استراحة داخل صومعة الفكر
بعد أن تسكن الريح
سعد بن عطية الغامدي
204 صفحات من القطع المتوسط
سعد البواردي
|
الريح بعد أن تسكن تتحرك الأشياء الحية بأعصابها المتعبة.. وتسكن الأشياء الضعيفة لأن طاقتها على الحركة مكدودة إن لم تكن ميتة.
ترحل الريح ولا ترحل معها مخلفاتها وإنما تبقى مخلفاتها أنقاضاً وركاماً وحصاد عنف طبيعة لا روح فيها.
شاعرنا سعد الغامدي وقف شاهداً بشعره على ما بعد سكون الريح فهل استطاعت ريشته ان ترسم لنا بقايا الطلل وما خلفه الجلل من تداعيات أبت الطبيعة إلا أن تتعامل معها بعنف.
هل كانت ريح شاعرنا ريح طبيعة ثائرة أم ريح طباع بشرية قوامها الغضب والسخط والكراهية والحرب والقطاعية؟
كلا الاحتمالين وارد في حقل التجربة البشرية.. رياح الطبيعة.. ورياح الطبع.. قبل أن تسكن الريح تتراقص الأشياء.. وأحيانا تسكن السكينة الروح بعد أمن وإيمان.
بداية بوصفة الدواء طالعنا الشاعر بأولى مخلفات الريح.. ربما ريح المرض الذي يلجأ إليه كل مريض حين يعضه السقم.. وربما مرض العاطفة.
نفد الدواء فرحت مثل الطير تلتقط الدواء
ومضيت في أمل يحفك من أمام ومن وراء
ومضيتما لا تدريان بأن للأعمار بدءا وانتهاء
والموت أقرب في استباق حين ينكشف الغطاء
لو كنت تدري لاحتملت وقلت ما أحلاه داء
أشهر شاعرنا في وجهنا داءه.. إنه داء حب اكتوي بحرارته أو بمرارته لا أدري، إلا أنه بالقطع من النوع الثقيل الذي يسلم إلى الفراش.
هل لو بقيت على فراشك كان داعي الموت جاء؟
وحتى لا نشهد النهاية فتعاجلنا الشفقة وربما دموع المواساة نهرع إلى استراحة المحارب.. إلى فدائي الاستشهاد.
جعل القنابل للحزام حزاما
ومضى يفجر نفسه مقداما
ويبث في جوف العدو مآثما
ويشب في قلب العدو ضراما
لماذا كل هذا؟ لأنهم:
يتطاولون بآلة منهوبة
ويقتلون أراملا ويتامى
ويخربون مزارعا ومنازلا
ويخلفون خرائبا وحطاما
أكثر من هذا يا شاعرنا مصادرة حق وحرية شعب أعزل.. واحتلال أرضه.. واستباحة عرضه.. وهذا يكفي لأن يستقبل الاستشهادي الموت بروح لا تعرف التردد.
وبروح الإيمان يتحدث عن (إيمان) الشهيدة:
إيمان رفعت إلى الجنان
درة صغيرة
لكنها بدت فوق الجميع
حين شيعت شامخة كبيرة
تمتد نحوها الرقاب
تملأ السماء.
إيمان.. فضحت فساد قمم مهيبة كثيرة
وكشفت موات نخوة العشيرة
لابد للعتمة من شمعة.. و(إيمان) واحدة من الشموع التي تذيب الدموع تمسحها من مآقينا قبل ان تتحجر.. نحن بألف خير بإيمان الخالق.
وب(إيمان) المخلوقة التي تستسهل الموت من أجل الحياة.
ومثل إيمان يأتي الشهيد محمود مرمش بطل ناتانيا.. وآخرون وأخريات تركوا في صفحة تاريخنا النضالي المعاصر بصمات فداء وبطولة نادرة لم يشهد لها التاريخ مثيلا ،إنهم وقود الحرية لا الإرهاب كما نعتهم الأعداء.. وسماسرة السياسة.
