صوت الحكاية.. صمت المكان قراءة في "الترياق" لأميمة الخميس محمد الدبيسي
|
وتتمحور محصلة التفكير إلى تراكيب تعبيرية نفسية لحالة "هيفاء" ممعنة في استدخال وميضها النفسي وعذابات داخلها ومحاولاتها التحلل من سأم حياة كهذه..؟
ويبدو تراكم التقليد الاجتماعي أكبر بكثير من تلك الاسئلة، ومستعصيا على الولوج في اجابات مقنعة، وتستعيد ذكريات شهر العسل، الذي يستحيل إلى جروح أمام الواقع العائلي الجديد، فتستصفي الكاتبة محصلتها في وصف جارح وحقيقي يشف عن مدى الهوة الشاحبة في روح هيفاء "وتنطلق في هذه الحياة شهاباً بدائياً وجامحاً ولا تتعدى بنا الحياة إلا عندما نمرق من بوابة الحزن" ص19.
وهذا التبئير الدلالي للسأم الحياتي كمفهوم تتوزعه الجغرافيا النسوية.. يجد له نموذجاً في "هيفاء" وسيطال أخريات..!
"لتظل" فتاة ال "كما يحب" تعريفاً مغايراً يستدعي أمثلة أخرى بينما ينغرس في غصة "هيفاء" بديلاً وصفيا للعبارة الاعتيادية الغبية التي تنصصها الكاتبة..! امعاناً في تكثيف دلالة الشرط الاجتماعي المأهول بإسقاطاته.
"هيفاء المبطنة الرقيقة فتاة ال "كما يحب" لا تمتلك سوى "مبراة" وحيدة للأقلام الرفيعة الرقيقة، ولكنها لا تحفز السواقي عميقاً في دهاليز الروح" ص19.
ولتنتهي أجرام التفكير والتأمل في دخيلة هيفاء إلى احتمالات النهاية..؟
اما البحث عن ذخيرة احتمال الواقع أو العودة إلى بيت أهلها.. لتطالها نموذجية الشرط بذلك القدر من القسوة المتناهية في الانزلاق بالاعتبارات الاجتماعية، دونما اعتبار لجروح تفكيرها المكتسية، لون انجراف حميم لهواجس امرأة.. تعيش ضراوة وحدة قسرية في منزل تكمل فسيفساء جماله المظهري.
ويبدو هذا النص مدخلاً دلالياً تؤسس له العتبات، وتبحث عن أساس آخر يؤكد شرعيتها.
"الشرعية" المتداولة اجتماعياً في ناموس الحياة ومقتضى العادة اليومي.. الذي يبرز في نص "عنوان منال" الذي يطال شريحة اجتماعية مغايرة في هويتها.. وإن كانت متآلفة في النسيج الاجتماعي للرياض.
فمنال الفتاة الشامية تغادر الرياض إلى "تورنتو" وتتبادل الرسائل مع صديقتها "وفاء" لتكون الرسائل النص السردي المعبر في فحواه عن تفاصيل العلاقة وعمقها، ويعبأ بمتغيرات الحياة الجديدة، ويسترجع ذكريات الاقامة في الرياض وسنوات الدراسة، وتبزغ جدلية المكان، بين حيزين جغرافيين، يتماسان مع "منال" المحور المشترك ورمزية الرباط الشخصي بين عالمين تستوحي أخيلتهما الذكروية، وواقعهما المتضاد عبر الرسائل، باشارة الزمن، اذا تمثل الرياض المكان الماضي زخم الذكرى والحميمية، بينما تمثل "تورنتو" الحاضر والغربة الحتميين، وتشير الكاتبة بإرهاص مفهومي متلبس بحالة إيماء، عن وضع سياسي وإداري طال المنطقة، "كان فصلاً دراسياً ممتعاً ومحتدماً بالتفاصيل الغرائبية حول "منطاد" كنا نلاحقه وبنت بداخله أنفاسنا المتحمسة الساخنة، وذلك قبل أن ينفجر إلى مزق وشظايا كانت منال المتضرر الرئيسي منها" ص21.
