هؤلاء مرُّوا على جسر التنهدات رئيس جمهورية وشاعر (الزَّنْوَجَة)! بقلم/علوي طه الصافي
|
حين تُذكر (إفريقيا السوداء) تتداعى إلى الذاكرة مجموعة من الصور الغرائبية.. وأطياف الخيال الملونة.. والدهشة الآسرة!!
فيها عوالم مجهولة.. تعيش بعض شعوبها على (الفطرة) التي تتحكم في مظاهر وظواهر حياتهم العامة والخاصة، من خلال عادات وتقاليد وأعراف موروثة ومتوارثة عبر مئات السنين.. بحيث أصبحت بالتقادم قوانين غير مكتوبة، لكنها (ملزمة) للجميع، لا يخرج عن الانصياع لها والتقيد بالتزاماتها إلا شاذٌّ، أو منحرف يستحق العقاب من سلطة الأسرة، أو القبيلة، أو العشيرة!!
وهذه (القوانين غير المكتوبة) تأخذ شرعيتها بالاتفاق، والإجماع، والتطبيق المستمر؛ بحيث لا يتم تغيير بعضها إلا بالطريقة التي منحتها المشروعية.
وهذا لا يعني أن هذه القوانين من العمومية بحيث تشمل كل القبائل والعشائر في كل البلدان.. بل إن كل قبيلة أو عشيرة تختلف في أعرافها القانونية عن غيرها باختلاف ظروفها، وأعراقها، ومواقعها الجغرافية!!
وتتكون هذه الأعراف القانونية من مجموعة من القواعد (الآمرة) الملزمة.. والقواعد (المكمِّلة) لإرادة الأفراد.
فلهم قواعدهم وسننهم في الأحوال الشخصية (زواج، وطلاق، وحضانة أطفال)، إلى جانب طقوسهم الخاصة في الأفراح، والأحزان، وما شابهها.. ولهم أعيادهم، ورقصاتهم المختلفة في السلم والحرب التي ترمز إليها نوعية دقات الطبول التي تثير نفسياتهم فرحاً، أو قتالاً!!
.. فلكل حالة إيقاعها الخاص المتميز, فلدقات طبول الحرب نغم صوتي يختلف عن نغمة صوت دقات طبول المناسبات الفرائحية السلمية!!
ولهم إلى جانب ذلك أغانيهم الخاصة، المصحوبة بصرخات تعبيرية عن حالة الانسجام، والاندماج.. حتى أن الغرب نقل بعضها بإضافة بعض الآلات الموسيقية إليها!!
ولهم أسلحتهم التقليدية المتمثل بعضها أو أغلبها في الرماح.. والأقواس.. والسهام.. والفؤوس.. والمساحي.. والخناجر.. وهم لا يستعملونها في حالة الحرب فحسب.. بل يستعملونها في عملية صيد الهوام.. والسباع.. والنمور.. والأسود.. والذئاب.. والغزلان.. والثعالب التي تعيش في أحراش غاباتهم المتشابكة الأشجار.
وهم خبراء في معرفة مواطئ أقدامهم أثناء سيرهم، تحاشياً للأحناش.. والأفاعي.. والزواحف السامة التي قد يذهب ضحيتها مَن تنزلق به قدمه.. أو ينحرف عن الطريق!!
لهذا كان بعضهم أدلاَّء ومرشدين لبعض الرحالة والمكتشفين من الغربيين؛ إذ بدونهم يستحيل على الرحَّال أو المكتشف أن يحقق شيئاً من الأهداف التي قطع آلاف الأميال من أجلها، متجشماً مشاق الرحلة.. ووعثاء السفر.. ومتاعب التنقل.
وحين تتذكر (إفريقيا السوداء) تتذكر البخور.. وأنواع السحر، والشعوذة.. والاستطباب بكي النار.. والعرب تقول: (آخر العلاج الكي).
وبعض الغربيين يروون حقيقة، أو كذباً وتحقيراً عن وجود قبيلة اسمها (الماوماو) للفرد منها ذيل في مؤخرته.. تعيش على أكل لحوم البشر.. وما آفة الأخبار إلا رواتها!!
