د.عبدالحفيظ عبدالرحيم محبوب
حذرت السعودية من التسرع في تنفيذ تحول الطاقة وفق اتفاقية باريس لمكافحة التغير المناخي، حيث اعتبرته ربطاً أحادياً دون بقية المؤثرات الأخرى التي تؤثر في تغير المناخ منها طبيعية ومنها بشرية وهي كثيرة جداً ليست فقط مقتصرة على استخدام الوقود الأحفوري، بل إن الدول المتقدمة تستخدم الفحم الحجري الأكثر تلوثاً في توليد الكهرباء بنسبة 38 في المائة، تأتي على رأس هذه الدول الصين ثم الولايات المتحدة فالاتحاد الأوروبي ثم الهند.
يعتبر ربط تحول الطاقة بتصفير الانبعاثات لأهداف وغايات سياسية، هذا الربط أدى إلى اختلال في ضخ الاستثمارات وتوجيهها الوجهة التي تريدها الدول التي لا تمتلك طاقة هيدروكربونية، ولم يتحقق هدف الوصول إلى الطاقات المستدامة مما تسبب في اختلال في إمدادات الطاقة، والاستمرار في هذا النهج سيقود إلى أزمة طاقة في المستقبل القريب قبل البعيد، وتتسبب في التضخم نتيجة رفع الأسعار الناتج عن تذبذب إمدادات الطاقة للمستهلكين بأسعار تنافسية.
ركزت السعودية في نهجها على سلة متنوعة من الطاقة، والرئيس ترامب قرر الخروج من اتفاقية باريس للمناخ من أجل مواصلة التنقيب عن النفط (احفر عزيزي احفر)، ما يعني ضخ الاستثمارات في هذا القطاع بعدما كانت وكالة الطاقة الدولية تطالب بضخ الاستثمارات نحو الطاقة المستدامة والنظيفة على حساب الطاقة الهيدروكربونية؛ ما شجع شركات البترول العالمية نحو نهج ترامب الجديد، بدلاً من الاستجابة للتشريعات الأوروبية التي حاولت تنفيذ تحول الطاقة بأسرع وقت ممكن، تماشياً مع تلك التشريعات فرضت الدول الأوروبية شروطاً بيئية أشد قساوة على شركات النفط الأوروبية، نتج عن ذلك ارتفاع تكاليف إنتاج الكهرباء أثر بشكل خاص على المزارعين وخرجوا في مظاهرات بسبب تحملهم أعباء مالية عالية أثرت على منتجاتهم، وأصبحت أسعار منتجاتهم أعلى من المنتجات المستوردة من دول أميركا اللاتينية التي لا تتقيد باتفاقية باريس للمناخ.
فقد أعلنت شركة بريتش بتروليوم بي بي أنها ستعود إلى عملها الأساسي السابق في تنقيب النفط والغاز، أي إعطاء الأولوية لصناعة النفط والغاز، وفي نفس الوقت لن تتخلى عن الاهتمام بالطاقات المستدامة، ليس فقط استجابة لنهج ترامب بل وجدت أن التفاؤل في مسيرة تحول سريع في التوصل إلى طاقة متجددة لم يكن مجدياً، وقد سبقتها شركتا شل الأوروبية وإكوينور النرويجية؛ ما يعني أن تلك الشركات بدأت تعيد النظر في ضخ استثمارات ضخمة في الطاقة المستدامة، ولكنها لم تحقق الاستفادة القصوى المرجوة من طاقتي الشمس والرياح بسبب التكاليف المرتفعة التي تم ضخها في هذه الصناعة وتسببت في ارتفاع أسعار الكهرباء وارتفاع نسب التضخم في الدول المتقدمة، وأصبحت الطاقات المستدامة عبئاً على الشركات، خصوصاً بعدما تم تقليص أو إيقاف الدعم الحكومي عنها في عهد ترامب الذي كانت تتلقاه في عهد بايدن كما الشركات الأوروبية؛ بسبب تعاطف بايدن مع حركة مكافحة تغير المناخ التي تقودها أوروبا في العالم، بالطبع يزيد من تكاليف مدخلات الإنتاج وينعكس على زيادة الأعباء السعرية على المستهلكين في أمريكا.
