أيقونات
المثقف وثورة المعلومات (2)
سهام القحطاني
|
يقول لخالد عبدالرؤوف «لم يعرف لوجوده تاريخا ولا ساعة، وجدوه ملقى بين الأشجار والصخور منذ رأت عيونهم نور الدنيا، تطوعت جماعة ثلاثية الأطراف والعيون بتولي أمر رعايته وتطهيره، أزاحوا الصخور والأحجار التي غطت أجزاءه، وحطموا الأشجار الملتفة حوله، وأزالوا أكوام التراب العالق بجسده، أعادوا تثبيته وتنصيبه فوق ربوة تسر الناظرين، أوقدوا حوله النيران، توهج وجهه المعتم ولمعت عيناه وسرى الدفء في أوصاله، أفرجت السماء عن دموع حبيسة، وتشربت الأرض البور وتحركت بأحشائها بذور نثرها الأجداد يوما، توارى بين الأشجار الناشئة، اختفى عن الأعين، نسوه.. حينما غضبت السماء وتحطمت الأشجار وقذفت شقوق الأرض بآلامها تذكروه.. ألهذا فتشوا عنه؟ لا يزال هناك منتصبا. كان منتظرا. بعد ان خمدت نيرانه.. والتهمت الزواحف عينيه وساقيه ويده اليمنى.. لم يبكوا عليه كثيرا، داروا عجزه عن أعين المتطفلين والأصحاء.. ووهبوه من أنفسهم نواقصه المفقودة، جمعوا أشجارهم المتحطبة، أوقدها أسفله ثانية، وسجدوا تحت قدميه تلونت وجوههم بالرماد وتوارت النيران وخمدت، لملموا ما تبقى من أشجارهم وأعادوا اشعالها وسجدوا.. التهمت النيران ما تبقى من حطبهم وخمدت، عبرت سحابة مبتعدة، أزاحوا أكوام الرماد وتجادلوا، ألقوا صغيرهم، كان يبتسم، تجددت النيران، صرخ، تراقصت على صراخه ألسنة اللهب، استغاث، لعن، همس كبيرهم ضاحكا: «إن عدد من دخل الدنيا قد تجاوز الحد»، تذكرت هذا النص الذي قرأته منذ سنوات أثناء انغماسي في كتابة عن ثورة المعلومات، ولعلي توهمت الملامسة بينهما الغموض الكامن داخل تفاصيل المعرفة التي تبدو لي كطوطم مجهول، وثقافة نائية كجزء من أرض افريقية للجوعى فقط، وهذا أفظع ما في الأمر ان تتحول مفاهيمنا إلى أشياء تعبدية نستعمر داخلها ونحولها لطوطم تقديسي، إن مفاهيمنا نحو الأشياء لا تناقش من خلال كليات الرفض أو القبول بل من خلال تفاصيل المسوغات التي تربط قراراتنا نحو الأشياء وتفرزها حتميات التغير للقانون الإلهي للنشوء والارتقاء.
ويظل السؤال: هل يستطيع المثقف لدينا ان يمثل اليوم أداة الانفتاح المعرفي الاجتماعي أم ان المثقف يعيش كما يقول الكاتب السوري ياسين الحافظ خارج «الفوات التاريخي للمجتمع العربي» الفوات التاريخي الذي يجعله خارج الزمن وداخله في آن، ويشاهد الحداثة الكونية ولا يسهم في إنتاجها، الذات الإنسانية تتصارع بين ثلاثية الوجود والغياب والإنجاز، بين الماضي الدستور الذي يقولب مفاهيمنا وتفسيراتنا للنص بقراءة قديمة المنهج، والحاضر المعطى الجاهز الذي نستسلم له بصورة مقصودة أو غير مقصودة فندخله للاحتماء من جبرية الصراع مع مارد التغيير، والمستقبل الذي يفجعنا بقدومه المخصوص على علاته ليسقط عند اقدامنا كهدية عيد ميلاد، لا يجد له مكانا لبناء آخر، حينها يمضي صما بكما عندما لا يجد من يفتح فمه ليأكل تساؤلات الجدل والهذيان.
