سهم بن ضاوي الدعجاني
.. كان يبدو أمامنا، وهو جالس، تحيط به هالة من إقرار التاريخ له بالشجاعة، والفراسة والفروسية، والدهاء، التي تصنع أعاظم الرجال. وكنت على حال لا توصف من الهلع والارتباك. ويبدو أنه -رحمه الله- قد أدرك حداثة سني وارتباكي، بل جزعي من الموقف الذي أنا فيه، فكان حديثه لي حديث الوالد يسعى لاقتلاع الخوف من نفسي، وإقرار السكينة فيها فكان له ما أراد»
بهذه السطور التي تحمل أبعاد شخصية هذا الصبي العقيلي، معالي الشيخ جميل الحجيلان والذي لم تمض على التحاقه بوظيفته الأولى إلا عام و أربعة أشهر ، وجد نفسه أمام «أسد الجزيرة» جلالة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن رحمه الله عندما كلف بالترجمة بين الملك عبدالعزيز ووزير خارجية أسبانيا في قصر المربع في الرياض في 20 أبريل 1952م، والسؤال: ما هذه الثقة العظيمة ؟ ما هذا الطموح الكبير؟ ما هذا الإصرار على النجاح؟، كأنه يتمثل قول أبي الطيب المتنبي
أُرِيدُ مِنْ زَمَنِي ذَا أَنْ يُبَلِّغَنِي
مَا لَيسَ يَبلُغُهُ مِنْ نَفسِهِ الزَمَنُ
وتأمل معي وصفه لهذا الحدث الأكبر في حياته الوظيفية كلها: « لم تغني ذاكرتي بالإحاطة بتفاصيل المكان، فقد كنت مأخوذا بهيبة اللقاء. وكلما اقتربنا من مكان جلوس الملك، تسارعت نبضات قلبي، وجف ريقي، وتصلبت أطرافي فقد كان الموقف فوق قدرتي على مواجهة هذه اللحظات المحملة بمشاعر الهيبة والمهابة « من خلال هذا الوصف الأدبي الراقي يتبين لنا أن الحجيلان يملك ذاكرة أشبه ما تكون «بالكاميرا»، إن ذاكرته لا تحتفظ بالذكريات فقط، بل بتفاصيل جغرافيا الزمان والمكان.
وضحى الحجيلان والدرس الأول
«وضحى الحجيلان» امرأة نجدية، تعرف معاني القيم لدى المجتمع العشائري. وتعرف، أيضا، كيف يمكن، يكون هذا المجتمع العشائري قاسيا في نظرته للغرباء، إذا اهتزت كرامتهم بالفقر، أو العجز، أو ضياع رمز من رموز الاعتداد بالنفس لديهم، هذه المرأة النجدية مرت بظروف صعبة حيث إن زوجها عاد إليها في «دير الزور» بعد سبع سنوات، ونظرًا لوفاة أخيها رشيد الحجيلان وضعف تجارته حيث كان يتاجر في الخيول بعد أن أصبح نقل الخيول في القطار من دمشق إلى القاهرة عبر فلسطين أمرًا متعذرًا بقيام دولة إسرائيل عام 1449هـ وإغلاق حدود فلسطين مع سوريا شمالًا ومع مصر جنوبًا.
هذه السيدة النجدية المغتربة عاشت هذا الظرف الصعب عندما اضطر زوجها والد الشيخ جميل الحجيلان أن يعمل مقايضة بالإسطبل الذي تملكه الأسرة بدين كبير عليه وقد قام بهذه المقايضة دون أن يعلم بذلك أحد حتى زوجته، لكن هذه السيدة النجدية قد ادخرت من حياتها مع زوجها بضع مئات من الجنيهات الذهبية حملتها لشركاء زوجها في التجارة المالكين الجدد لإسطبل الأسرة بعد أن طلبت منهم أن يقبلوا بسداد دينهم ويعيدوا إليها ملكية الاسطبل، إنها بهذا القرار أعادت للأسرة مجدها ومكانتها الاجتماعية، وهذه القصة نقشت في ذاكرة ابنها جميل معاني التضحية و مساعدة الآخرين منذ نعومة أظفاره .
