| التوظيف الشعري «9»
|
د. سلطان سعد القحطاني
استثمار الفرص في الوصول إلى البغية الشخصية أو الجماعية ظاهرة معروفة في الشعر العربي منذ القدم، فالشاعر من أول الناس تأثراً بالمواقف، ومن أذكاهم اصطياداً للفرصة السانحة، إضافة إلى أن الشعر وسيلة تعبيرية سريعة، وللمناسبة دور مهم في تهيئة الفرصة السانحة للشاعر في التعبير عما يريد، وخاصة أن المرسل إليه على استعداد إذا أراد لتلبية مطلب الشاعر، مما يشجع الثاني على المضي في هذا السبيل، وإن اختلفت المناسبات فالهدف واحد في كل المواقف. وقد سبق معنا استثمار عبدالله بن خميس حضور الأمير فهد بن عبدالعزيز، كوزير للمعارف، ليتقدم إليه بطلب فتح مدارس للبنات، فابن خميس استثمر هذه الفرصة للحصول منها على موافقة الأمير على تعليم المرأة. ولم يكن ذلك بالجديد في استثمار فرصة ما للتعبير عن حاجة ما، فشوقي استثمر مجيء طيارين من فرنسا إلى القاهرة بطيارتهما سنة 1914م، ليقول للشباب اعملوا مثل أبناء هذه الدولة التي تقدمت حتى وصلت الفضاء، ولم تصله إلا بالعلم، فيقول:
عصركم حر ومستقبلكم
في يمين الله خير الأمناء
لا تقولوا حطنا الدهر فما
هو إلا من خيال الشعراء
حتى أن قال:
واطلبوا العلم على الأرض فإن
هي ضاقت فاطلبوه في السماء
ويتفق هذا السياق مع سياق عبدالرحمن المعاودة في قصيدة وجهها إلى أحد الأمراء في البحرين يطلب فيها فتح مدرسة لتعليم الشباب والقضاء على الجهل:
على أني وكل فتى أديب
نؤمل من ندى الملك اللبيب
وهذا و لسان حال الشعراء والمصلحين في كل زمان ومكان، وهو شعور الشاعر والأديب بما لا يشعر به غيره، فقد وجدوا أن أبناء الأمم تقدمت بفعل التعليم والثقافة، وأن الجهل مصدر كل بلية يبلى بها الشعب، فصاروا يتصيدون الفرص للإعلان عن مطالبهم النبيلة ويستثمرون كل فرصة يحضرها مسؤول يظنون فيه الخير لأمتهم، فهاهو أحمد يوسف الجابر يقول:
بني وطني هبوا اشتياقاً إلى العلى
وشيموا بروق المجد لاحت مخائله
وإن كان الجابر ومن مثله يحملون هم الأمة العربية والمصالح الوطنية ويعبرون عن الحاضر فإنما يستشرقون المستقبل (إن رعاية ربط الماضي بواقع الحال واستشراف المستقبل كانت في الحقيقة رؤية جماعية على مستوى الوطن العربي من مشرقه وحتى مغربه، وهي رؤية ظهرت واضحة عند شعراء النهضة.. وبما أن هذه الرؤية قد ترسخت في أذهان الشعراء، كرؤية مستقبلية، فإن قضايا العرب لم تغب عن ذهن أحد منهم، ومناسباتها في أوليات اهتماماتهم، فمن مأساة يهتبلون الفرصة للتعبير عن سخطهم منها، إلى مناسبة سعيدة يعبرون عن فرحتهم بها، وبين الفرصتين ترقب مشوب بالحذر، فكانت قضية الجزائر تشغلهم، وفلسطين في وجدانهم، والاحتلال للأقطار العربية لا يقل عن كفاح الشعوب، يقول أحمد سالم باعطب:
سائلوا المجد عن كرام بناته
عن مصابيح أفقه عن حماه
الأباة النسور من ألبسوا (م)
(أوراس) نوراً على ذرى هضباته
سل دعاة الحروب في مهد
وهران عن النابهات من بطلاته
عن فتاة جميلة في إباها
عشقت شعبها وهامت بذاته
وأحمد باعطب ينفعل مع القضية الجزائرية حتى بعد التحرير ويخاطب المتلقي بخطاب الشعر عن الفدائية الجزائرية (جميلة بوحريد) كرمز للفتاة العربية العنيدة، مهما كان تعذيبها.
