استراحة داخل صومعة الفكر نقوش على صفحة المجتمع سعد البواردي*
|
صفحة المجتمع هي وجهه الظاهر والمستتر معاً.. إنها تعني حركته الدائبة والراكدة.. أما النقوش فتحدِّد معالم.. تلك الحركة بيضاء، أم سوداء. أم رمادية.. أم أنها مزيج من ألوان قوس قزحية تتقاطع فيها الصور إلى حد التكاثر والتنافر.. شاعرنا وعدنا كقراء أن نبصر من خلال إرهاصاته الشعرية رؤية محدّدة لتلك الملامح المجتمعية.. يحسن بنا أن ننصت.. أن نقرأ ثم نتكلم: سأختار من الديوان ألواناً من صوره.. سأختصر البعض وسأوفر البعض فالعطاء كثير تنوء بحمله المساحة المحددة للاستراحة: السبيل انطق الريال.. وجعله يتكلم بلسان كاريكاتوري لذيذ:
كتب الله أن أعيش ريالاً | ليتني قد خلقت غير الريال | فأنا تارة أكون ظلالا | ومُعينا على صروف الليالي | وأنا تارة أكون وبالا | تخذوني وسيلة للضلال | وأرى البعض لاهثاً لا يبالي | بحرام ينالني.. أو حلال | أبيات أربعة موحية بجمالياتها ومقاصدها ما تحتاج مني إلى تعليق، فلقد أوفى الريال حقه دون بخس.. رغم أن الريال المسكين لا ذنب له.. ومثل الريال يأتي دور الهاتف بنفس الأسلوب الفكاهي المرح:
لي هاتف ما اصبره | على الكرام البررة | تراه جُلَّ وقته | تجري عليه البستره | يُقطع عنك فجأة | فلا تحس أثره! | ثم يعود فجأة.. | تسمع فيه الثرثرة | وإذا زهمت ثانيا | تحولت لصرصره. | ثالثاً وليس ثانياً يا عزيزي دقق في حسابك.. أما حساب الهاتف فأجره على من يدفع المكالمات لا من يتكلمها.. هذه المرة الشكوى من الهاتف نفسه:
نقلوني.. وليتهم تركوني | ليتهم للجديد ما نقلوني | عشت فيما مضى بكل سلام | وأمان. وراحة. وسكون | نقلوني - هوى - لخط جديد | وادّعوا أنهم به خدموني | أوصلوني كبينة تلو أخرى | ثم عادوا من وصلها حرموني | بداية فأل مبشره لرحلة ميسرة فارسها ينشر بُرد السعادة والمرح في نفوسنا دون بكائية تجذر الحزن في أعماقنا.. وعن المدير بالمزاح يقول:
خلقت مديراً. والإدارة في دمي | أمثلها بالقلب. والروح. والفم | أحكم في كل الأمور. وارتضي | مزاجي. وما احلاه من متحكم | أنا مركزي لا أطيق تصرفا | لغيري ولم يعرض علي ويعلم | وانتَ ما أحلاك من ناقد متهكم أضفيت بروحك المرحة مسحة شفافة صائبة التعبير.. مفردة (على) في الشطر الأخير في حاجة إلى نقطتين هي الفارق بين على. وعَلَيّ.. هذه المرة مع زواج مصالح..