والإفريقيون وسط غاباتهم يعيشون في بيوت من قش شجر الغابة، يجعلونها كالخيام.. ويجلبون مياه شربهم من الينابيع، والأودية دائمة الجريان بفعل الأمطار الموسمية التي تنزل بغزارة.. وبواسطتها تنتعش مزارعهم.. فإذا تأخرت الأمطار عن موعد نزولها يمرون بمرحلة شديدة القسوة بسبب (الجدب) الذي يجتاح أراضيهم!!
أما طعامهم فيعتمدون فيه على لحوم ما يصطادونه.. ومن خلال تربية المواشي والدواجن.
والخيمة التي يصنعونها من قش الأشجار يأوي إليها كل أفراد الأسرة في تآلف حميم يمثل فيه الأب المكانة (السلطوية) التي يحترمها الجميع.. وللحب والعشق طقوسه الخاصة عندهم.
هذه (البانوراما) الشاملة لإفريقيا (الغابات) التي ربما استطردنا في شرحها رغم أن بعضكم قرأ عنها.. أو شاهد فيلماً (هوليودياً) يجسد ما شرحناه.. دون أن نعرِّج على دور المستعمرين والباحثين عن الثروة من خلال بيع وشراء بعض الأفارقة.. هذا الدور الذي فضحته لنا بكل ما فيه من قسوة وشراسة ومعاملة حيوانية الرواية الذائعة الصيت والشهرة (الجذورThe Roots) التي أُخرجت سينمائياً في فيلم شاهده العالم.
لكن لإفريقيا وجه آخر مشرق تمثل في كفاح أبنائها ضد المستعمر الأوروبي الرباعي (فرنسا.. وبريطانيا.. وبلجيكا.. والبرتغال) الذي احتل كل منهم بلداناً من إفريقيا.. واستثمر خيرات أرضها.. وسعى جاداً إلى طمس هويتها تراثاً.. وتجهيل أبنائها بلغاتهم الأصلية بترسيخ لغاته الأوروبية في المدارس.
لهذا قام كفاح الأفارقة السود على محورين: أحدهما سياسي حصلوا به على الاستقلال التام، وحكم أنفسهم بأنفسهم.. أما المحور الثاني فقد قام على إثبات هويتهم، تراثياً، وحضارياً، وثقافياً.. فقطعوا شوطاً كبيراً في تحقيقه رغم أن بعض رموزهم تلقوا دراساتهم العليا في جامعات البلدان الأجنبية المستعمِرة بكسر الميم ومنهم شخصية موضوعنا هذا الذي التقيت به في باريس لمدة نصف ساعة بمناسبة حضوره الحفل الكبير الذي أقامه عمدة باريس سابقاً، ورئيس جمهورية فرنسا حالياً (جاك شيراك)، للأمير الشاعر عبدالله الفيصل بمناسبة منحه الجائزة الدولية الكبرى للشعر الأجنبي.
هذه الشخصية أقصد بها الشاعر السنغالي المعروف (ليوبولد سنغور) الذي كان رئيساً للسنغال ثم تنازل بمحض إرادته عن الرئاسة مرشحاً (عبده ضيوف) المسلم خلفاً له.
وكنتُ قد قرأتُ بعض شعره الذي تُرجم عن الفرنسية إلى العربية.. تلقى تعليمه العالي في فرنسا.. وكان الرئيس الراحل (ميتران) رئيس جمهوية فرنسا الأسبق من زملائه في الدراسة، ولهذا فهو يحتل في فرنسا مكانة رفيعة على المستويات الرسمية.. والاجتماعية.. والأدبية من خلال انتشار شعره وسط الفرنسيين الذي يعشقون.. ويطربون له طربهم لعاصمتهم الباهرة، المتميزة، المتفردة (باريس) عاصمة عواصم العالم دون مبالغة!! وهو يحرص أن يكتب شعره بالفرنسية لتعريف أهلها بمكانته، ومكانة إفريقيا الأدبية.
ومن حسن المصادفات أن صديقي العزيز خريج (السوربون) الدكتور (فهد العرابي الحارثي) كان معنا خلال هذه النصف ساعة القصيرة (زمناً).. الطويلة.. الثرية (حواراً) .