ففي هذه السطور تتلخص نتائج ذلك الوضع الذي شتت "المنطاد/ الحلم.." وأفزع هواءه، لتكون الرسائل معبر الالتقاء الوحيد بين منال ووفاء، مجسدا ضرورة الارتباط بالمكان، ومحتواه النفسي في وجدان من أجبر على مغادرته، ويكوي جمر الرسائل فثره الذكريات.
"وفاء:
ماذا أبثك الشجون إلى الشكوى؟ كيف أنت؟ أكتب لك هذه الرسالة والساعة لديكم الآن في الرياض الخامسة والنصف عصراً لم أغير ساعتي عن توقيت الرياض، لعل هذا هو الرابط الوحيد الذي يبقيني في تواصل ما مع الرياض "ص22.
هذا التواصل الذي ينبني على المفارقة المغايرة في سياق القص، لتمثل الرسائل المتبادلة، مادة "الحكاية" تبدأ من الرياض، وتستفيض في أثخان الذكرى بالتفاصيل الحميمة المغرقة بشجنها والمؤملة في آن.
وتصف الكاتبة في مهاد أولي يمزج بين التذكر، والموقف المباشر، ظلال المكان "الرياض" على سحنة منال المظهرية وعلى تكوينات داخلها الإنساني، وتفعل ضراوة المكان "الجغرافيا" على "منال" المغببة قسراً عن الرياض، فيما تظل المدينة/ الحياة والذكريات، تتشرب داخلها.
"كانت تضع أحمر الشفاه عنابياً غامقاً، وترفع شعرها عن وجهها بطوق أسود متين لينسدل على ظهرها، فتبدو كصبايا "نجد" اللواتي أورقن بعد سنين الطفرة" ص22.
وتشي تفاصيل الرسائل الثنائية بهوة عناء البعد.. وتند لتعلق عن بعض الظواهر الاجتماعية المتباينة بين المدينتين "الرياض وتورنتو" لتعود تفضي بشيء من تفاصيل الإقامة الحميمة في الرياض، وتصل إلى بؤرة جرحها "عبدالعزيز" حيث يمثل محصلات جاه الحيثيات، الذي ارتبط عاطفياً بمنال وأذاقها لذة الاحلام.. محققا منها ما يكفل تفوقه الفحولي ونزوته النرجسية..!
ليكسر الشرط الاجتماعي الداخلي مسار تلك اللذة ويحولها إلى ذكريات، تجوسها رسائل "منال" وتنكؤها "وفاء" البصيرة بتلك الاشتراطات..؟
تسعة وعشرون عاماً قضتها الفتاة الفلسطينية منال في الرياض "بينما أشعر أن منزلي هو شقة في الطابق الثالث داخل عمارة في شارع الخزان تجاور حديقة الفوطة التي تضيء أشجارها في الثلث الأخير من الليل عندما تحط فوقها عصافير الوله النارية عائدة من رحلتها السرية بين أحياء المدينة" ص2526.
والشتات الذي ينذر بعواقبه.
واحتذام جرحها المضني وهي تقتات ذكراها.
"آه.. كم سفحت من قوارير كرامتي بين يدي عبدالعزيز وانا ألح عليه الزواج" ص30.
مجتمعات متباينة، وأزمنة وذكريات يبلها حبر رسائل "منال" وهي تسترد ضنى ذكراها، وتبعات تفصيلية في بنية السرد القصصي تستوجبها سياق الرسائل المتبادلة، تكون مزيجاً من شعور الغربة المر.. وبقايا ما تجذر في الذاكرة من تفاصيل..؟
وإضمامات وصفية تعيد تشريح مظاهر اجتماعية مفرغة من محتواها القيمي، هائلة بقشورها وتجاويفها الممعنة بالبذخ والخواء..!