مطلقة عاشت زماناً وحيدة | تجاهلها. واختار أخرى حليلها | مضى زمن والعرس ترنو لعرسها | ومن سابق الهجران يشفى غليلها | ولكنها زفت لبعل، وضرة | وزجت بدار لم يغادر نزيلها | وزفت لزوج لا يروم وصالها | سوى متعة من ثم يخلي سبيلها | أربعة أبيات تختصر حياة امرأة غدر بها النصيب.. وخانها القريب.. وتخلَّى عنها الحبيب!! مأساة يعيشها بعض نصفنا الآخر من النصف الآخر.. هذه المرة مع ابنة عاتبة.. غاضبة.. ومن حقها العتب والغضب على ذلك الأب:
يا والدي أنا غرسة | من غرسك الحلو الجميل | أدبتني، ورعيتني | وهديتني نحو السبيل | وإذا حياتك يا أبي | صارت ريالاً في ريال | تجري وتلهث كل همك | في حياتك جمع مال: | الوقت عندك صفقة | بحرام كسب، أو حلال | والوقت عندك سهرة | أواه، من سهر الليال | الشطر الأول من البيت الرابع أرى إحلال كلمة (والليل) بدلاً من الوقت.. إنها أنسب.. وقصائدك جميعها مناسبة إطاراً. ومضموناً.. الزكاة تتحدث عن معاناتها.. هذا هو العنوان:
فرضت على الجميع زكاة مال | ويدفعني الغني إلى الفقير | فمنهم من يخاف الله ربي | ويرعى الأمر بالعقل البصير | ومنهم من يرى في اللف حلا | وفي التمويه أكبر من خبير | ويبقى دور ثالثة الأثافي | وما أقساه من دور خطير | إنه يشير بسبابته إلى المحاسب الذي يخون أمانته.. وينقض عهده.. من الزكاة إلى الإجازة:
وسائلة عني لمن جئت هارباً | فقلت لها إني هنا اليوم سائح | قضيت سنينا لم أقم بإجازة | وغيري غادٍ في الإجازات رائح | يسائلني أخذ الإجازة ناصح | ولكنها لم تُجد في النصائح | أنصحك.. وأنصح كل الذين لهم إجازات التمتع بها دون تأخير فما كل تأخيرة فيها خيرة.. الجسد والعقل في حاجة إلى استجمام وراحة كي يستعيد نشاطه: شاعرنا الظريف. والفكه شهد ثلاجته تلفظ أنفاسها.. رثاها:
رأيت ثلاجتي في الركن غلفها | صمت رهيب.. فلا سمع.. ولا بصر | قلبَّت أحشاءها والحزن يغمرني | ريب المنون دهاها. إنه القدر | فما دهاها بهذا الصيف أنهكها | كذا مثيلاتها للوأد تنتظر! | راحت ضحية توماس.. وكهربه | بين انقطاع. وضعف عاشه البشر | إحداهن استثارت شاعرنا المجلي بهجائها له:
تريد هجائي.. كي تُهيج غنائي | فيا ليتها ما بادرت لثناء | وما كنت يوماً يا ابنة الأصل شاعراً | ولم احتسب من زمرة الشعراء | إذا كان هذا الهجو منك شقاوة | فما لك يا قطر الندى بشقائي؟ | بصدق دون مجالة إذا لم تكن بكل هذه الإجادة شاعراً فمن يكون الشاعر.. أشعر أنك شاعر اصطفيت الظل لا الظهور وهذه قمة القيمة.. شاعرنا السبيل بخطابه النقدي المجتمعي الهادف كان له السبق.. ربما شاركه صديقي الراحل الشاعر محمد بن سعد المشعان كلاهما صاحب ريشة ترسم بمدادها حركة المجتمع.. إيجابياته وسلبياته دون إيجاع أو تجاوز وتحامل.. إنها حفيدته هيفاء التي أهداها لفحة شعر عطرة
هيفاء يا زينة الوجود | ونفحة العطر، والورود | يا نبع حب لوالديها | ونبع السعد. والسعود | أنت التي قد كبّرتني | وصيّرتني من الجدود | لو كان قد غشاكِ نوم | هبي من النوم والرقود | وطالعيني بنصف عين | ونظرة منك لي ودود | كلمة (ودود) استعصى عليّ فهمها.. وربما غيري أيضاً.. يحسن استبدالها ب(وقود) أي قوة وحيوية.. وفاء التي أشبعها والدها حباً بشعره.. أشبعته وزوجها سعد طعاماً هزلياً من صنع يديها:
قال سعد تذكري يا وفاء | أي وقت يُعد فيه الغداء | بادري بالطعام من كل صنف | وعلى رأسه يكون الحساء | أحسن الأكل ما شويت بفرن | ليت شعري وأين مني الشواء | والمطازيز، والجريش لنفسي | خير ما تطبخين يا حسناء | هيفاء الزوجة جاء ردها سريعاً:
أنا في الطبخ همتي لا تجارى | لي في الطبخ همة قعساء | إن طبخت الجريش في اليد يجري | حب طافح.. وباقيه ماء | والمطازيز قد تطير احتجاجاً | بدل القدر يحتويها الهواء | فإذا ما جعلته وسط صحن | فهو فيه دلكة صماء | نِعمَ الأكل.. ونِعمت الطباخة! | من أبيات تفيض عظة. وتنبض حكمة قالها لحفيدته أروى
يعيش المرء دهراً، ثم دهرا | صروف الدهر في دنياه تترى | فطوراً في الحياة يعيش عسرا | وطوراً في الحياة يعيش يسرا | ويرحل حين يرحل ثم يُنسى | إذا لم يستطع تخليد ذكرى | فسيرى في طريق المجد أروى | وفي درب العلا شبرا فشبرا | في مقطوعته أشد الانتظار.. | يا قرض طال الانتظار | فما أشد الانتظار | كل يعيش مؤمّلا | أن يسبق الليلَ النهار | في الصبح يأتى مسرعاً | للبنك يسأل: (وَيشْ صار)؟ | فيقال: (صبراً طيباً) | الصبر قد ولّى، وطار | إن كنت تبغي خمسة | خذها.. ولله الخيار | أكمل بها نصف الديا | نة كي تجنبك العثار | ومن إشكالية تأخر القروض وتمطيط مواعيدها.. إلى عنوان (يا شاعري)، حيث إشكاليته الأخرى.