كان الدكتور الحارثي لسان حالي وحاله.. وشريك حواري وحواره.
سألته: ألا ترى أن تنازلك عن الرئاسة على ما تشتمل عليه من طموح إنساني يجعل الآخرين يتكالبون عليه، ويحتربون من أجله.. لتكون صورهم في كل مكان.. وتردد الأناشيد أسماءهم.. ويسيرون في مواكب ضخمة تحيط بها الحراسات؟ ألا ترى فيه نوعاً من المثالية؟
كان يسمع.. ولا يدري ماذا أقول.. لكن الصديق (الحارثي) يبدو أنه اختصر السؤال.. وهذا لم يَرُق للشاعر (سنغور) فرد عليه باقتضاب، مما دفع الصديق (الحارثي) أن (يمون) عليَّ قائلاً لي: الله لا يعطيك العافية يا علوي.. لقد اختصرتُ السؤال حتى لا أثقل على الرجل.. لكنه بتواضعه أصرَّ على سماع السؤال كاملاً.. لأنه أدرك من كلامك الطويل، وسؤالي المقتضب معه أنني لم أترجم السؤال كاملاً!!
رددت على صديقي الحارثي بأسلوبه: أنت ملقوف.. ومترجم غير أمين.. مَن أعطاك الحق في اختصار سؤالي؟ ثم توجه بحديثه إلى الشاعر الرئيس ليطرح السؤال كاملاً.. فإذا به يمد يده لمصافحتي.. كأنه يعبر عن ارتياحه للسؤال.. ثم وجه جوابه للصديق الحارثي الذي ترجمه: شكراً على سؤالك الذي كنت أتوقعه.. و(المظاهر) التي أشرت إليها.. ربما كانت من أبرز الأسباب التي كانت عكس تركيبتي النفسية.. والفكرية.. لأنني صاحب قضية.. وصاحب القضية ليس من اهتماماته مثل هذه (المظاهر) التي تزول مع الزمن مع صاحبها، لكن القضية تبقى وتخلد.. كما يبقى ويخلد صاحبها.. أنا لا ألتفت إلى (الأمس).. ولا يشغلني (الحاضر) إلا في إطار القضية.. لكنني أفكر كثيراً في (الغد) حيث تسكن قضيتي.. ومعذرةً إذا لم أجب على سؤالك بالمباشرة المطلوبة.. ليس لأني سياسي وظيفته التلاعب بالألفاظ.. وإنما لأنني شاعر!!
إذن، ما قضيتك؟ سألت باختصار توفيراً للوقت لأننا كنَّا وقوفاً.. ولأسلم من لسان صديقي الحارثي الذي وجه هذا السؤال للرئيس السنغالي الأسبق.. وشاعر الأمس، واليوم، والغد إفريقياً، فأجاب: قضيتي لها جانبان: أحدهما سياسي.. والآخر فكري.. انتهيت من الجانب السياسي بعد أن أصبح بلدي مستقلاً.. له حكومته الوطنية.. وعضو في الأمم المتحدة.
أما الجانب الفكري، فهو ما يشغلني الآن، وأعمل عليه، وتركت الرئاسة من أجله.. أنا اليوم سلطان نفسي ووقتي الذي أقضيه في القراءة والكتابة، وبصورة خاصة الشعر الذي لا يتقوقع في إطار (السنغال).. إنني أطلق عليه مصطلح (الزَّنْوَجة) بحيث يشمل إفريقيا كلها.. ورغم أنني أكتب بالفرنسية، إلا أنني لا أكتب شعراً فرنسياً، أو سنغالياً.. بل أكتب شعراً (زَنْجَويًّا).. ولي نشاطات أدبية.. فنحن نصدر مجلة (نصف شهرية) باللغتين (الفرنسية).. و(الإنجليزية) لنشر التراث الإفريقي، والتعريف به في الأوساط الغربية.. كما قمت بنشر عدد من الدراسات والمختارات للشعر والشعراء في إفريقيا جنوب الصحراء قدم لها صديقي الفيلسوف الأديب الفرنسي (سارتر) المعروف لديكم لأنه زار مصر.. ولا أعلم ما إذا ترجمت هذه المختارات الشعرية الإفريقية إلى لغتكم (العربية).. التي أعدها لغة أدب، وعلم، وفن وحضارة إنسانية عالمية متكاملة باهرة.
