ثلاثية.. تقلق الأذن وتقرأ الذات!
|
كلمات! كلمات..! ما من خلاص بغيرها! وقد تحكم الأستاذ إبراهيم التركي بثمانية وعشرين حرفاً، حشدهم وأقام منهم جيشاً لمحاربة الفساد الثقافي والاجتماعي والإداري والسياسي، وسطر به حياة مجتمع وجيل بأكمله بأسلوب السهل الممتنع الذي توصف به كتاباته في بعض الأحيان.
وبثلاثيته (كيلا يؤرخ أيلول - وفق التوقيت العربي- الإطار يكفي) الصادرة مؤخراً عن دار بيان للنشر، سجل حياة المجتمع على مستواها الظاهر ومستواها المحجوب -كما يراها هو- لا كما يريده المجتمع أن يراها. فهو كاتب صادق لم ينتم لجامعة أو يحسب على تيار معين، بل آثر الحرية والإخلاص لعينه وإحساسه فهو يقول: (الكتابة مسؤولية أمام الله أولاً: وتالياً: وستحاسب كل نفس بما كسبت.. وكل يدٍ بما كتبت..)
بينما يؤثر الكثير من الكتاب والمثقفين التمويه عن قصدٍ أو غير قصد فيحاول تغطية العلل أو تبريرها بشتى الأساليب التي لا تنطلي على صاحب عقل. وقد كشف لنا الأستاذ التركي القناع عن هذه الفئة من المثقفين بقوله: (المعنى لا يتسع لعرض صور عديدة، غير أن القاسم المشترك بين أغلبهم وأغلبهن الهرولة نحو الثناء، والهروب من الانتقاد، والرغبة الجامحة في التلميع، والسعي لاستجداء التصفيق..!) (2).
أستاذنا القدير إبراهيم التركي هو مراقب لمأساة الحياة في المجتمع، يرقب تخبط الإنسان بين مطامحه ومخاوفه، وها هو يصف حالة هذا الإنسان قائلاً: (مللٌ.. إحباط.. كرهٌ.. ظلام داخل الأضواء.. ظلم في دعاوى العدل.. خطوط بلا مسافة.. وخطوات من دون هدف.. بداية ولا نهاية.. نهاية ولا مقدمات.. ركون إلى الرؤى والأحلام وتعلق بالمجهول.. واتكاء على صمت يغتال الصوت)(3). وهو يرى الأفاعي المتخفية تحت أوراقها (لم تعد الخلايا النائمة أو الإرهابية وحدها مصدر القلق، بل الخلايا المسالمة المصادَرة التي تضطر للاختباء خلف الستار في حوارات حركية غير مرئية يباح فيها كل شيء فتعبث وتعيث)(4).
وهو يضحك من مجتمعه ويبكي عليه معاً فيقول: (قد يتوهم بعضنا أننا، وهذه مشكلة.. وربما توهم آخرون معهم أننا بلا مشكلة.. وهذه أكبر.. والمتنبي لم يتجاوز الحقيقة حين هون مصاب الأجسام إذا سلمت العقول.. ما أقسى خداع الذات..)(5). وقد سطر لنا دستوراً في شرعية الاختلاف وحرية الفكر بقوله: (لنختلف مع من شئنا بشروط الاختلاف ولنخالف من شئنا بمنطق الخلاف، فلا معصوم عن الخطأ ولا منزه عن المثالب في بني البشر.. نسوا أو تناسوا أن الفكر فضاء لا يأذن لمذهب الحَجْر، وعقول الحَجَر..!)(6).
ومن خبرته الإدارية شخص لنا علة البيروقراطية والفساد الإداري، وأنها تكمن في استغلال الوقت بشكل سيء وعدم إيجاد الحلول المناسبة في الوقت المناسب، يقول: (المدار استفهام عن أسباب عدم إدراكنا لمشكلاتنا في الوقت المناسب ومن ثم التفطن لحلها متأخرين وأحياناً متأخرين جداً، وربما دفعنا ثمناً باهظاً بسبب عدم مراعاة فوراق التوقيت بين التشخيص والعلاج! متى يتنازل الإداري عن ترديد إنجازاته، ويلتفت إلى قراءة اخفاقاته؟)(7).