جميل الحجيلان يصف والدته «وضحى» من زاوية أخرى، هي في الحقيقة حجر زاوية في الاستقرار و الطمأنينة التي عاشها الصبي العقيلي في منزله ومهد طفولته و شبابه في « دير الزور» يقول عن أمه: « كانت والدتي، رحمها الله ، ابنة عم والدي ، محبة لزوجها ، معتزة بقرانها منه «
قرار الشيخ فوزان السابق
في مرحلة من مراحل مسيرته ، قال عنه الشيخ فوزان السابق مخاطبا أبيه : « لا يجوز أن نترك هذا الولد النجيب في دير الزور في بيئة علمية متخلفة والفرصة متاحة له كي يتعلم في أحسن المدارس في مصر « ثم جاء للطالب جميل بإذن لدخول مصر ، في وقت كان أمر كهذا بالغ الصعوبة في أعوام الأربعينيات أعوام الحرب العالمية الثانية، لذا كانت هذه المشورة من الشيخ فوزان لوالده والقرار الذي أدخله حيز التنفيذ، يمثل نقلة نوعية في مسيرة الطالب التعليمية وبنائه الفكري، وهذا ما جعله يصف ذلك القرار المصيري بقوله : «كان قراره حاسمًا في صنع مسيرة حياتي، ولو بقيت في مدينة دير الزور لاندثر الولد العقيلي المغترب في بيئة لا تعترف بالغرباء، كما اندثر غيره من أبناء العقيلات، في بيئة موغلة بفكرها القبلي.».
القاهرة في الأربعينات
التنقلات الكثيرة في حياته من بلد إلى بلد سواء في مرحلة النشأة الأولى أو مرحلة طلب العلم و البحث عن الوظيفة، جعلته يمتهن السفر و الترحال، ومن جماليات مذكراته وصفه للمدن و العواصم التي درس بها أو عمل في سفاراتها ، فلتقرأ معي وصفه للقاهرة التي رآها في الأربعينات بقوله: «مدينة كل ما فيها رائع يبعث على الانبهار. كانت في ذروة تألقها وازدهارها. ومن لم يعرف القاهرة في أعوام الأربعينات، لم يعرف عصرها الذهبي. كا ن الوجود الأوروبي، من خلال مؤسساته الاقتصادية والثقافية فيها، قد أضفى على سمتها الشرقية سمة غربية الملامح، زاهية الألوان».
كما يصف « طهران « بعد أن وصل إليها عام 1953م أي قبل 72 سنة: « كانت المفاجأة ما وجدت عليه مدينة طهران من الرحابة والتنسيق، شوارعها طويلة عريضة متناسقة تحيط بها الأشجار من كل جانب. بيوتها ذات طابع شرقي مريح، أنيق ، لا يتجاوز ارتفاعها الطابقين ، تربض شمال المدينة سلسلة من الجبال يكسوها الثلج ستة أشهر في العام . كان ذلك في الحي الذي أقمنا فيه»
علاقة جميل الحجيلان بالمايكروفون
لقد بدأت علاقة عجيبة بين الشيخ جميل الحجيلان و»المايكروفون «عندما كان طالبًا حينما كان كثيرون من زملائه يترددون في الاقتراب منه، بينما هو يصف هذه الآلة بقوله: «كأنه آلة فاضحة لقدرة المتحدث والخفي من شخصيته. كنت هادئا، أقرأ العبارة، ثم أرفع رأسي كي تجول عيناي تأملا في وجوه الحاضرين، كانت لحظات لا تنسى، كانت وقفة من وقفات الثقة بالنفس عاشها طالب جامعي في العشرين من عمره « ، هذا الطالب العشريني هو النسخة الخام من المدير العام لمديرية الإذاعة و الصحافة و النشر في عهد جلالة الملك سعود رحمه لله ، الذي أقدم لأول مرة على كتابة و إعداد « التعليق السياسي « وقرأه بنفسه في الإذاعة السعودية وتناقلته الصحف المحلية و العالمية .