حين وصل في حديثه عند هذه النقطة وجدتها فرصة لطرح هذا السؤال عليه: على ذكر العربية.. والحضارة العربية الإسلامية.. ما موقعها على خريطة قراءاتك؟
ابتسم فظهرت أسنانه البيضاء كقلبه الأبيض.. وقال: كنت أتوقع مثل هذا السؤال عند إشارتي إلى لغتكم وحضارتكم.. وأجيبكم بصدق أنني قرأت عن دور اللغة العربية أدباً، وعلماً، وحضارة.. رغم تقصيركم الواضح في عملية (الترجمة) إلى اللغات الأخرى.. إبداعاً جديداً، وتراثاً.. لا تنتظروا الآخرين يقومون بذلك، لأنهم لن يقوموا به.. وإذا قاموا بشيء فهو (محدود) وانتقائي.. ولم يتوقف دوري عند القراءة رغم ضآلة المحصول وإعجابي بما قرأت.. وبخاصة الدين الإسلامي؛ حيث توجد أهم قبائل السنغال، وعدد أفرادها يقارب المليون، حوالي ثلث السكان.. هذه القبيلة هي (الولوف) كلهم مسلمون.. مما يجعل للإسلام مكانه ومكانته.. ولا أدري ماذا قدمتم لهم من منطلق أن الإسلام جاء من بلادكم.. ونبي الإسلام (محمد) عربي؟
عموماً، لا أريد إحراجكم بسؤالي.. وأجيب عن سؤالكم أنني حين كنت رئيساً لجمهورية السنغال.. قررت (اللغة العربية) لتدريسها في (المرحلة الابتدائية).. كما أنني حين تنازلت عن الرئاسة رشحت خلفاً لي مسلماً هو (عبده ضيوف) رغم أنني لست مسلماً!!
وتوقفنا عن الحوار حينما تحرك موكب الحفل للخروج من مبنى (بلدية باريس) التاريخي.
شعرت من كلامي معه أنه يتحدث بروية.. لا يستعجل في طرح رؤاه.. وأن رأسه مثقل بهموم الثقافات الإنسانية، لا الإفريقية وحدها.. وأنه لا يشعر بمركب نقص أنه إفريقي أسود أمام الأبيض.. وأنه رغم قصر قامته تحس وهو يتحدث أنك أمام عملاق، عركته الحياة وعركها.. وأنه لم يعتمد على شهاداته، ومنصبه الكبير في وطنه.. بل قرأ بلباقة.. وثقَّف نفسه ثقافة ذاتية منتظمة.. لأنه أدرك مبكراً أن الإنسان أي إنسان ليس بمنصبه، ولا بوجاهته الاجتماعية.. ولكن بعقله، وفكره، وتفكيره، وثقافته التي لا تعرف العنصريات، والعرقيات، والجنسيات، والطائفية!!
لكن كل هذه المعطيات لم تجعله يتخلى عن (زنوجيته).. وتراث أمته الإفريقية، لأنها (هويته الخصوصية) بين مجموعة (الهويات الإنسانية) الأخرى.. مع احتفاظه باحترام (الهوية المشتركة).. وقناعته بالهموم والمصالح المشتركة لكل الشعوب.. أبيضها وأسودها وأصفرها.. وأن هذه الشعوب في مقدورها أن تعيش مجتمعاً إنسانياً يسوده السلام، وتذوب فيه الفوارق.. وتختفي المجاعات!!
