د.شريف بن محمد الأتربي
سعاد تتزوجيني؟ كان سؤالاً مباغتاً من ابن عمي لي، ولم أكن أعلم أبداً أنه يهتم بي، ورغم رؤيتي له في كثير من المناسبات العائلية إلا أن الأحاديث بيننا لم تكن كثيرة، ففارق العمر الذي يقترب من 10 سنوات لا يعطي أي مجال للتحاور أو التشاور لاختلاف المراحل العمرية.
وافقت على الزواج من أنس، فقد وجدت فيه الطيبة والحنية، كما أنه مثل والدي سهل القيادة، حيث أستطيع أن أشكله كما أريد.
سكنا في الطائف في بداية حياتنا، وبدأت أُسيِّر حياتي كما أريد، وضعت حواجز كبيرة بين زوجي وعائلته، وبيني وبين عائلتي أيضاً، فلا أحد يستطيع أن يتجاوز هذه الخطوط الحمراء، فشخصيتي القوية وقوة كلماتي تجعل أي أحد يفكر عشرات المرات قبل الاقتراب، أو التفكير في الاقتراب مني أو من زوجي وأسرتي الصغيرة، فقد أنجبت 3 صبيان وبنت على مدار أول أربع سنوات من الزواج.
بنيت بيتنا في الطائف من الألف إلى الياء، فلم يكن أنس يشاركني في ذلك، فهو مكتف بعمله كمعلم في إحدى المدارس القريبة من المنزل.
وضعت روتيناً يومياً للبيت، الكل يسمع كلامي وإن لم يعجبه، ورغم المقاومة الشديدة من الأبناء وبخاصة الولدان الأولان والبنت الأخيرة، إلا أني لم أتهاون معهم أبداً، فقد شاركتهم أدق أدق تفاصيل حياتهم، حتى لون غلاف تجليد كتبهم الدراسية كنت أنا التي تختاره، أما الولد الأوسط سعود، فقد كان مرتبطاً بي ارتباطاً قوياً، حتى إنه امتص شخصيتي وأصبح يمثّلني في كثير من الأحيان.
في لحظة فارقة شب حريق في منزلنا وأتى عليه كاملاً، ونتيجة لذلك تضرّرت رئتي ولم أقدر على التنفس بسهولة، ومع صدور قرار نقل أنس من الطائف إلى جدة كان لا بد من الرحيل والبداية من جديد، في مدينة جديدة وعالم آخر غريب عني وعن سعود ولدي الحبيب، أما الباقون، فأستطيع أن أجعلهم يوائمون الوضع بلا أي مجهود مني، فقط حين ترتفع نبرة صوتي يكون الأمر قد انقضى قبل بوحي به.
تلفت رئتي ولم أستطع العيش بلا جهاز التنفس، وقرر الأطباء سفري للخارج للزراعة، ولكني رفضت السفر وقررت أن أموت في وطني، وأوصيت أن أدفن في الطائف مسقط رأسي بجوار أمي وأختي.
لم أكن أهاب الموت، كنت خائفة على سعود من الضياع من بعدي، فقد تسبب الحريق في منزلنا في حصوله على درجة متدنية في اختبار الثانوية العامة، فلم يقبل في أي من الجامعات، وظل حزيناً لذلك، أرى نظرة الحزن تطل من عينيه طوال جلوسنا معاً، فقد تفرّق الباقون كل إلى حياته ولم يبق معي سوى سعود وأنس.
همست في أذن سعود: أريد العمرة، كيف يا أمي وهذه حالتك، استحلفته بالله أن يأخذني، وحين صارح أباه كان رده: ما لي دخل، خذها على مسؤوليتك.
جهزت أغراضنا وانطلقنا في رحلة العمرة ومعي سعود يؤنسني وخلال ساعة السفر كانت الذكريات تتداعى إلى ذاكرتي، بحلوها ومرها، حتى انتهت العمرة وعندها فاضت روحي إلى بارئها وبقيت أتابع سعود بها.
قبل وفاتي أوصيت سعود بوالده فقد كانت حياتنا معاً جافة وشديدة، فشخصيتي كانت الأقوى وهي نفس الشخصية التي اكتسبها سعود مني، وحتى أعوّضه طلبت من سعود أن يزوجه بأخرى، وبعد مراسم العزاء قرَّر سعود أن يصارح إخوانه بوصيتي، لم يجد سعود ممانعة منهم فقد كانوا يشفقون على والدهم مني، حتى في مرضي كانت اتصالاتهم وزياراتهم من باب سدد وقارب وليس باب الحب الأسري.