شاعرنا الغامدي أشهر غمده منذ البداية ، ولج ساحة الحرب بسلاح الحرف القاطع.. وهو ما يملك.
قاتلوهم.. واقتلوا الباطل فيهم
واصبروا إن طال للنصر صباح
هو آت عن قريب.. قاتلوهم
طاردوهم.. واطردوا الدجال فيهم
واعلموا أنهم أجبن خلق الله
فاستشروا عليهم.. وخذوهم.
ليس دجالا واحداً فيهم.. كل دجالون يشد من عضدهم دجالون كبار يتحدثون للعالم بلغة حرية لا يؤمنون.. وديمقراطية لا تجوز إلا لهم ومن لغة الطرد والقتال إلى خطاب الخسف ومفردات القصف في قاموسهم الدموي.. وصولا إلى حلمه الجميل بنهاية الكابوس على وقع ضربات الفداء الموجعة.
بطر اليهود فجاء أمر الله
في لمحة خسفت بحفل لاهِ
قاموا على جثث الصغار ليرقصوا
ويعربدوا.. والله ليس بساهِ
فأتى على الأركان من بنيانهم
ليخر سقف خلاعة وسفاهِ
فهووا كأن الأرض شقت تحتهم
أو أُسقِطوا من سأهق متناهي
مكروا وكل الأرض تعرف مكرهم
فيهود أهل مصائب ودواهي
على هذا النحو تمتد بشاعرنا الوتيرة تسوقه شحنة إيمانية بقدسية القضية وأفول نجم الاحتلال في فلسطين وفي كل فلسطين أخرى سقطت تحت أحذية المستعمرين النجسة.. فلسطين مجرد رمز لما سواها من ترابنا العربي الإسلامي المستباح.
لعله اقترب أكثر وأكثر وأكثر من فأله.. وقد رسم صورة حمامة السلام آمنة على شرفات داره ، رسمها وخاطبها كما لو كانت حقيقة.
كوني حمامة السلام
حين ينتشي الألم
وتقذف القلوب في سعارها الحمم
وتغمر الوجوه مسحة العدم
كوني حمامة السلام
حين يلتقي السلاح بالسلاح
وتصفع الرياح وجنة الرياح
وتجهض الرعود نسمة الصباح
في حالات مرعبة كهذه يتذكر الناس السلام وحمائمه.. ولكن..! وحوش البشر ينقضُّون على السلام كرمز يحصدونه بفؤوسهم.. ويجتثون بمجنزراتهم حقول الزيتون الرمز الثاني للسلام.. إنهم لا يقرأون التاريخ ولا يهتمون بالعبر لأنهم غير بشر.
هل أن صاحبنا هذه المرة اختار أن يخلد إلى الراحة وحيداً دون أحد أم أنه اختار الوحدة لواحد غيره؟
سافر بأعماق الدجى في الليل وحدك
واعبر فجاح الحزن منفردا
وغص في لجة الأسفار وحدك
لماذا هذا الاختيار وهذا الخيار؟ هل أجهده النهار ورأى في الليل رغم وحشته البديل الأمثل؟! لعله التحدي لريح الظلام.
وأرواح أشباحه المتراقصة
وانقض عن القلب الشجون
وانزع عن النفس الظنون
بأن من أحببتَ قد يبكيك بعدك
وأقم كحد السيف للأشباح حدك
وهناك تنعم بالنجوم
وللنجوم تعيش وحدك
لا يهم شاعرنا الظلام ما دام في كبد السماء نجوم تومض توحي بالأمل والفأل الجميل.