ولأنني شعرت أن الموضوع تنقصه بعض النقاط المهمة التي أثارها في حديثه العابر القصير، رأيت أن من واجبي نحو القارئ إكماله من خلال مكتبتي المنزلية المتواضعة.. وبخاصة في مجال الأدب والشعر الإفريقي الذي يعد صاحبنا أحد رموزه.. فبحثت في (المعجم).. و(الموسوعات).. (والسير والتراجم) فلم يسعفني شيء منها.. وحين قلَّبت في (الدوريات) وجدت ضالتي في مجلة (الفيصل) بالذات في عددها رقم (26) الصادر في شهر شعبان 1399هـ الموافق يوليو 1979م؛ حيث عرض الصديق الراحل الدكتور (علي شلش) كتاب شعر حديث من إفريقيا الصادر عن المكتبة الإفريقية التي تصدرها (بنجوين) الإنجليزية.. والكتاب يحتوي على مختارات أعدها وقدم لها كل من (جرالد مور، وأوللي باير).. وذلك في باب المجلة (رحلة في كتاب) التي تقدم من خلاله شهرياً كتاباً صادراً بلغة أجنبية.. والكتاب يضم إلى جانب المقدمة منتخبات من أشعار (29) شاعراً من (مدغشقر.. السنغال.. جامبيا.. غانا.. نيجيريا.. الكونغو البلجيكي.. الكونغو الفرنسي.. جزر الكاب فيرد.. ساوتوميه.. أنجولا.. إفريقيا الجنوبية.. يناسلاند.. كينيا.. موزمبيق).. وسنورد للقارئ المعلومات التي نرى مناسبتها، وموضوعنا هذا استيفاء لها، وتوثيق وخدمة للقارئ المثقف. اسم المجلة التي أشار لها (سنغور) في حديثه هي (Presence Africaine) تصدر في باريس باللغتين الفرنسية والإنجليزية منذ عام 1947م.. ثم تحولت إلى نصف شهرية.. وكان (سنغور) من أبرز كتابها.
الكتاب الذي أصدره (سنغور) كان يمثل مختارات شعرية، قدَّم لها (جان بول سارتر) صديقه، بعنوان (منتخب للشعر الزنجي والملاجاشي الجديد).
لم يكن الإفريقيون يعملون وحدهم في نشر الأدب والتراث الإفريقي.. بل كان غيرهم ممن سماهم الدكتور (شلش) ب(المستفرقين الأوروبيين) مثل (جيرالد مور) الإنجليزي الذي كان عضواً بهيئة تحرير مجلة (أورفيوس الأسود) والذي كتب عدداً من الدراسات عن الأدب الإفريقي.. أهمها كتاب (سبعة أدباء من إفريقيا) الصادر عام 1962م.. ومثل (أوللي باير) الألماني.. وكان عضواً بهيئة تحرير المجلة التي أشرنا إليها.. وله ثلاثة كتب في الشعر والتراث الإفريقي هي (شعر من يوريا) عام 1962م.. و(الفن في نيجيريا) عام 1960م.. و(النحت في إفريقيا الغربية) عام 1962م.
مرَّ علينا في حوارنا مع (سنغور) تركيزه على مصطلح (الزَّنْوَجَة).. مما يدعونا إلى معرفة نشأة هذا المصطلح، الذي كان نتيجة إصرار الاستعمار على ألا يشعر الإفريقي أنه مخلوق (أسود)!!
(فكل ما كان يبتغيه المستعمر هو أن ينسى الإفريقي المدمج (مع البيض) أنه أسود).. وهو ما كان يقابل بالرفض الكلي المطلق بحيث أحدث رد فعل عنيفاً في مجال الفكر، والشعر على وجه التخصيص، فيما عرف بنزعة (الزَّنْوَجَة) التي ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى في كتابات الشعراء والمفكرين الإفريقيين، والكوبيين.. وفي هذا الصدد قال (إيميه سيزير) شاعر جزر (المارتينيك): (إن السواد ليس غياباً، وإنما هو رفض وإنكار).. فوجدت (هذه النزعة أرضاً خصبة في (باريس) لدى جماعات المثقفين الإفريقيين الذين رحلوا للتزود بالثقافة والعلم.. وطغت على كثير من شعر (سنغور) صاحبنا، ومحور موضوعنا هذا.. و(دافيد).. و(بيراجو ديوب).. وشعراء (الكنغو).. وغيرهم، ممن يفكِّرون ويكتبون بالفرنسية).
