(مساقات) السُّلَّّم الشِّعْريّ لدى العرب (44) (من الشاعر إلى الشُّعرور)
|
* د. عبد الله الفَيْفي
1
كان المساق الماضي حول الفئة الثانية من الألقاب التقييمية للشعراء لدى العرب، وهي تلك التي تتعلق ببراعة الشاعر في منحى من مناحي المعاني الشعرية. ومن تلك الفئة: لقب (الكاهن)، الذي أُطلق على (زهير بن جناب الكلبي، ت 564م). وهو يؤصل لنا ألقاباً أخرى إسلامية، ك(المتنبي)، و(ديك الجن). وقلنا إنه لا عجب في هذا، فقد كانت نظرة العرب للشعر والشعراء شبه تقديسية، ذلك أنهم كانوا في مختلف عصورهم يعتقدون ان للشاعر مصادر غيبية، يُوحى إليهم منها ما يقولونه من عبقري الكلام وسحره. كما كانوا يؤمنون بأن الجنّ وراء كل غامض او عجيب، مما لا تدركه عقولهم، وما أكثر ما لا تدركه عقولهم! ومن ثم عبد أكثر العرب الجن قبل الإسلام، كما أخبر عنهم القرآن. ولا غرابة أيضاً أن يستمر هذا الاعتقاد في الجن بعد الإسلام وإلى يومنا، كما هي حال العقل الخرافي في كل الشعوب المتخلفة وأن يؤسلمه المأسلمون، كما درجوا على ان يأسلموا أشياء مختلفة من ثوابت عاداتهم وتقاليد آبائهم البالية، طلباً لاستمرارها والتسليم لهم بها. هذا على الرغم من أن فقيهاً بدرجة الشافعي مثلاً وهو من هو كان ينكر اتصال الإنس بعالم الجن، إذ كان يقول: من زعم من أهل العدالة أنه يرى الجن، أبطلت شهادته، قال: إلا أن يكون نبياً!. وبطبيعة الحال، الشافعي يؤمن بأن لا أنبياء بعد محمد، وإنما أمم من دجالين وأغبياء! ويستدل الشافعي بالآية:{ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ }. (ينظر: الشبلي، آكام المرجان في أحكام الجان).
وهكذا تتأصل لنا من خلال لقب (الكاهن) تلك النظرة العربية الى الشاعر الممتدة عبر التاريخ تربطه تارة بالكِهانة، وتارة بالتنبؤ، وثالثة بالجنّ.
2
أما اللقب الثاني من هذه الفئة، فلقب (الكيّس)، بياء مشددة، الذي خُص به (النمر بن تولب العُكْلي، ت. 635م)، شاعر مقل مخضرم، من المعمرين، والكيّس لغوياً هو: الحسن الفهم والخُلُق، العاقل المتروي في الأمور. وصغرها العامة إلى: كُوَيِّس). وقيل انه لُقب بالكيّس: لرجاحة عقله، وحُسْن شعره، وكثرة الأمثال في ذلك الشعر. ولعل الخصلة الأخيرة أقرب الى مقصود لقبه، فقد كان النمر كما يقول حماد الراوية كثير البيت السائر والبيت المتمثّل به. (ينظر: الاصفهاني، الأغاني). وبذا يصاقب لقبُ (الكيّس) لقبَ (كعب الأمثال)، الذي مُنح كعب بن سعد الغنوي، السابق الحديث عنه ضمن هذه السلسلة البحثية حول (ألقاب الشعراء العرب).