يا شاعري كلمات حبك | لا مست جرح الصغار | وحديث قلبك للقلوب | يجيء داعية ادكار | يا شاعري بيت الحنان | أضاعه عبث الكبار | وأضاعه أكل التراث | وحب مال وافتخار | البيت أصبح تائهاً | ويكاد يطويه الدمار.. | وهنا يأتي بيت القصيد:
لا الأمهات لها به | عطف. وليس لها قرار | بين المحافل تارة | زوَّارة. أو أن تُزار | ما بين آخر موضة | أو سهرة كان الحوار | والبيت في أيدي غريب | يديره فيما يدار.. | الشطر الأخير أرى أن يكون (يديره كيما يدار) أخلص من الجملة إلى جُمل غصت بها حلوق أسر كثيرة عانت من الضياع.. وأطفال كثر يواجهون اليتم في حياة أبويهم. إن اليتيم هو الذي تلفى له أماً تخلّت أو أباً مشغولا (شوقي) اختصر المشكلة وأشار إليها برأس قلمه.. والد شغلته دنياه عن أولاده وعن أهله.. أو أم شغلتها زينتها.. وزياراتها وسهراتها عن أطفالها وأودعتهم خادمة غريبة عليهم وعلى مجتمعهم تشكِّل طباعهم وثقافتهم.. إنه الحرمان بعينه.. لا ينسى شاعرنا أن يتوجه إلى ربه بضراعة المؤمن وقنوته:
وهبتَ لنا أمناً مشاعا, وصحة | فلسنا نخاف اليوم ظلماً ولا هضما | ويسَّرت باب العلم في كل بقعة | فيا بؤس من في عمره حُرْم العلما | فهل كل من أغنيته لك شاكراً | وهل كل من عافيته يشكر النعمى | الشطران الأخيران يفتقران إلى علامتي استفهام في آخرهما؟ ويسترسل السبيل في دعوته:
رأيت بعيني من من الناس لم يزل | شغوفاً بجمع المال عن غيره أعمى | تشاغل في دنياه عن كل واجب | فلم يرع في دنياه أهلاً ولا قوما | فكم والد بالاسم تسمَّى والدا | وأم بنفس الوقت قد سُميت أما | المال فتنة.. وحبه دون سواه مرض لا يقوى عليه إلا الفقر لو أنه عاد إليه وأعاد إليه صوابه.. الأموال.. والأولاد فتنة أشار إليها كتابنا الكريم.. ولكن من يقرأ.. ومن يتدبر.. ومن يعتبر.. {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}، صدق الله العظيم. شاعرنا عانى من ضعف التيار الكهربي في موسم صيف قائظ لا تجدي مهفة.. ولا هبة هواء منعشة لأنها بعيدة:
موسم الصيف قد أظل سمانا | وهج الحر والسموم غشانا | وهموم السكان في الصيف تترى | لازمت عيشنا زمانا زمانا | كل صيف نقول: يا رب عفوا | وكفانا من أمسنا ما دهانا | أبت الكهرباء للناس عيشاً | ملؤه النور صبحنا ومسانا! | أبت الكهرباء للناس نوما | هانئاً في البراد يسقي الجنانا! | أبت الكهرباء للناس شربا | بارداً منعشاً يبل صدانا | يسترسل في شكواه.. وفي مضاعفات انقطاع تيار كهربائه:
كلما الامتحان حلّ عليهم | زادت الكهرباء فيه امتحانا | وقليل المعاش قد صار طعما | شارد الذهن لم يحرك لسانا | أنفق الدخل و(المقاضي) رماها | من فساد الطعام يرجو الحنانا | نحن والصيف في جهاد مرير | عُزّل نحن.. بالسلاح غزانا | ليت أنه أبدل كلمة (السلاح) ب(السموم)، إنها اقرب للوصف، وفي مقطوعته (الحسناء) وغدر الزمان يقول:
يا رفيقي شدوك الصداح للشدو شجاني | ما دعاك اليوم للتغريد باللحن دعاني | كلنا في الهم شرق، ومن الدنيا نعاني | وكذا الحسناء مثلي تشتكي غدر الزمان | اية شكاية تواجهها تلك الحسناء التي تشاركه الهم. والغم؟!
