مساقات مُدْرِجُ الرِّيْح! د. عبدالله الفيفي
|
ولئن كانت للشعر صناعة وثقافة، يعرفها أهل العلم، كسائر أصناف العلم والصناعات، كما ذكر ابن سلام الجمحي، فما ذلك إلا لأن له صناعة وثقافة لا يعلمها إلا الشعراء. غير أن تلك الصناعة إن أسرف في استخدامها أخرجت الشاعر عن حد التعبير الشعري إلى حدّ التأليف والاجتلاب المتكلّف. وقد لُقّب أحد الجاهليين لقباً تهكميّاً لارتكابه مثل ذلك التكلّف والتصنّع المستهجن، وهو (مدرج الريح). إذ يبدو أن هذا الرجل كان بكيئاً، بقي حولاً كاملاً لا يسعفه طبعه بعجز بيت، حتى أسعفته به جاريته، والحكاية تقول إن (عامر بن المجنون الجرمي) عمل صدر بيت، وهو: أعرفت رسماً من سمية باللوى... ثم أُرتِجَ عليه، فأقام سنة يكره فيعجز أن يعمل له عجزاً. وكان قد دفن في المنازل التي كان ينزلها دفينة، فذكرها، وقال لجاريته أن تمضي وتخرج الخبيئة من ذلك الموضع. فمضت الجارية، فألفت المكان قد اختلفت عليه الرياح وعفت آثاره، وعادت ولم تجد شيئاً. فسألها عن الحال، فقالت: (درجت عليه الريح بعدك فاستوى). فتمم بيته بهذا، فلقّبوه (مُدرج الريح). (الإربلي، المذاكرة في ألقاب الشعراء). .. طبعاً، صاحبنا مجنون ابن مجنون، عافاكم الله! ولا تؤخذ الحكمة والشعر من أفواه المجانين، دائماً! ولربما لم تكن الجارية قد أدرجت له الشطر كله كما تزعم الحكاية، ولكن حسبها أن تكون قد أسعفته بالصورة، كأن تقول: (درجت عليه الريح)، ليجتلبها فيُكمل بيته. هذا الاجتلاب إن كانت وراءه تلك الحكاية أو لم تكن قد لفت الأنظار إلى تلك الصورة الحوليّة الفارغة حسب رأي ملقّبيه على الأقل. إذ أي إبداعٍ في قوله: (إن رسم الدار قد عفا، نتيجة بدهية لدروج الريح عليه)؟! فكانت عاقبته أن نعتوه بمدرج الريح. ولربما لم تكن الحكاية المذكورة بدورها إلا تفسيراً توضيحيّاً لما كان يعانيه (ابن المجنون الجرمي) من كلفة التصنّع والاجتلاب، التي استأهل عليها لقبه الساخر من صورته السخيفة المتمخّضة عنها قريحته أو بالأحرى: المتمخّضة عنها جاريته بعد طول انتظار وصبر! وسواءٌ نُظر إلى تلك الحكاية، أو إلى حكاية أخرى في تعليل اللقب، تذهب إلى أن ابن المجنون كان محمّقاً فعلاً، وكان يزعم أنه يهوى امرأة من الجنّ تسكن الهواء. وهكذا كان مجانين العرب قد اقتحموا الفضاء منذ وقت مبكر، أي قبل عصر (استار أكاديمي) أو (على الهوا سوا)! كانت الجنية الفضائية (المزيونة) تتراءى لعامر الجرمي، فقال فيها: لابنة الجنّيّ في الجوّ طللْ دارسُ الآيات عاف كالخللْ دَرَسَتْهُ الريح من بين صباً وجنوبٍ درجت حيناً وطل فالنتيجة واحدة في سبب تلقيبه بمدرج الريح، وهو الخروج عن حدِّ التوازن بين الطبع والصنعة إلى التصنُّع، إلا أن علَّة هذا في الرواية الأولى كانت التكلُّف أو الاجتلاب، وعلَّته في الثانية كانت التخلُّف العقلي أو الجنون! وهذا الملحظ النقدي الذي ينطوي عليه لقب (مُدْرِج الرِّيح) يتأسس على ما عبَّر عنه (رتشاردز، أ.أ.، العلم والشعر) من أن تجربة الشاعر المتمثلة في لغته تحدث تجربة مماثلة في ذهن القارئ، فتجعله في تفاعل مشابه وتؤدي به إلى الاستجابة نفسها، شريطة أن تكون تجربة الشاعر حقيقية لا تقليدية أو متصنعة. إن التجربة تولد الألفاظ لدى الشاعر، بينما تولد الألفاظ التجربة لدى القارئ. أو قبل رتشاردز بقرون كان (عبدالقاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز) يقول: إنك (إذا فرغت من ترتيب المعاني في نفسك، لم تحتج إلى أن تستأنف فكراً في ترتيب الألفاظ، بل تجدها تترتب لك، بحكم أنها خدمٌ للمعاني، وتابعة لها، ولاحقة بها، وأن العلم بمواقع المعاني في النفس علم بمواقع الألفاظ الدالة عليها في النطق). وهكذا، فقد حملت ألقاب الشعراء (المهلهل، الفحل، المحبر، مدرج الريح) إشارات إلى أربعة مستويات يقف عليها الشاعر بين مولدي الطبع والصنعة، هي: 1) الركون المطلق إلى الطبع وحده، المفضي إلى (الهلهلة). 2) الانطلاق من الطبع السليم والصنعة الحاذقة، وذلك نهج (الفحولة). 3) الميل إلى التصنيع مع قوة الطبع، وذلك هو (التحبير). 4) التوكُّؤ على التصنع والتكلف والاجتلاب، مع عجز في الطبع، ومثل ذلك ك(مدرج الريح). فما نتاج هذا الضرب سوى نظم يذهب مع الريح، كما ذهب نظم مدرج الريح فلم يبق منه سوى بيت أو بيتين يتمثل بهما على لقبه! وليست تلك المستويات الأربعة (المطبوع الصرف = المهلهل، والمطبوع المصنوع المتوازن = الفحل، والمصنوع = المحبر، والمتكلف المجتلب = مدرج الريح) بسوى ما عبر عنه من بعد ابن رشيق لما قال: (ومن الشعر مطبوع ومصنوع، فالمطبوع هو الأصل الذي وضع أولاً، وعليه المدار. والمصنوع وإن وقع عليه هذا الاسم فليس متكلفاً تكلف أشعار المولدين، لكن وقع فيه هذا النوع الذي سموه صنعة من غير قصد ولا تعمُّل، لكن بطباع القوم عفواً، فاستحسنوه ومالوا إليه بعض الميل، بعد أن عرفوا وجه اختياره على غيره). وإذن، فليس بصحيح أن العرب كانوا أهل بداهة يفضلونها على الصنعة والتحبير، بدليل ما عابوا به شعر المهلهل وما امتدحوا به شعر المحبر. لكن موقفهم كان مع التوازن النامِّ على الفحولة، وضد التكلف الصناعي المذهب لماء الصدق النفسي والفني. وكذا كان موقفهم من النثرية الفكرية التي تنبو عنها طبيعة الشعر نبواً. يقارن في هذا قديماً مقولة (الجاحظ، البيان) المشهورة عن بديهة العرب وارتجالهم، وحديثاً (أدونيس، 1989)، الشعرية العربية، (بيروت: دار الآداب)، (23 24). مقام:
ماذا تريدُ ولونُ الصِّدْقِ منخطفٌ | في ناظريك ولونُ الكِذْبِ مزدهِرُ؟! |
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|