بدأ سعود حياته بمعاناة الشخصية المتقلبة المنزعجة الثائرة العنيفة، هذه هي ملامح شخصيته، زد على ذلك كونه سميناً جداً فقد وصل وزنه إلى أكثر من 150 كيلو، كان التهام الطعام بكثرة هو هوايته الوحيدة.
عمل سعود في شركة أحد الأقارب كموظف بسيط في الحسابات، وساعده ذلك القريب على استكمال تعليمه من خلال الالتحاق بأحد المعاهد للحصول على دبلوم محاسبة، ولعل هذه واحدة من نقاط ضعفه التي حاول أن يتداركها من خلال الحصول على شهادات أخرى تفوق هذا الدبلوم ونظرة الناس له.
نفذ سعود وصيتي، وزوج أباه لسيدة فاضلة، ورغم انزعاج إخوانه في البداية حرصاً على ورث أبيهم إلا أنهم رضخوا في النهاية وتعاملوا مع الموقف ومع ناهد بكل جفاء، وفي الوقت نفسه تزوج سعود من بنت عمه زواجاً لم يدم طويلاً فقد أراد أن تصبح ليلى خاتماً في أصبعه وهو ما رفضته كلياً، فقد كانت شخصيتها قوية مما أدى إلى تصادم الشخصيتين، فكان الطلاق حتمياً بعد مرور ستة أشهر فقط.
واصل سعود عمله وفي نفس الوقت كان يعاني من علاقته مع إخوانه، كانت ناهد زوجة أبيه هي ملاذه وملجأه كلما ضاقت به الدنيا، وفي نهار يوم العيد استدعته على عجل، وأخبرته أنها ستزوّجه من ابنة أختها، وسيكون رفيقها في رحلة دراستها في كندا.
استقر سعود في كندا لمدة 8 سنوات حاول فيها أن يبتعد عن صراعه مع إخوانه، ولكن يبقى ما في النفس في النفس، كان الحقد الدفين منهم تجاهه نتيجة علاقته مع أمهم قبل وفاتها، وكذلك علاقته بزوجة أبيهم، كان جل همهم ألا يحرمهم الأب من الميراث كما أوصت أمهم بأغلب ثروتها وذهبها له، كانت الخلافات تشتد وتتصاعد بينهم، بل وتصل في كثير من الأحيان إلى القطيعة، والأب عاجز عن السيطرة على الموقف فهو مع سعود يدعمه ويؤكد له أنه في صفه، ومعهم يفعل نفس الأمر وحين تجتمع كل الأطراف يصرخ فيهم جميعاً ويهرب إلى غرفته، وهكذا استمرت حياة سعود بعد وفاتي.
في كندا بدأت شخصية سعود تكون أكثر حدة، فهو مرافق لزوجته، وعند أول فرصة تعاقد مع القنصلية هناك ليدير شؤون الطلبة، وكانت هذه البداية، لا أحد يقف بجانبي، ولن أعطي الفرصة لأحد أن يتسلَّق على جدران تعبي وجدي، وكانت كلماته الحادة، والوقحة في بعض الأحيان وسيلته في السيطرة على أي خلاف خاصة عندما يكون على حق، فهو لا يكتفي بتحقيق النجاح، بل لا بد أن يطعن من أمامه طعنة تجعله يفكر مليون مرة قبل أن يعيد الكرة معه.
أنهت الزوجة دراستها وعاد سعود للرياض لُيعين بعقد أيضاً في وزارة التعليم ويستمر في متابعة شؤون المبتعثين في الخارج، ومن هناك انتقل إلى شركة وليدة ليصنع فيها أسطورة سعود، مدير المشاريع الذي لا يقارع، وإن حاولت فسيكون مصيرك الكلام الجارح، ورغم حدته إلا أنه يملك قلب طفل في جوفه، سريع الغضب سريع الإرضاء، ولا يزال سعود حتى الآن يعاني من وراثته لشخصيتي، وما زالت أطوف بروحي حوله لأحميه من نفسه أولاً، ومن الآخرين ثانياً.