(نأوي إليك سراعا) ذاكرة حياة أم ذاكرة موت؟
هذا ما يفصح عنه شاعرنا ويجلو به غمامة التساؤل:
ظمئت فأملأ من الأشواق أكوابي
وتهت فافتح على الإشراق أبوابي
وهمت خلف سراب شط بي زمنا
عن وجهتي ورمى بي خلف أترابي
أمضي بعيدا، وأفكاري وراحلتي
تحوم حول حمى التذكار مما بي
وهنا بيت القصيد:
منذ ارتحلت وعندي لا يفارقني
حزن على كبدي، حزن على ما بي
اليوم يا موسم الفتح المبين جثا
داعي الجهاد، ودالت شرعة الغاب
نأوي إليك سراعا كلما أزفت
أيامك العشر نرجو عفو تواب
إنه شهر الصيام وهو يكاد يودع أيامه.. صيامه وقيامه.. وقف منه الشاعر موقف المناجاة في وداع تجذره حرارة الإيمان والتقوى.
ومن رحيل شهر فضيل إلى عودة لا أدرك كنهها.. هو نفسه يتحدث عنها:
تبدو الطريق أمامنا في هذه الدنيا طويلة
تبدو الحقائق حين نحسها إلى غدنا ثقيلة
تبدو المنى أفقا، وأنفسنا إلى الأفق الوسيلة
فإذا نعى الناعي تلاشت كل خاطرة، وحيلة
هذه المرة جاءت ذاكرة الموت.. والتذكير بما بعد الموت.. وما قبله:
لا تبغِ من دنياك صفوا، إنها دنيا وبيله
هي دار أغيار وكم من مرة فتكت بغيله
تلك رؤيته كشاعر.. ولكن من فينا يملك شجاعة التذكير بالرحيل.. لقد أخذتنا مشاغل ومشاكل ومغريات دنيانا حتى النخاع.. لم ندع في ذاكرتنا إلا الحب للدنيا.. هذا ما تؤكده ممارساتنا وأحلامنا السرابية.. وبعدنا عن الجانب الروحي والأخلاقي في تعاملنا مع بعضنا البعض.. ونهمنا وراء المادة إلى درجة الجوع والجشع وكأن الحياة خالدة.
ومن ذاكرة الدارين إلى استعلاء النفس القريب منها في التذكير والتحذير من فحشاء البخل.. وغلواء المال.
ليس عيبا على الفتى نقص مال
إنما العار فيه نقص حيائه
ليست عيبا بذل القليل إذا ما
كان هذا القليل جل ثرائه
لكي يصلح حال المجتمع أي مجتمع لابد من تكافل وتكامل اجتماعي بين أفراده بحيث لا يموت فرد من تخمة الشبع، وآخر يموت من عضة الجوع.. المال ليس اكتنازا.. وإنما استثمارا يطال مردوده الوطن، والمواطن على حد سواء.. أليس كذلك؟
قصائد الديوان لكثرتها لا تسمح بالتوقف عندها.. هنا تأتي رغبة التناول من خلال تنوع المادة وخصوصيتها ما أمكن
وإذا كان لا يأس مع الحياة، ولا حياة مع اليأس يأخذنا شاعرنا مع تأكيده لهذا المعنى في قصيدته (لا يأس).
لا يأس، فالدنيا تدور
ما انتاب دورتها فتور
يوم يحل كزائر عرضا يزور
ويطل يوم آخر
ويغيب في فلك العبور
ان ضقت في يوم، وضاق بك المكان
سيغيب في فلك الزمان
ويجيء عند الفجر غد
ويطل يوم آخر
مقطع من قصيدته يرى فيها الأمل دولاب حركة يوصل إلى الهدف رغم العقابيل والعثرات.. فالحياة أمل، والأمل عمل، والعمل وجود
لكل نفس هواجس تأخذها كل محمل، وتحط بها كل محفل.. تارة تضيق بها، وأخرى تستفيق عليها.. أين منا هواجس نفس شاعرنا؟
ظام .. ويورق في بيدائي الشجر
ويرتوي الطل من كفي، والمطر
دام .. ويعبق في أفيائي الزهر
وتزدهي في سمائي الأنجم الزهر
بهذه التجليات يعبر عن اعتمالات النفس ما بين الظمأ والري، وحمرة الدم، وحمرة الزهر.. بين الاستغراق الثقيل والاشراق الموحي بالصور انه يؤكد حقيقته تلك.