الدبلوماسي المفكر
من خلال تتبعي لعمله الدبلوماسي في السفارة السعودية في طهران والباكستان وجدته يتواصل بشكل مباشر مع نبض الشارع سواءً الشارع الإيراني أو الشارع الباكستاني من خلال المتابعة الدقيقة للصحافة المحلية، فهنا يقول عن إحدى الصحف الباكستانية:
«كانت صحيفة «The Dawn» الفجر اليومية الصادرة في كراتشي، مدخلي لما في العالم من أحداث داخلية أو خارجية، كانت صحيفة رصينة، ثرية بأخبارها راقية بلغتها ذات عمق وشمول في تحليلاتها، فضلًا عن إخراج فني مريح للقراء»
من خلال هذه السطور وهذا الوصف الدقيق لهذه الصحيفة من قبل السفير السعودي في باكستان نتعرف على بعض جوانب شخصيته:
• حرصه الكبير على الاطلاع على الصحافة المحلية بحكم عمله الدبلوماسي.
• قدرته الفائقة على المتابعة والتحليل.
• رسم تصورات واقعية عن جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية في أي بلدٍ عمل به بدءًا من باكستان وإيران وفرنسا إلى آخره.
• وقدرته الفائقة على الأرشفة وحفظ ما يقع في يديه من قصاصات ووثائق يشهد بذلك الملاحق والصور النادرة التي تضمها مذكراته.
ليس تشجيعا.. بل نبوءة
«إن مكانكم ليس هنا يا أبو عماد، إنك تستحق أكثر من ذلك، ولن يطول الوقت إلا وأنت فيما تريد إن شاء الله»
عبارة قرأتها في ثنايا المذكرات وهي تفوح تعاطفًا وتشجيعًا من السفير السعودي الراحل محمد الحمد الشبيلي – رحمه الله - قالها ذات يوم لجميل الحجيلان عندما كان الرجل الثاني في السفارة السعودية في الباكستان، لا شك أن هذا الكلام عندما يقوله السفير لأحد موظفيه ليس تشجيعًا ولا مديحًا فقط لكنه يحمل بين طياته نبوءة لهذا الموظف المجتهد، بل أن السفير الشبيلي بالغ في هذه النبوءة والتشجيع وكتب للملك سعود بن عبدالعزيز رحمه الله عن هذا الموظف الواعد الكفؤ ، بل سانده في تعيينه مديرًا عامًا للمديرية العامة للإذاعة والصحافة والنشر، ليس هذا فحسب بل هناك عبارة أخرى: «سترى الخير إن شاء الله أمامك يا أبو عماد» هذه العبارة المشجعة التي تفتح أبواب الأمل أمام هذا الموظف المجتهد سمعها من سعادة السفير وهو على رصيف الميناء (كراتشي) عائد إلى مدينة السويس على ظهر باخرة إيطالية، ليس لترقية وظيفية ، إنما منقولًا عندما تجاهلت وزارة الخارجية ترقيته المستحقة.
من خلال هذا الموقف على كل موظف وموظفة في بداياته أن يرضى بأي مهمة توكل إليه في الجهاز الحكومي أو القطاع الخاص، ويبذل قصارى الجهد حتى يصل إلى التميز ويبقى على يقين داخلي أن الفرصة ستأتيه يومًا ما مثل ما أتت للحجيلان الذي عاد بعد سنوات غربة واغتراب بين طهران والباكستان في مهمة لا تتناسب مع دراسته في القاهرة ولا إجادته للغة الفرنسية، لكنه عندما وصل إلى جدة في عهد جلالة الملك سعود، أول من استقبله «الفرصة الوظيفية» التي يستحقها.
