظلي مرسوماً أمامي؟ هل هو الوهم أم الإحساس بالضياع؟ الذي يصوِّر لي ذلك، أتراه يعيش نفس مشاعري، ويتخبَّط في بحر أوهامي أم أنا التي أتخبط في بحر أحلامي، وأبني معه قصر آمالي لأعيش عليه بعضاً من أيامي قبل أن يهوي بي كعادتي مع أغلى أحلامي، وأعز آمالي فتهوي بي خيبة آمالي.. أتراه الوهم الذي يعشعش في أفكار الفقراء.. الفقراء الذين ينشدون الحنان ويحلمون بالحب والسكينة والأمان فيجدون في الكلمة الصادقة وطناً وفي الإحساس بالراحة أرضاً، وفي التعبير الجميل بيتاً يسكنون إليه مطمئنين..
إنه الإحساس بالانتماء الأُسري الكامل الذي يتدفق من أخوة وألفة المشاعر الصادقة التي تحيط بأفراد الأسرة فلا يجد الفرد أي فرق بينه وبين الآخر من أسرته، ترى ماذا ستفعل بنا الأيام في مستقبلها القادم أيها المجهول الغائب؟
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|