فأبوها لا يرى الدنيا سوى مال مصان | ويرى الحسناء كالدرة أو مثل الجمان | سلعة تعرض للأطماع في سوق الهوان | وضع شاعرنا إصبعه على الجرح من أجل أن يفقأه.. ابنته الربيعية العمر والحلم.. والتي ترقب مستقبلها الواعد بالشغف مع شريك حياة يحبها وتحبه يحال بين أمانيها.. ويسوقها والدها لمن لا تحب ولا ترضى لأنه يدفع المهر الكبير.. ويستحوذ على المال الكثير.. لا يهمه سعادة فلذة كبده.. وإنما يعنيه زيادة كسبه.. جريمة في حق مخلوقة وُلدت كي تحيا وتسعد مع مَن يصون لها شرفها.. ويؤمن لها حياتها الواعدة.
كانت الحسناء ترنو لحبيب متفاني | جرعوها الصبر حيناً ثم زفوها لثاني | ذاقت الهجران منه يوم إتمام القران | يا إلهي أي جور قد أتاه الوالدان! | وعن هموم المهنة له تجربة يحكيها: | كنت فيما مضى أعيش غريبة | مهنة حرة ولكن سليبه | يتولى الغريب كل شئوني | ويريني من الحساب عجيبه | اخلص البعض.. لكن البعض كانوا | في امتهاني محل شك. وريبه | غرسوا في نفوس قومي أمورا | في مجال الأعمال كانت رهيبه | كنت أهفو إلى القريب وأني | لقريب الا يشوق قريبه | سعودوني لكنهم تركوني | ويح قلبي بدون عين رقيبه | سوف يسري بجسمي الداء إن لم | يعرف الداء من يكون طبيبه | الوطن يا عزيزي يقوم على أكتاف أبنائه المخلصين المنتمين إليه العالمين بأمورهم من أجل تحقيقها.. ولا ضير أن نستعين بمهارات نحن في حاجة ماسة إليها.. ولكن يبقى المواطن أولاً وأخيراً.. أخيراً وبعد طول مسار تنتهي رحلتنا عند محطة انتظار التي اجتزئ منها بعض أبياتها:
عشنا ثلاثاً على حلم نتوق له | فهل سيصدق حقاً ذلك الحلم؟ | وهل سيصبح عرقوباً وموعده؟ | أو هل بخفي حنين سوف ننهزم؟ | شاعرنا يعني عملية تنظيم لحياة ومهن لا فوضى فيها تضبطها حركة فاعلة لبناء حاضر ومستقبل لا ارتجال فيه.. ولا اتكالية فيه.. وبعد: بعد هذه الرحلة ذات النكهة المرحة اللذيذة والمتميزة مع شاعرنا إبراهيم بن محمد السبيل أشعر أن فارسنا رسم لنا بريشة قلمه ملامح لمرحلة زمنية قضت وانقضت.. خلفناها خلف ظهورنا.. منها ما توارى مع غبار السنين وأصبح في حكم خبر كان.. ومنها ما بقيت رواسبه في طريقها إلى الزوال.. ومنها ما تضخمت صورته المخيفة واتسعت دائرتها كإهمال الأولاد.. والركض اللاهث وراء الثراء الفاحش وجمع المال.. ولا شيء غير المال.. وكأن المال هدفاً وليس وسيلة إضافة إلى التحكم في مستقبل البنات. وعلى موعد مع فارس آخر.. ورحلة أخرى إن كان في العمر بقية.
* الرياض ص.ب 231185 الرمز 11321 - فاكس 2053338
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|