م. سطام بن عبدالله آل سعد
عندما نسمع مصطلح التنمية المستدامة، يتبادر إلى الأذهان الجوانب الاقتصادية والبيئية والاجتماعية، باعتبارها الأساس في أي مشروع تنموي حديث. لكن في الدول الإسلامية، هناك بُعد آخر لا يمكن إغفاله، فهو الذي يوجّه هذه الأبعاد ويضبط مسارها، وهو البعد الشرعي. فمنذ قرون، شكلت تعاليم الإسلام مرجعية للحفاظ على الموارد، وتحقيق التوازن بين حاجات الأفراد ومتطلبات الأجيال القادمة، ما يجعل التنمية المستدامة أكثر من مجرد خطة اقتصادية، بل مسؤولية دينية وأخلاقية.
في هذا السياق، تبرز المؤسسات الدينية بوصفها جهة تُرسي قواعد الاستدامة، وتساهم في تحقيق العدالة الاجتماعية، والرفاه الاقتصادي، عبر نهج يراعي قيم الإسلام ويوائمها مع تحديات العصر.
يخطئ من يظن أن فكرة الاستدامة وليدة هذا العصر، فالإسلام أرسى مبادئها منذ أكثر من 1400 عام. فقد جاء في القرآن الكريم: (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) (الأعراف: 31)، كما أكد الإسلام على مسؤولية الإنسان تجاه الأرض بقوله تعالى: (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها) (هود: 61). هذه النصوص تمثل فلسفة عميقة في ضبط الاستهلاك، وإعمار الأرض، وحماية الموارد، وهو ما يجعل التنمية المستدامة جزءًا أصيلًا من التعاليم الإسلامية.
فمنذ القدم، لعبت المؤسسات الدينية دورًا أساسيًا في نشر القيم الأخلاقية التي تحافظ على التوازن الاجتماعي والاقتصادي، فهي تشجع على التكافل الاجتماعي، وتحذر من الفساد والتبذير، كما تسهم في إحياء ثقافة الوقف، وهو من أقدم النماذج الإسلامية للاستدامة المالية، حيث يضمن استمرار المشاريع التنموية في مجالات التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية، حتى بعد وفاة المتبرعين.
ولا يقتصر هذا الدور على الجانب الأخلاقي، بل يمتد ليشمل تشجيع الشركات الكبرى على تحمل مسؤولياتها الاجتماعية، من خلال استثمارات وقفية أو تنموية تدعم الفئات المحتاجة، وتحسن جودة الحياة، ما يعكس ارتباط التنمية المستدامة بتعاليم الإسلام التي تحث على العدل والمشاركة.
إنّ العدالة المالية هي أحد أعمدة الاستدامة، وهنا يأتي الاقتصاد الإسلامي كحل متوازن يضمن النمو دون استنزاف الموارد أو إلحاق الضرر بالمجتمعات. فالمؤسسات الدينية تروج لنماذج تمويل إسلامية، مثل الصكوك الوقفية وصناديق الاستثمار الشرعي، التي توفر مصادر تمويل طويلة الأمد للمشاريع التنموية، دون الوقوع في مشكلات الديون الربوية التي تؤثر على استقرار الاقتصادات.
كما أن الفتاوى المتعلقة بإدارة الموارد المالية تساعد في توجيه أموال الزكاة والضرائب الشرعية نحو مشاريع تنموية مستدامة، بدلًا من الاقتصار على الدعم الاستهلاكي المؤقت. وفي مجال العقارات والتجارة، تسهم الفتاوى في منع المضاربات غير العادلة والحد من التضخم المصطنع، ما يتيح للأفراد فرصًا اقتصادية أكثر عدلًا، ويعزز الاستقرار المالي على المدى الطويل.
التنمية المستدامة تشمل أيضًا الحفاظ على البيئة، وهو ما أكدت عليه الشريعة الإسلامية بوضعها قواعد صارمة لحماية الموارد الطبيعية. فالمؤسسات الدينية تلعب دورًا رئيسيًا في هذا الجانب من خلال إصدار الفتاوى التي تبين خطورة التلوث الجائر، وتدعو إلى ترشيد استهلاك المياه والطاقة، بل وتشجع على الاستثمار في التقنيات الصديقة للبيئة، بما يتماشى مع الحديث النبوي: «إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها، فليفعل».
كما أن إدراج مفاهيم الفقه البيئي في المناهج الدينية من شأنه أن يخلق وعيًا جديدًا لدى الأجيال القادمة، ويؤسس لثقافة بيئية مسؤولة، تعزز فكرة أن الحفاظ على الطبيعة ليس ترفًا، بل واجب شرعي.
المسؤولية الملقاة على عاتق المؤسسات الدينية أكبر من أي وقت مضى، فهي بحاجة إلى تطوير أدواتها لمواكبة التحديات المعاصرة، وجعل خطابها أكثر تأثيرًا في القرارات الاقتصادية والبيئية. فلم يعد كافيًا الحديث عن القيم فقط، بل لا بد من الانخراط المباشر في صياغة السياسات التنموية، عبر التعاون مع الحكومات والقطاع الخاص، لدمج الفتاوى والتوجيهات الشرعية ضمن الأطر القانونية والتنموية.
إضافة إلى ذلك، يجب على المؤسسات الدينية دعم الابتكار في مجال التمويل الإسلامي، مثل تعزيز التمويل الأخضر الإسلامي، وتطوير آليات الحوكمة البيئية وفق مبادئ الشريعة، لضمان مستقبل متوازن يجمع بين القيم الدينية ومتطلبات العصر الحديث.
ويبقى السؤال، كيف يمكن تعزيز هذا الدور ليكون أكثر تأثيرًا؟ هذا هو التحدي الذي ينبغي أن يكون محور نقاش مستمر بين العلماء وصنّاع القرار، لضمان مستقبل قائم على أسس راسخة.
** **
- مستشار التنمية المستدامة