الأستاذ التركي هو رأس جسر لانطلاق المجتمع من قلمه يصب نيراناً على العوائق المنصوبة في وجه تطور المجتمع وتقدمه، فهو يقول: (فقط.. دعوا الأفكار تتصارع في النور.. أزيلوا مفردات (الخيانة) و(التكفير) و(الاستغراب).. و(الرجعية) و(التخلف).. ولا يزايد أحد على (دين) أحد أو (وطنيته) أو (انتمائه).. واستشرفوا حكم التاريخ الذي سيهزأ بمن ظن في نفسه (فقط) صلاحاً وفلاحاً..)(8).
وهو محفز المجتمع ودليله.. (.. الأهم.. استعادة الولع المعرفي - العلمي - التقني في نفوس الناشئة بعد أن خبا وهجه في دواخل الراشدين.. وسنحتاج من أجل ذلك إلى أن يتصدر الرياضي والفيزيائي والكيميائي والفلكي والاقتصادي والطبيب والمهندس والتقني والفني فنتحول إلى مجتمع عامل يصدر المنتجات لا الأدلجات والإنجازات لا المماحكات..!)
وهو يقوم بهذا الدور، لأنه يدرك مواطن الضعف والقوة في أفراد مجتمعه، وبوسع عينه أن تتعدى يومهم إلى غدهم (قد تبدو اللوحات متعددة الألوان لكنها تنتمي إلى مدرسة واحدة تخاف من (اليوم) وتحاول تغييره، وتخشى (الغد) وتتفادى تأثيره ويقلقها (الأمس) الذي لم ترض به حين كان..!)(9).
وهكذا نرى أن الأستاذ إبراهيم التركي بثلاثيته (كيلا يؤرخ أيلول - وفق التوقيت العربي - الإطار يكفي) المميزة في سماء الفكر العربي قد شكل مرآة يرى فيها الآخرون ذواتهم، فالناس وإن تكاثرت أعدادهم إلا أن جوهرهم واحد وذواتهم المتعددة ما هي في نهاية المطاف إلا ذات واحدة، تجد التعبير عنها في ذات محدودة معينة هي ذات الكاتب.
وهكذا فإن قراءة مؤلَف مثل (وفق التوقيت العربي) هي قراءة عصر بأكمله وليست مجرد معرفة فكر الأستاذ التركي كفرد، ولكن في المقام الأول تعني الاطلاع على الروح الكامنة في مثل هذا العمل، أي الاطلاع على جوهر الإنسان ككل والروح الإنسانية بصفة عامة، الكامنة في فكر الأستاذ التركي كفرد وصل إلى مرحلة الكتابة الحقة، التي تعبر فيها ذات معينة عن مجمل الذوات ويعبر فيها فرد بعينه عن جوهر الإنسان ككل.
وهو بذلك يشبه العلامة (ابن خلدون)، فعند قراءة فكر فرد ك(ابن خلدون) فإننا لا نقف على حدود هذا الرجل، بل ننظر من خلاله على عصر بأكمله وحضارة بشمولها منذ البداية حتى النهاية.. أي منذ انبثاق الروح وجوهر الإنسان في تلك الحضارة وذلك العصر وحتى اختناقها.
إن للأستاذ القدير إبراهيم التركي صوته الخاص، وهو صوت قوي نتبينه من عشرات الأصوات.. فيه صلابة نفاذة، تقلق الأذن ثم ترغمها على الإصغاء.
إنه صوت من رأى رؤى، وأحس بالمأساة.
(1) وفق التوقيت العربي ص 156
(2) الإطار يكفي ص 108
(3) كيلا يؤرخ أيلول ص 89
(4) كيلا يؤرخ أيلول ص 137
(5) الإطار يكفي ص 194
(6) وفق التوقيت العربي ص 104 ص 105
(7) الإطار يكفي ص 56
(8) كيلا يؤرخ أيلول ص 53
(9)وفق التوقيت العربي 124
فريال الحوار «الطائية»
ماجستير قانون
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|