وإن كان هذا الشاعر قد وظف هذه القصيدة في التعبير عن انفعاله كعربي يشعر بشعور الآخرين من العرب، سواء قربت المسافات أو بعدت، فإن الشعراء الآخرين لم يقلوا عنه تعبيراً عن القضية نفسها في مناسبات كثيرة، وكلما سنحت الفرصة لذلك. وقد لا تكون المناسبة حية حاضرة، كشعر المناسبات الخالي من الوجدان، المركب تركيباً مزجياً لإرضاء حاضر المناسبة، أو الوصول إلى هدف في ذهن الشاعر، بل تكون مناسبة تاريخية أو مناسبة جلبتها مناسبة أخرى تدعوها بطريق غير مباشر، كوقوع كارثة أو هزيمة أو مناسبة مشابهة لها في المعنى مختلفة عنها في التاريخ والموقع الجغرافي. فكم من الشعراء وظف الحدث التاريخي الماضي للوقائع المعاصرة، كنوع من الاستدعاء والتذكير والحسرة على الماضي الجميل، في وقت النكبات، فيقارنها الشاعر بقول مأثور شعرائهم وحكمائهم، أو العكس من ذلك، يقول صالح الزهراني:
(لقيط.. ناصحت من تهوى فما انتصحا
كانت زوايا المدى في عينه فرحا
قدحت بالشعر زنداً مطفئاً، فأبى
والليل مغض ووجه الفجر قد سنحا
لا حامل السيف يدري عن حمائله
والمهر لا أدمن الجلى ولا ضبحا
فوق انحراف الزوايا، تاه فارسه
لأن مبدأه للفتح ما اتضحا)
والزهراني في قصيدته هذه لم يكن واضحاً ولا رامزاً إلى شيء أكثر من رمزه إلى انحطاط الأمة الإسلامية، وقد استثمر هذه الفرصة السانحة ليقول: إن لقيط بن حارثة قال لقومه ما قاله الحكماء اليوم، وكلاهما لم يستمع القول. ولم يكن تلميح الزهراني كتصريح الآخرين ومباشرتهم العفوية والمتعمدة، كانفعال في مناسبة معينة، قد يكون الشعر فيها جيداً أو رديئاً، هذا ليس موضوعنا هنا لكنها على أي حال تعبير اغتنمه الشاعر ليقول ما عنه، وهاهو عادل اللباد يقول:
أي القوافي تلبي نشوة الظفر؟!
وهل يعي النصر إلا قلب منتصر؟!
وهل يرى المجد إلا من يصاهره
على المطارح والأرزاء والخطر؟!
انفض جناحك يا لبنان من سقم
ولملم الجرح من آه ومن كدر
والقصيدة قيلت في مناسبة النصر وجلاء المحتل الإسرائيلي عن أرض لبنان. واتخذ البعض من الشعراء في التاريخ العربي والعالمي منفذاً يتصيدون من خلاله رمزاً للواقع العربي، الذي يمر بأسوأ حالاته الراهنة، ليقول عن واقعه مالا يستطيع قوله بالتصريح، فالرمز بالبراق، وبالجثث، وقميص عثمان، ومحنة المسلمين بين علي ومعاوية، والرمز بأبي موسى الأشعري، وغير ذلك من الرموز، كاستثمار للمواقف العربية، وعلى طريقة المثل العربي (التاريخ يعيد نفسه) من ناحية، وأن العرب لم يتقدموا، أو بمعنى أدق، لم يتخلصوا من عوامل التخلف، فحول الشاعر المأساة إلى أسطورة شعرية. وسواء كان التحول إرادياً أو غير إرادي، فهو في النهاية تعبير فردي أو جماعي عن موقف من المواقف، ولا ننسي العاطفة المشبوبة عند العربي، في كل زمان ومكان، إضافة إلى تأثر الشاعر عن غيره من الناس بالظروف والمستجدات، سلباً أو إيجاباً.
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
| 