ومن هذه الفئة أيضاً: اللقب (ذو الآثار)، الذي اعطاه العرب ل(لأسود بن يعفر النهشلي، ت. 600م)، وان لم يغلب على اسمه. وقد عدوه شاعراً فحلاً، كما نقل (الاصفهاني)، او يشبه الفحول، كما ذكر (الأصمعي، فحولة الشعراء). قال (الفيروزآبادي، القاموس المحيط (أثر)) في تعليل لقبه: لأنه إذا هجا قوماً ترك فيهم آثاراً، أو شعره في الاشعار كآثار الأسد في آثار السباع. ولعل الأول أقرب للصواب، فقد أشار الجمحي في (طبقاته) الى انه (كان يكثر التنقل في العرب يجاورهم، فيذُمُّ ويحمد). فلقب ذي الآثار هنا ينصب على البراعة في الهجاء، وكأنه صنو لقب (الأخطل)، للشاعر الأموي المعروف. فقد قيل في تعليل هذا الأخير انه يعني السفاهة والخطل في القول، وهو الفحش وبذاءة اللسان وسلاطته. (ينظر: الاربلي، المذاكرة). وقد نُسب تلقيبه الى رجل من قومه هجاه الاخطلُ في صغره، فقال: يا غلام، انك لأخطل اللسان، فغلبت عليه. حسبما يورد الاصفهاني في (الأغاني)، والسيوطي في (المزهر).
أما الفئة الأخيرة من الألقاب التقييمية، فتلك التي تعيب الشاعر لإخلاله بالنمط المألوف من الشعر، او تقصيره عن مجاراة الشعراء. ويمكن ان يُشار في هذه الفئة الى لقب (المهلهل) نفسه، الذي كان يحمل في وجه من اوجه دلالته غمزاً عاماً لشعر هذا الشاعر، الذي هلهل نسيج الشعر، ولم يوله حقه من العناية والتنقيح والاحكام. وكل شاعر لا يفرغ للشعر فراغ الفحول والنوابغ والمحبرين من الشعراء، فقد حق عليه ان يصنف لدى العرب مهلهللاً للشعر.
واللقب الثاني الذي يُعثر عليه من هذا النوع لقب (الشُّوَيْعر). وقد اطلقه الشاعر امرؤ القيس على (محمد بن حمران بن ابي حمران الجعفي). ولا يعني القارئ ان يكون امرؤ القيس قد لقب الشويعر بلقبه هذا نكاية فيه، لأنه امتنع عن بيعه فرساً، كما تذكر بعض الروايات ولقد نسب الآمدي، في المؤتلف والمختلف الى الشويعر اشعاراً جياداً وقف عليها في (كتاب بني جُعفي) وإنما يعنينا استخدام هذا اللقب اشارة الى الطبقة المتدنّية في الشعراء. وقد أُطلق هذا اللقب على غير الجعفي: كالشويعر الكناني، والشويعر الحنفي. ولعل (الشويعر) يساوي مرتبة (الشعرور)، في التصنيف ابن رشيق، الرباعي للشعراء، في كتابه العمدة، حين قال: الشعراء أربعة:
1 شاعر خنذيذ، وهو الذي يجمع الى جودة شعره رواية الجيد من شعر غيره وسُئل رؤبة عن الفحولة، قال: هم الرواة.
2 وشاعر مُفْلِق: وهو الذي لا رواية له إلا أنه مجود كالخنذيذ في شعره.
3 وشاعر فقط: وهو فوق الرديء بدرجة.
4 وشُعْرور: وهو لا شيء.
وهذا الأخير، (اللا شيء)، هو الشاعر الذي لا تستحي ان تصفعه، حسب تصنيف الشعراء الرباعي المأثور:
الشعراء فاعلمنّ اربعة:
فشاعرٌ يجري ولا يُجرى معهْ
وشاعرٌ يخبّ وسط المعمعهْ
وشاعرٌ لا تستحي أن تسمعهْ
وشاعرٌ لا تستحي أن تصفعهْ
او يصحّ القول إن (الشويعر) في أحسن الأحوال يحتل درجة بين: (الشاعر والشعرور). ونظيره في العصر الأموي لقب الشاعر (عويف القوافي)، السابق ذكره وتحليل لقبه في أحد المساقات، فقد أُلصق بصاحبه على سبيل السخرية من عدم اجادته القوافي، التي كانت تمثل صلب البناء الشعري، وعنوان هويته لدى العرب.
مقام:
وتعقمُ أُمّهات الخَيْلِ لمّا
يُخِبُّ الوَهْنُ في المعنَى اللَّقُوْحِ
فويلُ غَدٍ من اليَوم، وممّا
تُخَبِّئُ تحتَ إبْطَيْه قُرُوحِي!
aalfaify@hotmail.com
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|