دام، ولكن روحي في تألقها
هي الثريا، إذا تزهو، هي القمر
ظمأن، لكن نفسي في عذوبتها
هي الحياة، إذا تصفو هي السحر
لا أشتكي، فبقلبي ألف قافية
وخاطري بالرضا، والبِشر ينهمر
فليس حولي إلا الكون مبتسما
وليس عندي إلا الحب ينتصر
هكذا بالفأل وحده وبالإصرار انتصرت هواجس الرضا على هواجس السخط.. ومن العجز ألا تقدر وانت تقدر..
كل هذا المسار من الرحلة.. والريح الساكنة في انتظارنا.. أو نحن بالأحرى في انتظارها:
آفة العيش أن يضل الرجاء
حيث يشتد بالنفوس البلاء
حلل في الحياة شتى، ولكن
خير ما يلبس الكريم الحياء
أينها الريح يا عزيزي سعد؟ أين سكونها؟ أليس الحياء الصامت واحد من شخوصها؟ ربما! لننتظر..
أي صفو يطيب والعمر فان
ومحال مع الفناء الصفاء
سكون ما بعد عاصفة الموت.. هذه واحدة:
وليالٍ نبني بهن قصورا
ثم يهوي مع الفناء الصغار
هذه ثانية: صمت الأطلال بعد أن كانت سكنا وسكينة.. وأشياء أُخر ذات وجهين وجه باسم، وآخر قاتم كلها تنتهي إلى سكون ما قبل العاصفة وما بعدها.. ينتهي معها الى قناعة ثابتة يحاول تأكيدها لنفسه وللآخرين.. ما أمكن إلى ذلك سبيلا:
حسبنا في الحقول طيب جناها
ومن المنهل النضير الرواء
يبدو أن شاعرنا عرف الحب أكثر.. أدرك أن الحب وعاء تلتقي فيه العذوبة والعذاب ، والأشواق والأشواك، الوصال والانفصال.
الغضب والرضا.. العتب والتسامح.. هكذا صور لنا روعة الحب.. وليته أضاف إلى عنوانه (وارتياعه)
روعة الحب أن يكون اشتياقا
وحنينا، ولهفة، واحتراقا
وفراقا، وغربة، وانتظارا
فلقاء مستعذبا فافتراقا
وخصاما، فلوعة، فانقطاعا
فعتابا.. فرقة، فوفاقا..
هكذا حسم أمره وحدد لنا روعة الحب.. ياعزيزي سعد ما هكذا تورد الإبل.. أبدا لم يكن الحب كل هذا وإنما بعضه.. الاحتراق في الحب نهاية.. والفراق في الحب جناية، والخصومة في الحب انهاك لثوابته.. والانقطاع عن الحب إسدال الستار عليه.
نعم الحب تجربة حياتية.. ولكنها محكومة بثوابت عقلانية.. حين يتجاوزها الحب يتحول إلى كراهية.. والحب لا كراهية فيه.. ومن الخطأ أن نظلم مفهوم الحب لأننا نحن في حبنها نتعامل بجفوة، وقسوة.. وتمرد.. وتجرد من القيم الاجتماعية والأخلاقية. نعم في الحياة الزوجية طلاق لكنه أخف وطأة وأرحم وقعا من صفة الاحتراق.. والفراق ليس حبا ولا محصلة حب.. والخصومة حصاد انفعال عاطفي لادخل للحب فيه.. اما الانقطاع عنه فقطاعية، والحب لا يوجد في مفردات قاموسه كلمة (قطاعية)..
بالحب الذي لا نفاق فيه.. بالحب الذي وفاق معه أشد على يدك مباركا شاعريتك التي أثريت بها حصيلتنا الشعرية.. وأثرت بها مضمونا.. وإطاراً.. وصياغة.. وإلى لقاء متجدد إذا كان في العمر بقية.
الرياض: ص.ب 231185
الرمز 11321 فاكس 2053338
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
| 
