هل كان أمين الريحاني عميلاً أمريكياً؟! عبد الله الماجد
|
(1-2)
يعيب على ما نشرته مجلة (الهلال) المصرية العتيدة، بعنوان (وثيقة خطيرة: أمين الريحاني جاسوس أمريكي)، أنها لم تنشر صوراً للتقارير التي كان يرسلها للخارجية الأمريكية، التي قال عنها المؤرخ الراحل الدكتور (محمد أنيس) الذي كشف عنها وترجمها: إن (بعض هذه الوثائق خطير ومكتوب بخط يد (الريحاني)، ومنها تقارير منه شخصياً لوزارة الخارجية الأمريكية). ولست أشكك في نزاهة الراحل (محمد أنيس)؛ فهو المؤرخ وأستاذ التاريخ الحديث، ويعرف خطورة ما كشف عنه وأهميته، فلو أنه أشفع ما نشره بصور عن وثائق الريحاني بخط يده لسدّ باب الذرائع والتشكيك في صحة تلك الوثائق، ولاكتملت صفة النشر العلمي.
فما الموضوع؟ وما أساسه لمن لم يتابعه حينما نشر؟ وما الرأي في كون (أمين الريحاني عميلاً أمريكياً)؟!
ليس بين المثقفين والمعنيين بالتاريخ العربي الحديث مَنْ لا يعرف (أمين الريحاني)، ومَنْ لم يُعجب به. لقد وقعتُ في هواه في وقت مبكر، وكتبتُ عنه موضوعاً من أوائل ما كتبت بعنوان: (أمين الريحاني فيلسوف الفريكة). مؤلفاته لا تزال رائجة، وتُعاد طبعاتها على رغم مرور 82 عاماً على صدور أول طبعة من أشهر كتبه (ملوك العرب). نُشر من مؤلفاته 57 كتاباً، منها 27 كتاباً باللغة العربية، و30 كتاباً باللغة الإنجليزية، وتنوعت موضوعات مؤلفاته ومجالاتها، فله في الرحلات والتاريخ، والمقالات السياسية والاجتماعية، والنقد الأدبي والمقالات الأدبية، والشعر والرواية والقصة والمسرح، وله مجموعة من الرسائل.
وقد طَوّف في بلدان العالم، وعاصر تكوين البلاد العربية بعد الحرب العالمية الأولى، وتعززت صداقاته بالملوك والأمراء العرب في ذلك الوقت، وكانت أولى زياراته للبلاد العربية زيارته للحجاز في مطلع عام 1922م، بعد أن كاتب الشريف حسين الذي دعاه للزيارة. لكن الريحاني بعد تلك الزيارة لم يكن معجباً بالشريف حسين، بل انتقد سياساته، وعلى العكس من ذلك كان معجباً بالملك عبد العزيز آل سعود، وكان يعتبره (ملك العرب)، وتوثقت علاقته بالملك عبد العزيز، فإلى جانب ما كتبه عنه في (ملوك العرب) ألّف كتابه الشهير (تاريخ نجد الحديث وسيرة عبد العزيز عبد الرحمن آل فيصل آل سعود ملك الحجاز ونجد وملحقاتها)، وهو يقول في أسباب وقصة تأليف هذا الكتاب:
(وعندما جئت الرياض، وبدا من عظمة السلطان ذاك التعطف الخاص الجميل، فأنزلني في القصر، وكان يشرف منزلي كل ليلة بعد صلاة المساء (هكذا في الأصل)، تشجعت فاستأذنت بأن أكون مؤرّخه، فأجاب، وكان الجواب مبهجاً: ما يخالف (لا بأس)، فاستويت واقفاً وشكرته، ثم قلت: وخير البر عاجله، لنبدأ إذا أمرتم الآن.
- ما يخالف.
وكان على المنضدة الورق والحبر، فجلست أكتب ما رواه تلك الليلة من أخباره الأولى في الكويت. وبعد ذلك، أثناء المدة السعيدة التي أقمتها في الرياض؛ أي ستة أسابيع، كان عظمته يروي من أخباره ما يستغرق ساعة واحدة كل ليلة، فنتعاون أنا والسيد هاشم الرفاعي في التدوين. وكنت أستوقف عظمته في بادئ الأمر مراراً لأفهم معنى لفظة من ألفاظه، أو عبارة نجدية الاصطلاح. وكنا فوق ذلك، رغبةً في التدقيق والتحقيق، نقرأ قبل أن نباشر الكتابة ما كتب الليلة السابقة، فيصلح عظمته ما قد يكون فيها من الخطأ.
هذا المصدر الأول الأعلى لهذا التاريخ، أضفْ إلى ذلك رسائل عدة ووثائق رسمية أطلعني عظمته عليها، وأذن بنسخ بعضها).
