سهام القحطاني
(تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) - سورة هود 49.
علينا أن نفرِّق بين مفهومي التاريخ والزمن في القرآن الكريم، فكلا المفهومين ليسا معادلين لبعضهما، فالزمن في القرآن الكريم لا يمثل حدثاً يصاغ كنبأ أو خبر، وإن كان معرفة غيّبية للمستمع في دائرة زمن مخصوص لوقت الإخبار، ويمكن تسميتها «وحدة الزمن الجزئية» باعتبارها محدودة بإطار زمني ومكاني وحدث مثل قصص الأنبياء.
لكن الزمن في النص القرآني هو زمن ذو خاصية استباقية مجرد من أي حدث راهن، ومرتبط بوقائع إما مستدامة من خلال «صياغتها كسنن» أو مرتبطة بأحداث المستقبل، والزمن الاستباقي في القرآن هو جزء من معجزة النص القرآني لأنه يتجاوز الماضي والحاضر شاملاً المستقبل.
في حين أن التاريخ في القرآن الكريم جاء على شكل أنباء عن الأمم السابقة ليستخلص المسلم مبادئ وسنن الحياة الإنسانية التي قدّرها الله على الإنسان لاختبار إيمانه ومواقفه من الخير والشر.
وبذلك فالتاريخ في القرآن الكريم يتجاوز «هويّة الزمن» إلى غاية مختلفة عن الإطار الزمني للرواية التاريخية التي يقدمها النص القرآني، وهي غاية تتمثل في دلالات مختلفة منها الوجودي والثقافي والإنساني والتربوي.
يبدأ التاريخ الوجودي في النص القرآني «بخلق آدم عليه السلام» ومسألة الخلاف بينه وبين إبليس التي رسمت دراما الصراع البشري بين الخير والشر وتشكلات ذلك الصراع من خلال ثنائيات صراع الإيمان والكفر.
فلو أخذنا مثلاً قصة «موسى عليه السلام والخضر» سنجد أن هذه القصة التاريخية ترمز إلى قيم معرفية وتربوية، ولو وقفنا أمام قصة إبراهيم عليه السلام وسؤاله عن «قدرة الله على إحياء الموتى» سنجد أنها قصة تنطوي على قيم فكريّة، ولو وقفنا أمام قصة أصحاب البستان سنجد أنها تنطوي على قيم إنسانية.
لاشك أن مبدأ الإيمان هو الذي تتحرك في ضوئه الأحداث التاريخية في النص القرآني، ومع ذلك لا يظهر في جوهره بل من خلال التمثيلات المختلفة التي تشرح لنا الطبيعية البشرية من رغبات ومخاوف وغرائز ودوافع، من خلال «المعرفة التاريخية»، (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) - 176 - الأعراف، (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ) - يوسف 111 -.
بدءًا من قصة آدم عليه السلام مع إبليس في الجنة، فآدم سقط في اختبار الإيمان - بقدر الله - بسبب رغبته في معرفة أثر فعل الاعتراض على قانون المنع، وهي قصة من مؤشراتها أنها تعلّمنا «بعض المعرفة قد تكون مُهلِكة للإنسان»، وفي قصة «هابيل وقابيل» يبرز شر الغيرة والحسد الذي دفع قابيل إلى قتل أخيه هابيل وهلاك قابيل بالمعصية، شر تكرر بذات الثيمة في قصة يوسف وإخوته.
عندما نتأمل المسار التاريخي في القرآن الكريم سنجد أنه ينطلق من ركيزة «الاختلاف»، قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [ الحجرات: 13]، والاختلاف في الألوان واللسان - اللغات - والعبادات والمهن والآثار.
لقد قدر الله اختلاف الناس لتحقيق المعرفة والتكامل، وليس الصراع كما تذهب التاريخية الهيجليّة أو الماركسية.
فالاختلاف هو أصل تاريخية البشر قدره الله لإعطاء كل أمة فرصة لإثبات جدارتها على استثمار إيمانها في الخلافة من إصلاح وعمارة الأرض ونشر السلام والخير انطلاقاً من الدور الوظيفي للإنسان كما وصفه القرآن الكريم (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)، البقرة 30. واختبار قدرة كل أمة على مقاومة أنواع الشر من خلال ممثلات الشيطان، لتحقيق الغاية «خير أمة».
وفي هذا الاختلاف بين الأمم تركز المعرفة التاريخية في النص القرآني على طبيعة كل أمة الشكليّة والثقافية والمهنية والسلوكيّة، لتكون مسطرة قياس لاختبار الإيمان والهداية، كما هو في قصة موسى عليه السلام التي تقدم ثقافة السحر كاختبار لقياس الحقيقة من الوهم والإيمان من الضلال، وقصة قوم لوط عليه السلام التي تقدم السلوك المخالف للطبيعة الإنسانية وأثره على هلاك المجتمع، وقصة قوم شعيب عليه السلام الذين كانوا يرتكبون آثاماً اقتصادية من خلال الغش التجاري فكانت من أسباب هلاكهم، والرواية التاريخية في النص القرآني هي رواية تجمع بين التأمل العقلي وأنماطه النقدية والتأمل البصريّ. (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (137) آل عمران.
وهذا التنوع في تقديم الوقائع التاريخية من خلال النص القرآني هو للقياس والتوثيق، لتحقيق الكفاية الإيمانية للمسلم.