جانبي فروقة
مرّ العالم بمراحل للثورات الصناعية بدأت بالثورة الصناعية الأولى التي امتدت بين (1760 - 1840م) والتي كانت مدفوعة باختراع المحركات والمكننة وتلاها الثورة الصناعية الثانية من أواخر القرن التاسع عشر إلى أوائل القرن العشرين والتي جاءت مع الكهرباء والإنتاج الضخم ومن ثم أتت الثورة الصناعية الثالثة منذ منتصف القرن العشرين والتي شهدت ظهور الإلكترونيات والحوسبة والإنترنت واليوم نعيش نحن في عصر الثورة الصناعية الرابعة وهو المصطلح الذي صاغة كلاوس شواب مؤسس ورئيس المنتدى الاقتصادي العالمي وتعرف هذه الثورة أيضا بأسماء مختلفة وهي الثورة الرقمية أو ثورة الذكاء الاصطناعي أو الثورة الصناعية الذكية وغيرها حيث تتميز هذه الثورة بالاندماج العميق بين التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء (IoT) والروبوتات والبيانات الضخمة والطباعة الثلاثية الأبعاد والتكنولوجيا الحيوية والكمومية والبلوك تشين وتقنيات جديدة تعيد تشكيل الطريقة التي نعيش ونعمل بها.
وصدر مؤخراً عن المنتدى الاقتصادي العالمي تقرير «مستقبل الوظائف 2025» والذي يلقي الضوء على الاتجاهات الكبرى التي ستعيد تشكيل بيئة العمل خلال السنوات الخمس المقبلة في ظل التطورات التكنولوجية السريعة والتغيرات الديموغرافية والتحولات الاقتصادية والاستدامة والبيئة والتوترات الجيوسياسية حيث قدم التقرير تحليلا شاملا للوظائف التي ستنمو وتلك التي ستتراجع، إضافة للمهارات المطلوبة لمواكبة التغيرات في سوق العمل وقد انطلق التقرير بتحديد القوى الدافعة للتحولات في سوق العمل وهي أولاً: التكنولوجيا والتحول الرقمي ففي ظل التطور السريع للذكاء الاصطناعي AI والبيانات الضخمة والأمن السيبراني وإنترنت الأشياء IoT يتوقع 86 % من أصحاب العمل أن يكون للذكاء الاصطناعي وتقنيات المعلوماتية تأثير كبير على أعمالهم بحلول 2030م. وثانياً: التحول إلى الاقتصاد الأخضر حيث يتوقع 47 % من أصحاب الأعمال أن تؤثر سياسات الاستدامة البيئية على استراتيجياتهم التشغيلية خلال السنوات المقبلة وذلك من أجل تقليل الانبعاثات الكربونية وصعود نجم الطاقات المتجددة والهندسة البيئية. وثالثاً: التغيرات الديموغرافية فالاقتصادات المتقدمة تشهد شيخوخة سريعة في القوى العاملة مما يزيد الطلب على القوى العاملة في قطاع الرعاية الصحية وفي المقابل الاقتصادات النامية في إفريقيا وجنوب آسيا والشرق الأوسط ستستفيد من عدد السكان الشباب في سوق العمل، ورابعاً: التحولات الاقتصادية وعدم الاستقرار المالي فتكاليف المعيشة في ارتفاع دائم رغم تراجع معدلات التضخم العالمية فإن احتمال الركود الاقتصادي بات يشكل تحديا للشركات والعمال ويتوقع التقرير أن يفقد 1.6 مليون وظيفة عالميا بحلول 2030 م وخامساً: التوترات الجيوسياسية والتغييرات في سلاسل التوريد فالقيود المتزايدة على التجارة العالمية والحرب التجارية المتصاعدة بين أسياد الاقتصاد العالمي والصراعات الجيوسياسية وتغير السياسات الصناعية تدفع العديد من الشركات إلى إعادة هيكلة عملياتها وهذه التغييرات تعزز الطلب على الوظائف المرتبطة بالأمن السيبراني وإدارة المخاطر والمرتبطة بالتكنولوجيا الحديثة.
