من للرصيف؟ نايف فلاح
|
وبعد أقاويل بينهما لا تهم، أو لعلها تهم شيئا من شيء.. المهم أنه عاود استئناف.. كلا.. إنه واصل فائتا من حوار كان دار بينهما، إذ ألقى إليه مزقة من كتاب، قائلا:
آه لو أنني كنت كاتبها!..هب أنني هو..لا..إنني هو..
ما فيها - أي الورقة - حديث بين صديقين؛ أحدهما يذكر بل يشرح مفلسفا سر ازدرائه هذه الدنيا.
(في الغالب ليست حياة الواحد منا تتغلب على الستين إلا القلائل.. أليس كذلك؟! نصفها يهدره النوم.. تبقى ثلاثون سنة.. أحسابي صحيح؟!
اطرح من هذه الثلاثين عشر سنوات؛ منهوبة ما بين مرض وسفر وأكل وفراغ.. تبقى عشرون.. نصفها قد ذهب في حماقة الطفولة التي عادة ما ندعوها براءة.. وحسب قانون الحساب عندنا.. في اليد عشر سنوات.. أليست هذه العشر خليقة بأن يعيشها الإنسان بطمأنينة وهناء؟)
رفع عينيه عن الورقة ونظر إليه.. إلى وجهه.. ذلك الوجه الذي ظل عمره يهم أن يبتسم لكنه لا يفعل، إلا هذه اللحظة فقد أفلتت البسمة لأول مرة أمامه..
وما دخل هذه الورقة في كلامنا؟
- إنها الإطار العام له!
أرخى قدمه من على كابح السيارة، ومضى في سخرية، ثم وقف على بُعدة، وصاح في كلام؛ آخره (ينفعك).. ثم انطلق إلى طريقه..
فوقع في تقديره أنه قال:
(ابق على هذا الرصيف فلن ينفعك)
فتش في جيوبه عن ورقة، حتى أسعفه صندوق السجائر، ونفض عن قلم حتى راغ إلى البقالة واستعار قلما؛ شرع يجيب عن تهكم صاحبه في رسالة لنفسه:
مالك والرصيف!
أليس هذا الرصيف حيزا من المكان؟!
والمكان.. أليس محايثا للزمان؟!
والزمان والمكان.. ما الحياة من غيرهما؟! أو على أقل تقدير؛ الحياة التي تنشدها أنت!!
فاعلم؛ أنني في هذا الرصيف شاغل من المكان موقعا، ومن الزمان قدرا!
أنا في الحياة كما أنت بها!
حاين قيامه ارتفاع الأذان؛ فقام مزهوا كمن حالفه النصر، فطفق يطيش كفه في الرصيف، يلملم خصوصيته منه.. صندوق السجائر.. مقبسة الدخان.. الجريدة.. علبة البيبسي.. رواية.. وراح إلى المسجد.
* تصرفت الذاكرة في قصة لغسان كنفاني
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|