واصطدام الواقع النفسي/ لذاتي بالشخصيات في اطارها العائلي بشروط حتمية ونفسية لمجتمع تضيع علاماته الفارقة..!
تحظى "منال" بقسم مؤلم منها، وتعبر رسائلها عن بعض تبعاته، وهي غير موعودة بهدأة المصير ونهاية الاغتراب..؟
"سأتوقف الآن.. وبانتظار رسائلك هذا عنواني.. إلى الآن مازلت أطمح بأن يكون نهائياً. إلى أين؟؟
هاها.. لا أدري..!!
منال 26/3/97" ص31
ويبدو اجتراح الكاتبة لموضوع النسيج الاجتماعي العربي في مجتمع الرياض، مؤكدا على هويته الوطنية، بكل امتيازاتها وثقوبها وتبعات تشظيها بين الوئام الانساني غير المعني بتقسيمات الهوية السياسية للناس.. وتمازج عنصرهم الانساني بهذه الشفافية من العلاقات.
والتي يعير النص عن مصائرها المعذبة، واكتواء هذه البنية المهيمنة بنطاقها الوجداني، بنتائج لا تدخل في صميم تلك العلاقات ولحمة تماسكها العاطفي، ودخول عناصر بعينها في حيوات خاصة، لها إرثها الاجتماعي ومواصفاتها التربوية، ونسق تركيبتها النفسية.
ليلم النص بكل التشظيات التي تسفر منها حياة "منال" في الرياض المحتواة في النص على نحو استقصائي يستجلي دقائق لحمتها وبنيتها العاطفية.
ويلمح بذكاء الى نتوءات مرضية، يتركها المكان بعنصره الشخصاني الفردي، المتغلل في نظام تلك البنية، واستثماره البذخي لنظارتها الانوثية، دون أن يعبأ بما يخلفه سلوكه ذلك من آلام.!
وتبلغ الكاتبة شأواً متعاليا في اقتناص مكامن الاجتماعي الوصفي، في هيكل البنية الإنسانية لنساء الرياض، التي تمثل "منال" أنموذجاً ينسجم معه، في تلاقيها مع "المكان/ الرياض" واستحقاقات وضعيته الاجتماعية.
مستنفذة قدراً من استرداد الماضي القريب لمنال، واشتراكها مع وفاء في "الحلم" المنطاد الذي كونته سنوات الدراسة الجامعية.
وتخاتل انثيالاته العفوية بما تلي تلك السنوات، من نار النأي والانفصال، وهي تحمل في ضمنيات التفاصيل السردية، تشكيلات من التعابير ذات العناية بوصف الحالة الإنسانية للمرأة، وتفرس جغرافيتها المكانية، لتلقي بهذه الضمنيات، في سياق قصصي يلتئم مع المساق العام للبنية بدلالية في المجموعة..!
ففي نص "سورها العظيم" ص37.
تعيد الامساك بخيط سردي، أو مأت إلى نسيجه في نص "فتاة ال "كما يجب" ولكن على نحو معني بنماذجه وبفئة عمرية.. تقارب بها الكاتبة استدخال بنية الحجاب الاجتماعي، على ممارسة مغروسة في مواضعات المجتمع، ومستوفية لشروطه الوجودية.
و.. سورها العظيم".. العبارة المتكئة على رصيد سردي مأخوذ باقتناص حالات تفكير تأملي لا يستوي على تفاصيل مظهرية/ شيئية.. بقدر اختصاره مسافة نصية تصل إلى عمق مفهومي.. متجذر في المكان.. فطقوس حياة منزلية مترفة، تعبر عنها الصبغة الوصفية في النص، يجعل من "سورها العظيم" شفرة تفك جحيم التفكير بمصير يومي، محاط بتأملات تفرضها الحالة الراهنة.. وانقسام ساعة اتخاذ قرار بسيط يومىء بتبعات لا ترضي الزوجين في ماذا لو أخبروا بناتهم عن تفاصيل بداية علاقتهما الزوجية..؟؟
تذهل لها ذات السور وهي تسأل "فلماذا لم يعد يرغب في التحدث عن هذا الموضوع كأنها نزوة صبيانية يكفكفها بخجل"؟ ص44.
