منال الحصيني
في القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي، كانت فرنسا تمر بفترةٍ من الظلام الحالك على المستويين الحضاري والاجتماعي، كما وصفها المؤرخ الأميركي البارز وِل ديورانت (ت 1402هـ/ 1981م) في مؤلفه الشهير «قصة الحضارة». أشار ديورانت إلى حالة المدن الفرنسية، وخاصة باريس، التي كانت غارقة في ظلام لياليها؛ حيث لم تعرف الشوارع نظام الإضاءة ليلا بعد، مما جعلها تبدو كأنها تعيش في ظلماتٍ متصلة، تكشف عمق التخلف الحضاري آنذاك وتبرز مدى تراجع مستوى الحياة الحضرية، رغم مكانة باريس كعاصمةٍ كبرى في أوروبا.
وعلى النقيض لذلك نجد التطور العمراني الحضري في أوج عظمته لدى العرب في تلك الحقبة الزمنية. ما يوحي للمتتبع امتزاج العمران بحاجات الإنسان في بناء المدن الإسلامية عبر تلك القرون.
ستجد عقولاً تفردت بالإبداع العمراني والهندسي كونها تشربت ذلك الفكر الحضري من الطراز الأول وكون العرب حملوا نمط الحياة المعيشي وكيفوه وفقاً لأسلوب الحياة في الأندلس، ويظهر ذلك جلياً في الآثار التي خلدوها وخير شاهد لذلك ما نقله المؤرخون في كتبهم عن تلك الحقبة الزمنية، فببنما عواصم أوروبا تتخبط في ظلامها كانت «قرطبة» تلجُ بالنور ما يجعل المسافر بسير به لمدة عشرة أميال دون انقطاع للضوء!
ليس ذلك وحسب فالمدن الإسلامية من المشرق إلى المغرب كانت تتسم بنسق حضري مدهش للعقول، رغم تفاوت مكانتها السياسية وحجم إسهامها الحضاري كون العوامل المشتركة التي ظلت تجمعها توحي بوجود نسقية عمرانية حضرية مستمدة من مرجعية دينية واحدة، من تأسيس للبنية التحتية للمدن من شبكات مائية ورصف للفضاءات العامة وميادين مركزية وحماية أمنية وأسواق زاخرة ورعاية صحية وتنمية معرفية وخدمات متنوعة.
فبحسب مقولة شيخ الرحالين «ابن بطوطة» لوصفه لمدينة ما زارها (ضخمة المنافع، كثيرة المدارس والجوامع، لها أسواق حُسان) وبرأيي أن العمارة الإسلامية أسهمت في تطور النهضة العمرانية في أوروبا، وبالخصوص في مجال «العمران الحضري» ويظهر ذلك جلياً في ظهور «الفن المدجّن» في عصر النهضة لتصاميم المباني للكثير من المهندسين المُستعرِبين، فتلحظه في القبب والأقواس والزخارف لنسق المباني حين ذاك.
ومن هنا بدأ التقاء التنافس بين الشرق والغرب وأصبح الفكر الإنساني يتسع نحو آفاق أكبر هدفها خدمة البشرية.
فبدأت المدن الصناعية بالظهور، أو ما يسمى بـ»أنسنة المدن» على الرغم من عشوائيتها وبدأ استقطاب القوى العاملة، وبتسارع اكتشافات البشرية وتسارع نمط الحياة كان اختراع «القطار» لحمل الفحم من مناجمه هو أحد ركائز التطور الحضري كونه يسرّع حركة النقل لتتوارى مراحل تطوره ليواكب حاجات البشرية الملموسة على الصعيد الاقتصادي والثقافي والسياسي إلى يومنا الحالي.
وحتى وقتنا الراهن أصبح مفهوم (تحسين جودة الحياة) دأب البشرية من خلال التخطيط الحضري ضمن مجموعةٍ من المعايير ساهمت في إنجاح المدن من خلال توفير «البنية التحتية» المكتملة، والتي قد تتفاوت بشكل نسبي من مدينة لأخرى.
الآن وفي الوقت الحاضر أصبح الاهتمام بـ»الاستدامة» من متطلبات العمران الحضري والتخطيط له بات جلياً من خلال الموازنة بين الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والجمالية في المدن، كونت تنافسية عالمية في سباق الوصول إلى مدن ذكية لا تتطلع للوصول إلى بناء ناطحات سحاب وبنية تحتية فحسب، بل تهتم بجذب السكان بكافة شرائحهم الاجتماعية وبناء منظومة بشبكة ٍعالية من الاتصالات والبنية التحتية والمواصلات السريعة.
وللجانب الثقافي دور كبير في المساهمة بالجذب البشري من حيث الاهتمام بالتراث والفنون كونها مصدرا سياحيا وماديا لتشكل مزيج جاذب.
ولكن تخيل أنه يمكنك الوصول لوجهتك خلال ربع ساعة فقط!
حيث أصبح مفهوم المدن الـ15 دقيقة أكثر انتشاراً من خلال تخطيط الدول لرؤى تجعل المدن أكثر مرونة لتصل أماكن العمل بكل المرافق والمساكن كذلك.
فِكرُ الاستدامة تبنته العديد من المدن بأفكار مختلفة فها هي «كوبنهاجن» في الدنمارك تمتلك حي سكني تتطلع ليكون مدينة الخمس دقائق، ومدينة الـ30 دقيقة في سدني، وربما رؤية سنغافورة لتصبح مدينة الـ45 دقيقة شاهد لذلك.
أما عن (ذالاين) في السعودية التي ستتيح للسكان رفاهية التنقل لجميع المرافق والخدمات خلال «5» دقائق عبر قطار فائق السرعة يصلُ طرفي المدينة لمدة لا تتجاوز الـ»20» دقيقة حتماً ستكون مدينة صحية لاعتمادها على النشاط البدني والحد من الانبعاثات الكربونية الناتجة عن المواصلات لتحقق بذلك أعلى معايير الاستدامة.