ولم يُعمّر الريحاني؛ فقد توفي عن 64 عاماً كانت حافلة بالعمل الدؤوب والترحال في بلدان العالم، وأقام علاقات جيدة بشخصيات مؤثرة في تكوين تاريخ العرب الحديث، ترجم له (الزركلي) في كتابه (الأعلام)، ومما جاء في ترجمته:
(أمين بن فارس بن أنطون بن يوسف بن عبد الأحد البجّاني، المعروف بالريحاني: كاتب خطيب، يعدّ من المؤرخين. ولد بالفريكة (من قرى لبنان)، وتعلم في مدرسة ابتدائية، ورحل إلى أمريكا وهو في الحادية عشرة مع عمٍّ له. ثم لحق بهما أبوه فارس. فاشتغلوا بالتجارة في نيويورك، وأولع أمين بالتمثيل، فلحق بفرقة جال معها في عدة ولايات. ودخل في كلية الحقوق، ولم يستمرّ. وعاد إلى لبنان سنة 1898م، فدرس شيئاً من قواعد العربية، وحفظ كثيراً من لزوميات المعري. وتردّد بين بلاد الشام وأمريكا ثماني مرات في خمسين عاماً (1888-1938م)، وزار نجداً والحجاز واليمن والعراق ومصر وفلسطين والمغرب والأندلس ولندن وباريز، وكتب وخطب بالعربية والإنكليزية، واختاره معهد الدراسات العربية في المغرب الإسباني رئيس شرف، كما انتخبه المجمع العلمي العربي عضواً مراسلاً (سنة 1921م)، ومات في قريته التي ولد بها. وكان يقال له: فيلسوف الفريكة. ونسبه جدّه عبد الأحد البجّاني إلى قرية بجّة (في بلاد جبيل بلبنان)، والريحاني نسبة إلى الريحان؛ النبات المعروف).
أما قضية العمالة والجاسوسية للأمريكيين التي وُصف بها أمين الريحاني فيقول عنها الدكتور (محمد أنيس):
(ولقد كان أمين الريحاني - في نظر المؤرخين - من أكبر من عُنوا بتاريخ العالم العربي المعاصر عامة، وشبه الجزيرة خاصة، وبالذات ملوكها. وفجأة سقطت في يدنا وثيقة أمريكية (بعد أن كشفت الوثائق الأمريكية لأحداث لا يقل عمرها عن ثلاثين عاماً. كشفت عن أن أمين الريحاني عميل أمريكي، يرسل ما يشاهده ويعرفه عن أحوال العرب وأمورهم السياسية والاقتصادية والثقافية - وبالذات أمور ملوكهم - إلى الإدارة الأمريكية عن طريق القنصلية الأمريكية ببيروت.
ولا شك أن هذه الحقيقة، التي صدمتنا جميعاً، قد أثارت في النفس الكثير من التساؤلات: فمثلاً متى وكيف وقع اختيار الاستخبارات الأمريكية على أمين الريحاني لينير لها الطريق في العالم العربي؟ وكيف رضي ضميره وشرفه ككاتب ومؤرخ أن يقوم بمثل هذا العمل؟
ومن المؤكد أن هذه ليست الوثيقة الوحيدة التي كتبها أمين الريحاني إلى الإدارة الأمريكية، فأين بقية مراسلاته؟) (الهلال، عدد فبراير 2006م، ص 14-16).
فإذا كان (الريحاني) بهذا المنطق عميلاً وجاسوساً للأمريكيين في البلاد العربية، وعلى وجه الخصوص في شبه الجزيرة العربية، فمتى وكيف تم تجنيده؟
مرة أخرى يجيب عن هذا التساؤل مكتشف ومترجم تقرير الريحاني لوزارة الخارجية الأمريكية الذي يعود تاريخه إلى 27 أكتوبر عام 1922، يقول الدكتور (أنيس):
(أغلب الظن أن يكون هذا قد حدث في الفترة الأولى من حياته في الولايات المتحدة، وبالذات بعد فشله في التمثيل، وفشله في دراسته القانونية. وأغلب الظن أنه بعد هذا الفشل عرض نفسه للخدمة لحساب الجاسوسية الأمريكية، أو التقطته الجاسوسية الأمريكية، فطلب إليه السفر إلى وطنه في العالم العربي ودراسته وكتابة التقارير إلى الخارجية الأمريكية. ولما كان انخراطه في شبكة الجاسوسية الأمريكية قد حدث في أمريكا فلا بدَّ أن يكون أمين الريحاني جاسوساً من نوع متميّز، أقصد أنه لم يكن جاسوساً لحساب القنصلية السورية في بيروت، (لم يكن قد حدث انفصال لبنان عن سوريا حتى ذلك الوقت). ولكن اتصاله كان مباشراً بوزارة الخارجية الأمريكية، وما القنصلية في بيروت سوى حلقة وصل، مهمتها تسلُّم تقارير الريحاني وإرسالها فوراً إلى الإدارة الأمريكية. وهذه حقيقة تفسّرها العبارة التي وردت في الخطاب المرفق بالتقرير من القنصل بالنيابة - إدوارد جروث - إلى وزير الخارجية الأمريكية التي يقول فيها:
(لي الشرف أن أرسل إليكم مع هذا - بناءً على طلب أمين الريحاني - تقريراً عن جزيرة العرب قد يكون ذا أهمية لدائرة الشرق الأدنى بالوزارة).
(أما تردُّده بعد ذلك على الولايات المتحدة الأمريكية فمن البديهي أن يكون الغرض منه معرفة تطور اهتمام الولايات المتحدة نفسها بالمنطقة، أو أن هناك أنباء بلغت حداً من السرية أصبح من الأفضل معها أن يسافر أمين الريحاني إلى الدوائر الحاكمة في واشنطن بنفسه، ومن المحتمل أيضاً أن يكون سفره المتكرر لمعرفة وقْع تقاريره على الدوائر الحاكمة، وتجديد علاقاته بها وتقوية هذه العلاقات. كل هذا وارد). (الهلال، عدد فبراير 2006م، ص 17- 18).
إلى هنا نتوقف برهة، على أن نستكمل هذا الموضوع في الأسبوع القادم بإذن اللّه، لنجيب عن السؤال الذي لا يزال معلقًا، وسوف نستعرض ما جاء في تقرير الريحاني، ونحاول الإجابة عن السؤال: هل كان الريحاني عميلاً أمريكياً؟!
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|