ويهمنا هنا موقف صاحبنا (سنغور) من مصطلح أو نزعة (الزَّنْوَجَة) التي قال عنها: (إنها تنحصر في إرادة الوحدة الزنجية الروحية.. وتجميع الزنوج تحت راية المطلب الجماعي، لاسترداد كرامتهم الإنسانية عن طريق التسلح بمفهوم الحضارة العالمية ذات الأساس الإنساني الشامل، ونبذ الفكرة العنصرية).
لكن، السؤال الذي لم نستطع سؤاله لضيق الوقت، مع رحابة صدره لأن يمكث معنا طويلاً لاستكمال تعريف نزعة (الزَّنْوَجَة) ومتى ظهرت ليس على مستوى (الفكرة).. أو (النزعة).. أو (المصطلح).. وإنما على مستوى (الفعل).. و(الريادة).
وعلى هذا يجيبنا الصديق الدكتور (شلش) من خلال الكتاب الذي ذكرناه قائلاً: (لقد شهدت باريس في العقد الرابع من القرن العشرين نفراً من المثقفين الإفريقيين السود.. كان على رأسهم (إيميه سيزير).. و(ليون داماس).. و(ليوبولد سنغور) صاحبنا وهم الثلاثي الموهوب الذي حمل على كتفيه رسالة الشعر و(الزَّنْوَجَة).. وكان (ليون داماس) شاعر غينيا الفرنسية أسبقهم إلى الظهور عام 1937م بديوانه (الأصباغ) الذي أحرقه الفرنسيون فيما بعد.. ربما لأنه اشتمل على القصيدة التي كان يندد فيها بالاستعمار الفرنسي، الذي عد مجيئه إلى إفريقيا من أجل نهب ثرواتها.. ويعتز فيها بطموح بزنجيته التي كانت تضايق الفرنسيين الذين حرصوا على دمجهم، ونسيان أنهم زنوج سود.. ونصُّ هذه القصيدة حسب ترجمتها:
أفلحت كراهيتي على هامش الثقافة!!
هامش النظريات.. هامش الكلام الفارغ..
الذي حشوني به منذ ميلادي..
حتى بالرغم من أن كل ما فيَّ
كان يطمح أن يكون (زنجياً)
على حين كانوا ينهبون وطني إفريقيا!!
ثم ظهر (سيزير) بعد عامين، وتبنَّى الدعوة إلى (الزَّنْوَجَة).. وعُدَّ (أمير) شعرائها. أما (سنغور) صاحبنا فقد ظهر في تلك الأثناء (بكفاية بيانية تبعث الشجن في نفس القارئ بدلاً من أن تصدمه).. ربما كان مرد ذلك تلك الروح الحضارية الشفافة التي يتحلى بها صاحبنا، كما لمسنا ذلك من حوارنا معه عند لقائنا القصير به.
لكن صاحبنا (سنغور) رغم ذلك جاء في كتاب (شعر حديث.. من إفريقيا) عنه في أسلوبه الشعري رغم اعتزازه بزنوجته ميله إلى ما قاله لنا إلى (الحضارة الإنسانية العالمية)، التي تندمج فيها كل الحضارات الإنسانية في (بوتقة) محورها الإنسان، وسعادة الإنسان في سواسية حيث لا سيد، ولا مسود.. وهذا لا يحول دون الحفاظ على (الخصوصيات).. و(الهويات) لكل شعب من الشعوب.. فالحضارة الإنسانية التي يدعو إليها هي (حضارة التلاقح والتزاوج) في المعطيات الحضارية، على اختلافها، وتعددها، وتنوعها.. على شرط عدم الذوبان بحيث يلتهم الكبير الصغير.. قلنا: جاء في الكتاب السالف الذكر الذي قدَّم له كل من (جيرالد مور) و(أوللي ماير) اللذين قالا: (وفي شعر سنغور نلتقي بالزنوجة بأوسع معانيها الخصوصية والهوية الذاتية إذ نجد طابع التخريب الذي لحق بإفريقيا القديمة وثقافتها على يدي أوروبا البيضاء وهي ما يحز في نفسه، ويعتز بزنوجته وجفاف الغرب الحديث، وحاجته إلى الصفات الإفريقية المكملة، وجمال المرأة الإفريقية المزهو بنفسه، والحب والفهم العميقين لكل ما هو عظيم وباقٍ من مآثر الغرب، بل نجد أيضاً حاجة الشاعر نفسه إلى أن يعيش في كلتا الثقافتين، أو ما عناه سنغور حين طلب أن يكون (مزيجاً ثقافياً مولداً).
