أيام تونسية.. لكن في تونس سعد البازعي
|
هاتفني الصديق الدكتور عبدالعزيز السبيل، وكيل وزارة الثقافة والإعلام للشؤون الثقافية، منذ أيام؛ ليدعوني - بأريحيته وكرمه المعهود - إلى حضور استهلال الأيام التونسية الثقافية في الرياض، فقلت له إنني في تونس نفسها، أحضر - بدعوة تونسية كريمة أخرى - ثقافة تونسية وأياماً تونسية ثقافية لا تقل أهمية، في تقديري على الأقل. وكانت تلك بالفعل أياماً تونسية ثقافية مهمة ولكن من نوع مغاير قليلاً. فهمّ الثقافة واحد لكن نوع الثقافة وطبيعة النشاط تتفاوت.
في تونس كنت أحضر ندوة أقامتها كلية الآداب بجامعة منوبة (بتشديد النون وضمها) ممثلة بما يسمونه هناك (وحدة تحليل الخطاب) التي يديرها الدكتور حمّادي صمّود، وتضم مجموعة من الباحثين التونسيين المتميزين من تخصصات مختلفة. وصمود هو أحد أبرز الباحثين التونسيين اليوم في الدراسات الأدبية بشكل خاص والعلوم الإنسانية والاجتماعية عموماً. أما تحليل الخطاب فالمقصود به نهج من البحث يتجاوز التخصص الواحد إلى عدة تخصصات، حيث يتركز على كيفية صياغة الخطاب في العلوم الإنسانية والاجتماعية، وكان موضوع الندوة متفرعاً من ذلك الاهتمام المنهجي والمعرفي، فقد تركز على بلاغة الحجاج أو المحاجة، أي كيفية صياغة الحجج والدلالات المختلفة لتلك الحجج في المعرفة الإنسانية. ذلك أن المعرفة إنما تنشأ عن جدل قد يتضمن اختلافاً أو اتفاقاً في وجهات نظر، بمعنى أن الباحث عن المعرفة سواء كان فيلسوفاً أو ناقداً أو عالم اجتماع أو مؤرخاً فإن لديه وجهة نظر يدافع عنها بالمحاجة أو الحجاج؛ ما ينتج عنه بلاغيات محددة أو أساليب في توظيف اللغة وطاقاتها البلاغية في تبرير وجهات النظر وهزيمة الخصم. هذا مع أن الحجاج هو من صلب القانون والسياسة بشكل خاص كما هو معروف.
أقيمت الندوة بالتعاون بين وحدة تحليل الخطاب ومعهد فرنسي مهتم بالموضوع نفسه، فكان الحضور من الجانبين التونسي والفرنسي مضافاً إليهم بعض الباحثين العرب الذين لم يتمكن بعضهم من الحضور لأسباب مختلفة، كان من بينها صعوبة الحصول على تأشيرة دخول بعد أن فرضت تونس على مواطني بعض الدول العربية ومنها المملكة التأشيرة. وكان أحد الباحثين اللبنانيين قد اكتشف متأخراً أنه يحتاج إلى أسبوعين على الأقل للحصول على تأشيرته فألغى حضوره لذلك السبب. ولا شك أننا هنا أمام عائق مؤسف في وجه تطور المعرفة والبحث العلمي في الدول العربية، وليست تونس وحدها التي تطالب بالتأشيرة، فنحن إزاء ظاهرة عامة قد تكون لها مبرراتها، ولكن التشدد في تطبيقها خاصة على باحثين كبار سواء في المقام أو في العمر هو مما يصعب تبريره. هذا في حين أن بعض القادمين إلى الدول العربية من دول الغرب لا يجدون عنتاً كبيراً في ذلك.
لكن بعيداً عن تلك المسائل ينبغي الإشادة بمستوى التنظيم الذي وجدناه على الرغم من تواضع الإمكانات قياساً بما يتوافر في بعض الدول العربية، وكان مما لاحظه أحد الزملاء هو أننا نمتلك الكثير من الإمكانيات (المال والتجهيزات وغيرها) ولكن إسهامنا متواضع في حقول المعرفة المختلفة إذا ما قارناه بما تنتجه تونس أو المغرب على سبيل المثال. ومستوى الإنتاج هو الناحية الثانية التي تلفت النظر، فقد كانت الندوة أشبه بالعصف الذهني الرفيع المستوى للموضوعات المطروحة، ولعل في إعطاء قائمة ببعض الموضوعات وباحثيها مما سيوضح المقصود: فقد قدم الباحث التونسي حافظ قويعة ورقة بعنوان (حجة السلطة في الثقافة العربية: إحياء علوم الدين أنموذجاً)، وقدم الفرنسي من أصل لبناني مارون عواد بحثاً بالفرنسية حول أحد تلامذة ابن رشد هو ابن طملس في كتاب له حول البلاغة في كتب الفلسفة والطب. أما عبدالقادر المهيري، وهو عالم لغة تونسي معروف وأستاذ لجيل من الباحثين التوانسة منهم حمادي صمود نفسه، فقدم ورقة حول (سيبويه حجة في النحو العربي)، في حين قدم عبدالمجيد الشرفي، وهو الباحث البارز في الإسلاميات، ورقة حول (مناهل السلطة في الحقل الإسلامي). أما الصديق الدكتور محمد الهدلق فقدم ورقة حول (الحجاج بشأن الأحقية في الخلافة بين الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور ومحمد بن عبدالله (النفس الزكية)). ومن جانبي قدمت ورقة بعنوان: (من الهامش إلى المتن: اليهود وخطابات الثقافة الغربية)، تناولت فيها ما أسميته لحظات توتر في مواجهة المفكرين ذوي الانتماء اليهودي مثل سبينوزا ومندلسون وماركس للحجاج المسيحي من حولهم.
كانت تلك أياماً تونسية أخرى تضاف بالتأكيد للرصيد التونسي المميز في الثقافة العربية، فإن كل الجمهور السعودي شاهد جانباً من ذلك الرصيد، فقد أتيح لنا في تونس نفسها أن نشهد جانباً آخر من ذلك الرصيد. إنما اللافت هو أن كثيراً من الأنشطة يأتي في شهر محدد هو نوفمبر ليس في المملكة وحدها وإنما أيضاً في تونس وفي بعض البلاد العربية الأخرى.. لماذا؟ لا أدري بالضبط، لكنه مما يضعف احتمالات المشاركة والحضور، على أنه يظل في نهاية الأمر جهداً طيباً ومشكوراً في كل حال.
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|