كانت بي بي قد تعهدت عام 2020 خفض استثماراتها 40 في المائة في التنقيب عن الطاقة الهيدروكربونية، مقابل زيادة استثماراتها 25 في المائة في الطاقة المتجددة بحلول 2023، لكنها اليوم تعيد النظر في تلك الاستراتيجية خصوصاً بعد انسحاب ترامب من اتفاقية باريس للمناخ، وقررت زيادة الاستثمارات في الطاقة الهيدروكربونية 20 في المائة ما بين 1,5 مليار دولار وملياري دولار سنوياً من أجل زيادة الإنتاج لما يتراوح ما بين 2,3 مليون برميل يومياً و2,5 مليون برميل يومياً بحلول 2027، أي إعطاء الأولوية للطاقة الهيدروكربونية بدلاً من الطاقات المستدامة.
هذا هو نهج السعودية منذ البداية الذي تجاهلته وكالة الطاقة الدولية أن الاهتمام بالطاقة الهيدروكربونية أولوية إلى جانب الاهتمام بالطاقة المستدامة والنظيفة من أجل الاستثمار في طاقة المستقبل، لذلك بعد هذه التجربة المريرة التي مرت بها الشركات بعدما كانت تحذر من عواقبها السعودية وأنها غير واقعية، فقد أكد الرئيس التنفيذي لشركة أرامكو السعودية في مؤتمر سيرا ويك في هيوستن بقوله لقد حان الوقت للتوقف عن تعزيز الفشل، وذكر مثالاً في المؤتمر عن إنتاج وقود الهيدروجين الأخضر كمثال على الذي كان محور سياسات تحول الطاقة، ولكنه لا يزال مكلفاً للغاية لا يمكن استخدامه تجارياً على نطاق واسع، بناء على هذا الواقع الذي ذكره الناصر طالب بإعادة التفكير في خطط التحول في مجال الطاقة والتوقف عن التركيز على عناصر التحول التي أخفقت، والحاجة إلى الاستثمار في الوقود الأحفوري لتلبية الطلب العالمي.
السعودية لم تتزحزح عن مواقفها في الاهتمام بمزيج الطاقة كاستراتيجية اتبعتها، فقد استثمرت السعودية أكثر من 50 مليار دولار في عام 2024 في مشاريع الطاقة التقليدية والمتجددة، لأنها تستهدف الاستثمار فيما يصل إلى 12 غيغاواط من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح بحلول عام 2030 دون إعادة النظر في خططها على غرار الشركات العالمية، بل هي توازن بين الاستثمار في الطاقة التقليدية التي لا تزال الطاقة التي يعتمد عليها العالم حتى الآن بجانب الاهتمام بالطاقة المتجددة، أي أن سياسة السعودية الاستثمارية في سلة طاقة متعددة المصادر يلعب فيها النفط دوراً مهماً إلى جانب الاهتمام بالمصادر الأخرى.
مرة أخرى تثبت السعودية للعالم صحة نظرتها الصائبة حول واقع ومستقبل الطاقة، وهي دولة واقعية ولا تنطلق من واقع أنها دولة نفطية، ولكنها تدرك خطر أي تحول سريع فيما لابد أن يكون هذا التحول وفق حسابات دقيقة، أي تحول بشكل تدريجي دون التخلي عن المصادر الأساسية، تبني حساباتها بناء على تجربة السنوات الماضية.
ترامب يثق بتجربة السعودية كما بوتين الذي يثق بإدارة السعودية لملف الطاقة دولياً، لذلك رفض ترامب تلك التجربة الفاشلة، وهو ما يؤكد صحة النظرة السعودية ومعارضتها إصرار وكالة الطاقة الدولية وقف ضخ الاستثمارات نحو الوقود الأحفوري وضخه في وقود الطاقة المتجددة، الذي تسبب في رفع نسب التضخم نتيجة ارتفاع أسعار الوقود.
يعود العالم الآن إلى الالتزام بمسار السعودية التي نصحت به العالم في الاعتماد على سلة مشتركة من مصادر الطاقة لتأمين سلامة الإمدادات التي تحقق أسعاراً معتدلة، ما يعني أن قيادة السعودية ملف الطاقة العالمي لا يصب في مصلحتها فقط أو مصلحة أوبك+ بل يصب في صالح العالم منتجين ومستهلكين.
** **
- أستاذ الجغرافيا الاقتصادية والسياسية بجامعة أم القرى سابقاً