استراحة داخل صومعة الفكر قاطع الطريق ( أحمد قنديل )
|
* سعد البواردي
*80 صفحة من القطع الصغير
قاطع الطريق في لغة الشاعر يتجاوز حدود القرصان الذي لا يأمن شرَّه مسافرٌ.. انه عامل استلاب للآمال المجنحة اكثر منه عامل استلاب للمال..
أحمد قنديل عاش تجربة وعايشها شعراً من خلال ديوانه عبر قصيدة واحدة موحدة القافية والأوزان، رسمها بريشة شاعرية تتقاسمها صور بيانية تضيف إلى معناها معنى..
السرد في قصته الشعرية موحٍ بجمالياتها وحبكة نسيجها وتناغم ايقاعها،وهو عمل فني مجهد لا يقوى على طرحه إلا شاعر متمكن قادر على الغوص في بحره المتحرك.. فلا الجَزْرُ يثنيه عن المحاولة.. ولا المَدُّ يأخذه إلى القاع..
لعل المجهول الذي لم تستبن ملامحه لأول وهلة.. أهو امرأة؟ أم رجل؟ أم خيال ضارب في متاهة التصور؟! أم شبح يتراقص وسط عتمة الظلام يثير الرعب وينشر الخوف؟
الحقيقة يكتنفها غموض الموقف.. الشاعر يتحرك بسيقان شاعرية وسط درب مليء بالمفاجآت والمواجهات.. أمامه نهاية ومن خلفه بداية.. ولابد للرحلة من أن تأخذ أبعادها لجلاء الموقف.. وتحديد ذلك القرصان القاطع للطريق! أهدافه، ملامحه، وخلاصة ما يطمع فيه، وما يطمح إليه..
فرغت كأسه، فمد يديه
يترجى من الهباء الشرابا
ومن الريح نسمةً وعبيرا
ومن الصخر قطرة وانسيابا
انه يتحرك في بيداء ضياع.. لا كأس في فمه يقتل الظمأ، ولا نسمة تخفف عنه سعار الهجير.. فهو لهول حاله يتخيل المستحيل كماله..
انه الممكن.. يرى الصخر الصلد ينبوع ماء تماما، كذلك العاطش الذي يرقب السراب أملا في ان يتحول إلى بحيرة عذبة..
كانت المجرد للبدايات
الدياجير مطبقات عليه
ظللت رأسه رؤى، وضبابا
والاماني من خلفها بازغات
لمعت كوكبة، ونارت شهابا
والقوافي حارت على شفتيه
تمتمتها قصائد ورغابا..
ركام من مفردات الضياع أحسَّ، يطبق الحصار من حوله.. ولكنه لا يلوي على شيء.. أمامه مخاطرة لا تتوقف..
لا يبالي ما قد يكون وما كان
فقد حث للخلود ركابا
عابرا دربه الطويل مجازا
قد تلوى ووهدة وشعابا
ولكن رحلة السفر أمامه طويلة.. والأقدام المتحركة لابد لها من إقدام، يطوي مساحة الدرب.. ولابد ايضا من عيون مفتوحة ترقب الجادة خشية الضياع المفضي للمأساة..
كلما اتعب المسير خطاه
دق بابا على الطريق وبابا
فإذا الناس دونه مستعيذ
قد توارى أو عابث منه غابا
ليس يدري بغيره كيف مرت
واستمرت حياته أو صابا
بدأت ملامح قصته الشعرية تبدو أكثر وضوحا.. انه يتحرك وسط عالم مسكون بجموده أو جحوده لا يأبه بمعانات غيره.. عالم نرجسي النزعة، أناني النظرة.. وهذه هي حال التجربة.. آثر البعاد واصطفى لنفسه خيارا كذلك الخيار الذي اصطفاه شاعر قديم مرت به نفس الحالة اوحت إليه بذلك البيت الحكيم من الشعر:
عوى الذئب فاستأنست للذئب انه عوى
وصوَّت انسان فكدت اطير!!
إلى أين انعطف به المسار في مرحلة الاختيار؟! لقد احتمى بالوحوش الأقل شراسة كما يرى..
واحتمى بالوحوش يشكو لها الناس
نيوبا نهاشة وذئابا
اختار اخف الشرين ضررا.. ربما جاء هذا الخيار مجازيا رمزيا لما بعده..
