التوظيف الشعري «110» د. سلطان سعد القحطاني
|
ظهر اتجاهان أدبيان في بداية القرن العشرين (الفن للفن والفن للحياة) والبعض أطلق عليهما (المنتمي واللامنتمي) ودار الخلاف بين النقاد على ماهية الأدب (شعراً ونثراً)، هل الفن وجد لخدمة الحياة، أم أن الفن وجد ليكون فناً وكفى، ليس له علاقة بهموم الأمة؟ ومن هنا انقسم النقد إلى قسمين: قسم يرى أن الفن يخدم الحياة، بمعنى (الوظيفة) وانبثق من ذلك ما يسمى الوظيفة المباشرة للأدب، مثل شعر المناسبات والشعر الموظف توظيفاً مباشراً لخدمة العلوم اللغوية والنحوية والشرعية، كمنظومات النحو والفرائض والنصائح الدعوية. ورأى البعض في هذا خدمة لتلك العلوم، من ناحيتين: الأولى نفسية، تتعلق بثقافة العربي الشعرية، وحبه لهذا الموروث. والثانية علمية، تتعلق بسهولة حفظ الشعر المركب على الأوزان الموسيقية، والتغني به في كل مناسبة. فالعلوم في ذلك الوقت تقوم على الحفظ المباشر والاستظهار الفوري، بصرف النظر عن التحليل والاستنتاج.
وظهر المذهب الأدبي الثاني كرد فعل على المذهب الأول، الخالي من الخيال، كعنصر مهم من عناصر المتعة الفنية، وأن الفن صار خادماً مطيعاً مسلوب الإرادة لشؤون الحياة، وبالتالي تحول الشعر إلى آلة صماء، في يد من يحسن التعامل معها ومن لا يحسنه، ولم يعد الشعر يحمل الدلالة الفنية، لما اعتراه من النظم الخاوي، واختيار الألفاظ البلاغية والترصيع، ليتحول إلى دروس في النحو والمدائح والإخوانيات، ولم يبق من القصيدة إلا الوزن العروضي، وهذا ما كان يعرف بالفن للحياة.
وعندما ظهر الفن للفن أغرق الشعراء في الرمز والرومانسية الحالمة البعيدة عن شؤون الحياة. وبالنظر إلى كفتي ميزان الإبداع، ما بين الحياة كعنصر للوجود وبين جماليات الفن، نجد ضرورة الجمع بين الطرفين، لتكتمل الصورة الفنية في خدمة قضايا الإنسان ومحيطه العام، توشيه صورة الفن الراقي والخيال العميق. ويرى البعض أن الخيال هو جوهر الفن، سواء اتفق والحياة العامة أو اختلف عنها، المهم المتعة.
ونحن نحترم هذا الرأي، لكن لنا عليه الكثير من الملاحظات، ولم يخلُ الخيال من المبالغات، أو أنه يقوم على الكثير منها، وأولها ما يراه البعض على أنه خروج من نطاق الواقع. والحقيقة أنه لم يخرج من الواقع بصفة كلية، فالعملية مزاوجة بين الطرفين، فإذا كان امرئ القيس قد بالغ في مغامراته النسائية، فإن غيره كان صادقاً في نفس الموضوع، ومثله محمد شكري الذي اعترف في آخر أيامه بكذبه في الكثير مما ذكر، فإن غيره مر بنفس التجربة، لكن الجمال لا يتم إلا بالمزواجة بين وجهي العملة الواحدة، وربما يصبح الخيال حقيقة في يوم من الأيام، والعكس صحيح.
إنني أرى أن النص الذي لا يدهش المتلقي لا يعتبر نصاً بالمعنى الحقيقي للنص، ولكن أي نوع من الدهشة؟ هل هي الدهشة مما سكت عنه الأولون قبله، واعتبره البعض فتحاً ليس بعده فتح؟ لا أعتقد أن هذا هو النص المدهش، فلو رأى الأولون فيه خيراً لما ترددوا في ذكره، لا سيما وهو موجود في حياتهم كما هو موجود في حياتنا، ولنا في النص القرآني المثل الأعلى، ذلك النص الذي نزل بما يدور في حياة الناس اليومية وبلغة راقية هي اللغة الأدبية، التي يتكلمها المثقفون، فما سر تلك الدهشة؟ هناك أسباب كثيرة: أولها واقعية السبب، حيث يخاطب المتلقي بما يفهم وما يدور في ذهنه في الحياة اليومية. وثانيها، سلامة اللغة وقوة العبارة. وهذا هو البيان، الذي وصف به القرآن الكريم، ثم لنا أن نتساءل عن سبب خلود النصوص الجاهلية وما بعدها، فنجد الجواب فيما توفر فيها من الشروط السابقة، فذاكرة المكان والبيئة والزمان وقوة التشخيص، وغير ذلك جعلت من النص نصاً مرتبطاً بالذاكرة.
ونخلص مما تقدم إلى أننا بحاجة إلى الربط القوي بين الواقع والخيال في النص الفني، كما أننا بحاجة إلى تجديد صورة الواقع اليومي، وما يتفق مع معطياتها، فالأغراض المباشرة، مثل المدح المجامل، وشعر المناسبات، والشعر الموظف في خدمة العلوم الأخرى، والنثر الوعظي، لا تقوم على خيال جميل يكسب النص قيمته الفنية، لأنها تقوم على ركن واحد من الطرفين، وليس فيها حرارة الشعور بالعاطفة، والصنعة والتكلف يسيطران على بناء النص، وبالعكس منها ما يقوم على الخيال البعيد عن الواقع. ولنا في الحلقات القادمة حديث مفصل عن توظيف الشعر في عدد من المجالات، كتعبير عن هموم الشاعر.
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|