كأن (سنغور) صاحبنا بعبارته (المزيج الثقافي المولد) يعني الثقافات الإنسانية المختلفة، والمتعددة، والمتنوعة للشعور في الإمكان أن تتمازج في تناسج وتناغم ينتج عنهما (ثقافة إنسانية مشتركة)، أو كما يسميها (مولدة).. منطلقه في ذلك أن ثقافات الشعوب هي في محصلتها ونتائجها (إرث إنساني) لجميع شعوب الكرة الأرضية، غربيها، وإفريقيها، وآسيويها.. إلخ، هدفها الأول والأخير (الإنسان، والحياة).. أو بمعنى أدق (الإنسان والكون).. أو كأنه يرى أنه من خلال هذا المزيج الثقافي يمكن إلقاء الفواصل (الزمكانية المصطنعة).. ومد (جسور للتفاهم الإنساني).. فهل يعني سنغور من خلال مبدأ (المزيج الثقافي) أنه يحصر العولمة.. أو تحول العالم إلى (قرية كونية) كما يرى عالم الاجتماع الكندي (مارشال ماكلوهان) في حدود أو إطار ما سمَّاه (المزيج الثقافي).. وما تبريراته، ومسوغاته لهذا المبدأ؟
سؤال يظل معلقاً؛ لأن الفواصل (الزمانية) و(المكانية) بين صاحبنا (ليوبولد سنغور) الشاعر، وبيننا واسعة وقد مر على لقائنا أكثر من (15) عاماً.. ونظراً لتعدد الدول المستعمرة لإفريقيا (فرنسا.. بريطانيا.. البرتغال.. بلجيكا) فقد كان الأدباء والشعراء الأفارقة يكتبون بلغات هذه البلدان.. ولهذا اختلفت الآراء في ظاهرة (الزَّنْوَجَة) التي يصر عليها الأفارقة.
ونختم هذا عن (ليوبولد سنغور) بإيراد نماذج من الشعر الإفريقي لبعض شعراء (الزَّنْوَجَة) لتعريف القارئ من ناحية.. وللاستمتاع بما فيه من جماليات.. وارتباطه بالبيئة إمعاناً في الانتماء إلى أرضهم الإفريقية، وتراثها الغني.. وسنبدأ هذه النماذج بقصيدة لضيف هذا الموضوع (سنغور) واسمها (الطوطم) من معتقدات إفريقيا:
لا بد أن أخفيه في أعمق أعماق شراييني
سلفي ذاك الذي خرب مخبأه العاصف
بالبرق والرعد
حمامي حماي الحيوان، لا بد أن أخفيه
حتى لا أحطِّم حدود العار
فهو.. المخلص الذي يطالبني بالوفاء
إذ يحمي زهوي العاري
من نفس.. ومن تقريع الأجناس
الأسعد حظاً
وهذه قصيدة أخرى للشاعر (الكيني) الذي يكتب بالإنجليزية (جون مبيتي)، وعنوانها (ناطحات سحاب نيويورك):
كانت أشعة الشمس الصفراء الواهنة المبعثرة
تتسلل إلى الأنسجة الغائمة
فتغطيها بطبقة من الشمع الشفَّاف
حتى إذا أنهت الأشعة المتعرجة النهار
سعلت مداخن نيويورك
المعجونة بالدخان
وهي تنظر إلى أسفل بأبراج محنية
ثم تقيأت دموعاً حزينة
من الدخان الأسود!!