هام بالناعم الدخيل هزارا
وجن الصادح الاصيل غرابا
قد افاءت صقوره تتفلى
وتجارت بغاثه تتصابى
ملمح جديد من ملامح القصة الشعرية لشاعرنا قنديل اضاء به من خلال قنديله جانبا بشريا مزاجي النزعة والخيار في ميوله المحكومة بعاطفة المصالح والمطامع.. وهو ما نلمسه اليوم في علاقات مجتمعاتنا بعضها البعض من تباين، وتباعد، وقطاعية..
في دربه الشاق الذي اصطفاه بدقة له ملامح شبح يتحرك عن بعد.. ليس شيطانا. ولا جانا.. انه بقايا انسان.. شيخ طاعن في السن اقعده الزمن عن الحركة أو كاد..
قدر رأيناه ليلة الأمس بالجرف
مطلا للقاع حان مآبا
فوق اكتافه الذماء تلاشى
مزْوَداً جف فضلة ووطابا
وبيمناه من صحائف عمر
أمسه حال اسطرا وكتابا
وبعينيه ظلمة ما جلاها
عنهما اليوم من رجاه فخابا
وباقدامه تجر خطاه
رجفة الوهن جفوة وعذابا
توصيف لحالة بائسة ان لم اقل يائسة تتعثر خطاها بعد ان اجهز الوهن عكازها على الحمل.. ما لبث ذلك الشيخ الانسان ان سقط سقطته الأخيرة
واكتشفناه في الصباح بقايا
من بقاياه اعظما وثيابا
من حواليه ركعا عند مثواه
عذارى التاريخ ذبن انتحابا
لعله ذلك الحكيم الذي يجسد حكمة الحياة بعد ان اعتزله واقعه.. ورفضته مواقعه التي ترى حكمة الحياة ضربا من الجنون.. والحكماء ادعياء دعوة مرفوضة لا مكان لها في زمن مسكون بهوسه وحماقاته.. واسقاطاته..
ومن نبرة الانين إلى صوت الحنين يأخذنا الشاعر معه في نقلة فجائية لعلها من باب تنشيط ذاكرة الزمن يوم ان كان للتغني مكان.. وللتمني انسان..
اليمامات. والحمائم أسراب
صباه قد اقبلت اسرابا
والعصافير بالقوافي تلاغت
وتغنت بشعره آرابا
والفراشات للازاهير حنت
وتلاقت في ساحة اثرابا
بيض المعاني تأخذه، وعذب الاماني تأسره.. حتى السحالي ورقصة الجن والموت.. شيء كثير لم تختزنه الذاكرة طرأت على مخيلة شاعرنا تدق طبولها.. ربما لإحياء ذكرى ذلك الحكيم الذي احتضنه التراب في عالم الاغتراب
سوف يحيا بذكره ذكريات
قد ألاحت بطيفه جوَّابا
فاشاحت محروقة القلب تبكيه
انينا وحسرة واكتئابا
ثم قالت لاختها كيف أنسى
كيف انساه صاحبا ومصابا
بكت فراقه كائنات اخرى غير مخلوقات البشر.. يا للجحود الآدمي.. هذا ما يريد شاعرنا القنديل ان يقوله لنا..
صاحب الكهف والمغارة والقمة
سوى ما بينهما محرابا
من تعاماه قومه حينما قام
خطيبا يسفه الاربابا
من جفوه لانه داعب الشمس
مراد ومسجد وحجابا
من رموه بالافك حين اشاعوا
انه يصنع الحروف حرابا
هكذا بدت قائمة الاتهام قائمة تذكرنا بجاهلية قوم ما قبل الدعوة الإيمانية.. زمن الظلامية حين العقول مغلقة.. والجهالة مطبقة.. الا ان شاعرنا مع كل هذا آثر رسم القصة كاسطورة لا زمان لها ولا مكان استوحاها من خياله بكثافة في التوصيف وتوظيف المفردات احسبها عصية على فهم الكثيرين الذين يرون القصة الشعرية سردا يلامس الواقع ولا يبتعد عن حدود الفهم. الحوارات في حدوتة شاعرنا تقفز دون ربط يوثق الصورة القصصية ويعطي لها اطارها دون فراغات او مساحات تطرح من حولها الكثير من علامات الاستفهام (؟؟) او التعجب (!!).. لعل تعمد القفز في سرده كي تأتي فجائية النقلة بشكل غير متوقع.. هكذا يعمد من يراهن على ان القصة ذات المحطات المتلازمة بشخوصها تظل رهن الرتابة ما لم تمنح مساحات من الانتظار والترقب لما سيأتي من متغيرات تشد المتابع لها كما لو انه قرأها للوهلة الأولى..