نحن في عالم متغير ومتبدل وتثبيت التجربة داخل ذات مقولية أمر لا يعد مقبولا بل أحسبه مستحيلا ما بعد المائة في خضم ثورة المعلومات التي تزاحم تركيب الاكسجين البشري، السلطة المعلوماتية التي أضحت جزءاً من تكوين ثقافة الفوضى التي يقول عنها جورج بالاندييه: انها سمة إبداعية تزيل قديما بخلق جديد وتمثل منحى ايجابيا وتقود خطابا غير مقبول بالأكيد كنمط علاقة مع العالم، إن الثقافة اليوم ترتدي زي السلطة المعلوماتية، ولم تعد الحكمة كما ألفناها بلاغة لفظية وفصاحة حكاواتية، بل أصبحت تراكما معلوماتيا تصاحب التغير المكلف بمسؤولية الاستخلاف، إن التساؤل الأقرب إلى ملامحنا، ما موقف مثقفنا من سلطة المعلومات؟ وهل هو قادر على الامتزاج فيها ومعها وبها؟ ومن أجل تفعيل الاقتراب والامتزاج، على المثقف ان يكون ملما باتجاهات بوصلة الثقافة العربية ومستجداتها، ان يكون قادرا كما يقول حمد التركي على التخلص من عزلته الثقافية والسياسية والمفهومية، ان يكون قادرا على تفعيل التجديد الفكري والثقافي والمعلوماتي في جميع المجالات بداية من نظرية الأدب ووصولا إلى الشبكة العنكبوتية، ان يكون مؤمنا بأهمية التواصل والحوار واحترام معتقدات الآخر، «اتيكيت» التحاور عن بعد، كما يقول الدكتور نبيل علي.
«إن المعلوماتية هي وسيلة بيد استعمار السوق للهيمنة على الثقافة وتصنيع الايديولوجيات التي باتت تحملها نخبة كونية متجانسة تسعى إلى تنميط العادات والثقافات وطرائق العيش على نمط واحد تختزل الحريات إلى حرية التعبير التجاري وحقوق المواطن إلى حق التمتع بسيادة المستهلك وتعميم التوهم بأن الوضع القائم هو سقف التطلع الإنساني ولم يعد هناك سوى خيار الرأسمالية القائمة». وفي ضوء هذه الحقائق مازال المثقف لدينا يطوف حول نرجسية سيكوباتية. إن خطورة التعامل الخطأ مع السلطة المعلوماتية هي خطورة تدميرية إذا نزعت عن خصوصية الثقافة المحلية حينها لن تسهم في تفعيل أي مكتسب تنموي نهضوي بل قد تؤدي إلى كارثة اخلاقية واقتصادية، إن العلاقة بين المثقف والسلطة علاقة حساسة ودقيقة لأنه من المفترض ان يمثل محتوى التكوين أداة التنفيذ وقناة التوزيع وبذا فعلى «المثقف ان يواجه خياره المصيري، فإما ان يدرك ما تعنيه تكنولوجيا المعلومات لجماهيره، وان يتقن استخدام ادواتها، وإلا ففناؤه لا محالة، تاركا وراءه فراغا ثقافيا أعدت له منصات هوائيات الثقافة الجماهيرية أو محطاتها كل ما يتطلبه سد هذا الفراغ من مضخات الملء وإعادة الملء» ولعل اقرب توضيح لماهية ثورة المعلومات ما وصفه الأستاذ مرتضى معاش بقوله: «إن أخطر التحديات التي تواجهنا هي ان الثورة المعلوماتية التي تخترق أساسياتنا وتُحدث تغييرات هائلة في حياتنا يمكن ان تخلف فينا آثارا سلبية كبيرة تعصف بحياتنا الاجتماعية والفكرية والثقافية لأنها تحدث تحولات مادية هائلة في كل نواحي الحياة اليومية مع عجز واضح عن الاستيعاب الواعي لحركتها الاندفاعية».
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
| 