وأخيراً نورد القصيدة الثالثة للشاعر (أجوينالدو فوتيسكا) من جزر (الكاب فيرد) وهو شاعر يكتب بالبرتغالية.. وعنوانها (حانة.. على البحر):
وميض بعيد
وفناء يبصق الضوء
في وجه الليل الأسود
كل شيء ملمي ومشتاق
والرياح.. ومن خلفها الأمواج
تهز الحانة هزاً
والحانة سفينة راسية
وفوق الهواء تتصاعد ألوان اليأس
على هيئة أورام كثيفة من الدخان
أوه!! إن البحار ظمآن..
والوشم المنقوش على الجلد
ينبئ عن الألم والتظاهر بالشجاعة
اللذين تنضح بهما المغامرات في المواني
رجال من كل جنس
رجال بلا وطن.. أو اسم
مجرد رجال بحر
صوتهم ملح وريح
وعيونهم التي لا يغشاها السحاب
تنعكس عليها السفن
السأم والحنين يظهران
تلوكهما غلايين قديمة معمرة
يظهران ثم يختفيان
مترنحين مع الفجر
أوراق اللعب والموائد والمقاعد
الزجاجات، والأكواب، والزجاجات
ووجه مدير الحانة
يثير قديم المعارك والثارات
وكل شيء حافل بالنوم
وكل شيء حافل بالبحر!!
كان في الإمكان أن نكتفي بإيراد قصيدة الشاعر (ليوبولد سنغور) بصفته قطب موضوعنا.. لكن لأن إفريقيا استعمرتها أكثر من دولة غربية.. مما جعل شعراء كل بلد إفريقي يكتبون بلغة (المستعمِر) بكسر الميم.. وللغة أثرها على الأسلوب الشعري.. لهذا أوردنا القصائد الثلاث.. الأولى كتبت بالفرنسية.. والثانية بالإنجليزية.. والأخيرة بالبرتغالية.. والقصائد الثلاث على اختلاف اللغات التي كتبت بها تعكس سمات الشعر الحديث في إفريقيا.. وللقارئ أن يقتحم أعماق هذه القصائد لتلمس ما يجمعها.. وما يفرقها.. وإن كان كل شعراء إفريقيا يرفعون علم (شعر الزنوجة) لتأكيد (الهوية الذاتية).. وتعشق عذوبة (الاستقلالية) بعد مرارة (الاستعمار) الأجنبي.. وشوق الحرية الوطنية، بعد الاستلاب الخارجي!!
النهاية
بعد كتابة هذا الموضوع عن (سنغور) عثرت على جريدة قديمة فاجأتني بوفاته يوم 20122001م عن (95) عاماً في داره بمدينة (فيرسون) في مقاطعة النورماندي شمال غرب فرنسا حيث كان يعيش مع زوجته (كوليت) منذ تخلى عن السلطة بملء إرادته في 3112 1980م.. وكانت وفاته بسبب مشاكل في القلب.. وعلى إثر ذلك صرَّح (ألفا عمر كوناري) رئيس دولة مالي قائلاً: (إن سنغور هو حقاً من السنغال، لكنه من إفريقيا، وهو مواطن عالمي).. أما الرئيس الفرنسي (جاك شيراك) فقد حزن لوفاته.. وقال عنه: (كان واحداً من أكبر الشخصيات المعاصرة للإنسانية.. وأحد كبار صانعي تاريخ إفريقيا)، كما قال في بيان وزعه الجهاز الإعلامي للرئاسة الفرنسية: إن (الشعر خسر واحداً من أعلامه، والسنغال رجل دولة، وإفريقيا رجلاً عظيماً، وفرنساً صديقاً).
لهذا أرجأت عدداً من الموضوعات عن أعلام محلية، مسارعاً بنشر هذا الموضوع المتواضع عنه.. وفاءً للقائي القصير معه.. ولفكره وزملائه من الأفارقة.. ووفاءً لنزعته الإنسانية العالمية في ندادة بين دول العالم.. هذه النزعة التي لمسها القارئ من خلال هذا الموضوع، معتذراً بكل الطرق والوسائل للإطالة.. والعذر عند خيار الناس وكرامهم مقبول.
alawi@alsafi.com
ص.ب: (7967) الرياض (11472)
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|