رفيف سيدة الدمى د. فاطمة الوهيبي*
|
أذكرها الآن جيداً، تنهض الآن من ذاكرتي، وعلى الرغم من صغرها فهي تسد الأفق الآن، وتنتشر في كل مكان، قطنها المندوف يملأ الكون كله. أذكر تلك الدمية التي لم تكن صغيره فحسب، بل كانت بحجم طفولتنا النحيلة، ولأنها كانت دمية من القطن المنفوخ فقد كانت تبدو عبلة بدينة كانت لعبتنا المفضلة (الصديقات وأنا) كانت سيدة الدمى.
ذات يوم فوجئنا بها في حالة يُرثى لها ممزقة متناثرة، مبعثرة أعضاؤها، وقطنها الأبيض يسيح على الأرض، يملأ المكان!! اجتمعنا والصديقات نتساءل ما الذي حدث؟ ومن المسؤول؟
وتناقلت البنات روايات عن غيرة عروس الجن منها، وبعضهن اقترحن غضب الساحرة العجوز؟ وبعضهن قلن: إنها ربما أكثرت اللعب، وبعضهن قلن: قد تسممت أو هرمت أو مرضت.. لكننا ما استطعنا أن نكتشف من وراء هذه الحال المروعة إلا بعد مدة وجهد من التحريات التي، تبرع فيها عادة الإناث، فقد تبيَّن لنا أن الأخ الأكبر لفرقة أولاد الحارة قد عمل هذا إغاظة للفتيات، لأنهن رفضن ذات يوم أن يسمحن باستعارة سيدة الدمى ليثبتها في مرمى كرة القدم وراء الحارس لمزيد من اللهو والإشغال والخديعة.. ورداً لكيد الفريق المتآمر قررت الفتيات العودة إلى الدمية الممزقة.. حاولنا خياطتها من جديد، ونجحنا إلى حد كبير، لكنها لم تعد أبداً كما كانت.. ظلت غير متماسكة تماماً وبقيت شبه مهلهلة، أصابعنا الصغيرة الحزينة لم تستطع إخفاء المزق، ولم تحسن رتق كل الجروح في نسيجها الغض، كان قطنها الأبيض يطل من بين الغرز، وأخذ لونه يتحوَّل يوماً بعد يوم، كما أنها أخذت تفقد لياقتها وتماسكها، حيث نزلت كميات من قطنها إلى قاع الرجلين، أو عند المنحنيات والمفاصل، فبدت بعض أجزاء جسمها الخاوية من القطن كقماش متدلٍ متهاوٍ، وفي مناطق أخرى من جسدها المسكين كانت تبدو أحياناً قطع قاسية متجمدة متجلطة صلبة، لكنها صلابة متعقدة على نفسها، حيث تبدو قطعاً متجاورة لا متراصة في نسيج قطني واحد.. غدا منظرها بشعاً، ويكسر النفس على نحو غير محتمل!! قررت مع صديقتي أن نعمل لها ظهراً يساعد على تماسكها: قطعتان من الخشب تتقاطعان في الربع الأعلى من فوق، لكن هذه الخطوة لم تفلح تماماً، على الرغم من أننا جعلنا القطعة المعترضة بمثابة الكتفين والذراعين، وجعلنا الأخرى بمثابة العمود الفقري.. كان تمزُّقها الكبير أكبر من أن ترقعه أو ترتقه أناملنا الصغيرة، ثم بدأنا (صديقتي وأنا) نصنع الدمى من الخشب الأجرد العاري النحيل، نضع قطعتين من الخشب متصالبتين عند اليدين والكتفين ونرفع فوق القطعة العمودية (تاج العروس) وهي حلية أشبه بالهلال فوق منارة المسجد يطل من فوق وجه مدوّر نصنعه من قطعة مجففة من العجين الأبيض.
نبرع في رسم العينين والأنف، ونسدل بقطع من (الشيلة السوداء) ما نتخيَّله شعر الدمية، ولم ننتبه إلى التنوُّع والتكامل والغِنى في تكوين دُمانا إلى أن كبرنا!! ولما كبرنا كانت سيدة الدمى تطل كلما طار قطن أو تدلى من خارطتنا العربية!!
* حرر هذا النص أثناء غزو الكويت وحرب الخليج سنة 1410هـ.. والنص صالح للقراءة مع كل مناسبة عربية لبقر بطن الخارطة من جديد.
Rafef-fa@maktoob.com
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|