هكذا عمد الشاعر القنديل ان يرجعنا إلى الخلف.. وان يراجع لنا قصة البطل في اسطورته بعد موته. كيف اغفى.. وكيف تحدث وهو في نزعه الأخير بصوت مسموع وهو يحادثها لست أدري من هي عن رحلته الطويلة.. ومشاق الدرب ومرارة العزلة والاغتراب.. قائلاً لها:
أنا يا جارتي وديعة صحرائك
طيفا قد حام فيك ولابا
ولأنها لا تعرفه.. أو لانه يريد ان يعرفها بنفسه أكثر يقول مخاطبة تلك المجهولة المعلومة سرا في أعماق شاعرنا:
أفتدرين من أكون انا الحب
انا الفن لا يطيق كذابا
انا في امتي الضحية تترى
في مدار الأيام تروي العجابا
انا فيها منها المثال تناءى
او تدانى إلى المنال اقترابا
هكذا كشف عن وجهه وهويته الحجاب.. وهكذا عرفها وعرفنا نحن عن نفسه.. ان الضمير الحي الذي جفاه عصره.. وجافاه أهله.. تركوه داخل قمقمه حتى أعياه الوهن إلى درجة الموت.. ولأنه الضمير لابد له من وصية حتى ولو كانت عصية على فهم الجحود والجمود.
قل لأهلي يا دهر: ما كان اوى
لو تحرت بعض العقول الصوابا
او اصاغت اسماعها فاعارت
بعض ما قلت سمعها الهيابا
لو افاضت من القلوب على القلب
عزاء يقرب الانسابا..
طال سؤلي إلى الزمان ولم ألق
على كدّة الزمان جوابا
ضيعة العمر لا يضيق بها الحر
متى محَّص المدى الأسبابا
وصيته لأهله.. لقومه.. لا تنتهي عند هذا الحد.. انهم في حاجة إلى التذكير أكثر وأكثر لعل بابا يقفله يُفتح لاستقبالها:
قل لأهلي دنوت قفزوا
ولقومي شعبا مدحت فعابا
قدّسوني أو فالعنوني ولكن
لا تقولوا غطى التراب ترابا
سوف ابقى رغم الفناء لتبقى
صورتي فكرة تنير الشعابا
عندها وبعد ان القى ما في جعبته من وصية وعظة ارخى للموت جفنا، واسلم الروح لبارئه.. بهذه النهاية الدرامية لضمير يقظة غيبه قومه.. وعابوا عليه ان يظهر استبانت لنا ملامح الصورة لقاطع الطريق.. ولكن أي قاطع طريق أراده القنديل بطلاً لاقصوصته الشعرية.. وهو لم يرتكب جرما.. ولا اعتداء على أحد؟
انه قاطع الطريق انتسابا
عابه قاطع الطريق اكتسابا
قد رعانا بشعره فرعيناه
معافى من زيفه ومحابى
وابحنا له الدروب مشاها
صاحب الدار صابرا أوابا.
هكذا أسماه.. وأحسبه لم يوفق كثيرا وقد اعطى له هذه الصفة.. كان جديراً أن يكون فاتح طريق لدارة المعرفة حتى وان اسلمة اهله للأذى والعزلة..
قاطع الطريق هو الذي يسد منافذ الحركة.. ويشل طاقتها.. مصادرة لمال.. أو حجبا لآمال.. أو قتلا لأعمال.. والحكيم.. أو المصلح.. أو المفكر هو الذي بسعيه تنمو ثروة الخير حصيلة عمل.. ومحصلة أمل.. رحم الله الفقيد الراحل أحمد قنديل الذي أضاء بقنديله وأثرى مسيرتنا الأدبية في بلادنا الغالية.
وإلى لقاء آخر مع شاعر آخر في تأملات شعرية تستحق الرصد.
* الرياض: ص.ب 231185
* الرمز 11321 فاكس 2053338
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|