وتصبح قصة العلاقة وسببها فزاعة.. لا يرى الزوج أن البنات يتقبلنها بتلك الروح التي أفرزتها، أو بالحيثيات التي اوجدتها..؟
لتظل ذات السور تخاتل الرغبة في استعادة وميضها الذكروي بأحلام قسرية تخضع لها برغبة صادقة، وترتاب من فوضى انكشافها..!
"لم تدعه يحمل سلة تباريحها ومروقها وهو خاضع لشروط المقايضة المجتمعية بإخلاص ونبل.. أعطنا انضباطاً وخضوعاً نفسح لك مكاناً بيننا..؟؟" ص44.
فهذه المحصلة التفكيرية تقوض مخملية الحياة المترفة التي تنعم بها، وتطوقها بالسور العظيم، الذي تبتنيه الحجب الاجتماعية، ويمثل موقف الزوج التفسير الواقعي لها "ولكنها لم تنتظره خلف بوابة المجتمع لقد قابلته عند "عين الماء" عين الماء السرية التي تسقي صبايا الرياض، الهاتف.. قصص حب وهجمات الاخوة وتربصهن وهجر ولوعة وفضائح وخيبات والدماء التي تتكهرب بتوقع الرنين وانتظاره، وعلى عين الماء السرية تقابلا، وبعد مخاتلة ليست بالقصيرة تزوجا.."ص44.
لتنحصر بهذه المجتزأة بوصفيتها الفائقة الدلالة محنة التفكير في إطار اجتماعي.. يتنقى ضوابطه واحترازاته، وفقاً لوحدات قناعية أحادية ينقسم الايمان بها ذاتياً، بحيث تمارس في حدة سرية، لا تنهض على إيمان جماعي بصدقيتها وجدواها.. وتكتنف ممارستها مسببات مجتمعية، أحالت إليها بوصفها منفذاً للمارسة الاختيارية، لما تراه الذات حقها الإنساني المعتبر، في حين يستمنحها الرجل حقاً اعتباطياً مغايراً.. معلناً ذكوريته المهيمنة على استحقاقات انسانية للمرأة.!.
والكاتبة التي لا تفصل في مكامن هذا السلوك كأساس قناعي في المجتمع.. وإنما تحلل مظاهره على شخصياتها، وتتوغل في التعبير عن مساحات نتائج مجتمعية معاينة.. تمثل ذات "السور العظيم" واحدة منها، تستوفي ببراعة وصفية اقتناص التكونيات النفسية لشخصيات نسوية، تمثل وحدة من وحدات الجغرافيا النسوية المستهدفة بالقراءة القصصية.!
تلك القراءة التي تبلغ بنص "سورها العظيم" مستوى.. يختار بنية التفكير المعلن ويضيف طرائف التفكير واستنتاجاته.. بعد أن يمحص السلوك الواقعي للشخصية.. في إطار أحادي تمثل الزوجة بنيته الوحيدة.
وتعتني الكاتبة في الاحتشاد الوصفي المعبر عن شفافيته.. لتصل إلى المكونات الأولى في شخصيتها دونما افتعال توتر جانبي..!
بل إمعان في استقصاء المستوى النفسي وشحناته المتناقضة "سورها العظيم يمسك أياماً ويتحول إلى صخر صحراوي مقدد ويدق ويشحب أحياناً، حتى يكاد يتحول إلى جناح فراشة. ولكنها ثبت أرواحها، في كل الاتجاهات، تبحث مرايا جديدة حين تطالها يجب أن تتعرف إلى نفسها.." ص45.
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|