استعرضت مؤسسة هينريش في تقريرها «عصر البيانات» كيف أصبحت البيانات موردا عالميا حاسما متجاوزة قيمة الموارد التقليدية مثل النفط فعلى مدار العقود الخمسة السابقة أدى التقاطع بين الاقتصاد والتكنولوجيا وخاصة الرقمية والجغرافيا السياسية والذكاء الاصطناعي إلى تعزيز أهمية البيانات في تشكيل الديناميكيات العالمية وبدأت تتحول البيانات إلى أصول اقتصادية رئيسة. ففي الماضي كان من الصعب قياس قيمة الخدمات الاقتصادية مما دفع الاقتصاديين الأوائل مثل آدم سميث إلى اعتبارها غير منتجة ومع التطور التكنولوجي وقياس الخدمات وتداولها عبر البيانات أصبحت اليوم عنصرا رئيسا في التجارة العالمية وقطاع الخدمات العالمي الذي يبلغ قيمته اليوم 4 تريليونات دولار يعتمد بشكل كبير على البيانات ويمثل ثلثي الاقتصاد العالمي ونصف التجارة العالمية من حيث القيمة المضافة ونصف التوظيف العالمي واليوم تتدفق البيانات عبر بنية تحتية تحوي 600 كابل بحري وعدد كبير من الأقمار الصناعية ولا ننسى أن وقود الذكاء الاصطناعي هو البيانات وتوافرها ويكفي أن نعرف أن حجم البيانات العالمي كان في عام 2010م فقط 2 زيتا بايت (Zettabyte) واليوم وصل إلى 182 زيتابايت ومتوقع أن يصل إلى 221 زيتا بايت في 2026م. (الزيتا بايت تساوي بليون تيرا بايت والتيرا بايت TB تساوي أيضا أكثر من 1000 جيجا بايت GB) وكما يتوقع تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي أن تتأثر الكثير من الوظائف نتيجة الأتمتة والتكنولوجيا الصاعدة ومن الوظائف الأسرع نموا هي متخصصو الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة ومحللو البيانات والعلماء المتخصصون في البيانات الضخمة ومهندسو التكنولوجيا المالية (FinTech) ومصممو الواجهات وتجربة المستخدم (UI/UX) ومهندسو الطاقة المتجددة والهندسة البيئية وأخصائيو الأمن السيبراني ومهندسو السيارات الكهربائية وتطوير الروبوتات ومعلمو التعليم العالي والتدريب المهني ومتخصصو الرعاية الصحية وبالمقابل ستتراجع بعض الوظائف مثل عمال المصانع التقليديين ومدخلي البيانات وعمال مراكز الاتصال والتسويق الهاتفي والمساعدين والسكرتارية وموظفي خدمة العملاء ومحصلي التذاكر والصرافين والمحاسبين التقليديين والعاملين في الطباعة ومديري الخدمات المصرفية التقليدية ومندوبي المبيعات التقليديين ويركز التقرير على المهارات المطلوبة حيث إن 39 % من المهارات الحالية ستكون غير ملائمة بحلول 2030م لذلك فن إعادة التأهيل والتدريب يعد أمرا ضروريا ومن المهارات المطلوبة على سبيل الذكر لا الحصر مهارة التفكير التحليلي والإبداعي والمرونة والقدرة على التكيف مع التغيرات والذكاء العاطفي والتأثير الاجتماعي والقدرة على استخدام وتحليل البيانات الضخمة والوعي البيئي والاستدامة ومهارات القيادة والتواصل الفعال والأمن السيبراني وإدارة المخاطر الرقمية والتعلم المستمر وتبني التقنيات الجديدة ويسلط التقرير على (Soft Skills) المهارات البشرية الناعمة المطلوبة جنبا إلى جنب مع المهارات التكنولوجية.
ويشهد اليوم قطاع التصنيع تحولًا ثوريًا بفضل التقدم السريع في مجالات الأتمتة والذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء والتحليلات المعتمدة على البيانات، مما أدى إلى ظهور مفهوم «المصانع المظلمة»، وهي منشآت صناعية تعمل بشكل كامل دون أي تدخل بشري.
هذه المصانع المتطورة تعتمد على الروبوتات الذكية وأنظمة التحكم المؤتمتة لإدارة عمليات الإنتاج على مدار الساعة، مما يعزز الكفاءة والدقة والإنتاجية، مع تقليل التكاليف التشغيلية والأخطاء البشرية وفوائد المصانع المظلمة يكمن في زيادة الإنتاجية وتحسين الجودة وتقليل التكاليف وتحسين كفاءة استخدام الطاقة المستخدمة وتأمين ظروف إنتاجية مثالية صالحة للصناعات الدقيقة ومع استثمار الشركات مليارات الدولارات في تطوير المصانع الذكية تضع المصانع المظلمة معايير جديدة في الكفاءة والتنافسية وستعيد تشكيل سوق العمل ومع استمرار الابتكار التكنولوجي فإن عجلة الثورة الصناعية المقبلة تسير نحو مستقبل أكثر ذكاء وكفاءة واستدامة.