زوجته أم عماد
لا يخفي الشيخ جميل تقديره لزوجته أم عماد، فالقارئ لمذكراته يجدها بين السطور أنفاسًا وكلمات وتوجيهات سديدة، فها هو يقول عنها: «ومعي والدته أم عماد السند والعضد ومصدر الصفاء والهناء»، هذه السطور توحي لقارئ بأن معاليه كان يعيش استقرارًا أسريًا ونجاحًا منقطع النظير على مستوى العلاقة الزوجية، فمثل هذا العملاق الذي هو في الحقيقة رجل دولة يحتاج إلى زوجة بمواصفات مختلفة خاصةً وأنه كثير التنقلات والأسفار وتنوع بيئات العمل.
التعليق السياسي فاتحة ثقة الملوك
ارتبط الحجيلان خلال مسيرته الوظيفية بـ «التعليق السياسي» إبان توليه المديرية العامة للإذاعة والصحافة والنشر وغيرها من المحطات العملية ، فقد ارتبط اسمه بالتعليق السياسي إقناعًا واختيارًا وإعدادًا وقراءة، فالتعليق السياسي في حياته ، ليس من باب ملء الفراغ، حيث كان التعليق السياسي على الأحداث مفقود في إذاعة المملكة ولقناعته بأن التعليق السياسي في الإذاعة يضم موقفًا سياسيًا من الأحداث المحلية والإقليمية والعالمية، لذا كانت تعليقاته تفوح وعيًا سياسيًا متقدمًا يتوّجه العقل والاتزان، إن تعليقاته السياسية المقروءة والمكتوبة هي انعكاس لشخصيته المتزنة وتتناغم مع سياسة المملكة الداخلية والخارجية.
درس في التأني الوظيفي
من خلال قراءتي المتأنية لمسيرة الحجيلان الوظيفية وجدته يتصف بالصبر والمثابرة والتأني وتحمل الصعوبات في سبيل أن يصل إلى الهدف رغم أنه مكث كثيرًا في وظائف متدنية وغيره فاز بالبريق الوظيفي مبكرًا، لكنه صبر وثابر حتى وصل، إنه يصف وضعه الوظيفي خلال سبع سنوات التي قضاها في إيران وباكستان:
«أربعة أعوام قضيتها فيما يشبه الركود في غرفة صغيرة، أرضها عارية وجدرانها عارية وسقفها عار إلا من أنبوبة (نيون) بيضاء، تنير ظلامها. ليس فيها نافذة للشمس والهواء»
ثم يأتيه التحول في مسيرته الوظيفية يومًا ما فها هو يكتب عن مكتبه الجديد في جدة «كان مكتبي غرفة واسعة. أثاثها أنيق. ستائرها جميلة. مقاعدها وثيرة. التكييف مركزي، الإنارة تبعث ضوءًا يريح الفكر والبصر»
والحقيقة أنه خلال مسيرته الوظيفية التي بدأت من كراتشي ثم طهران كان ينتظر «حسناء» اسمها «الفرصة» لسبب بسيط ومهم جدًا فقد كان يقول عن نفسه: «كانت ثقتي، فيما كنت عليه من تأهيل، وأنا موظف لا يعرفه أحد، في سفارة لا يرغب فيه أحد، مصدرًا لتعاستي، وكانت ثقتي، أيضًا، فيما كنت عليه، من تأهيل، تملؤني يقينًا أن فرصة مواتية واحدة، كافية لأن تضعني على طريق الصعود»
الإلمام بالأنظمة واللوائح
«بادرت لدراسة نظام الموظفين العام، بجانبيه الإداري والمالي، ونظام مجلس الوزراء، وما يتبعهما من أنظمة أخرى، دراسة متواصلة متأنية كمن يعد نفسه لامتحان تختبر فيه كفاءته وأهليته لمنصبه الجديد»
هذا الأسلوب ينتهجه الحجيلان في كل موقع وظيفي يتولاه فهو يقرأ اللوائح والأنظمة التي تخص وظيفته الجديدة ولا يكتفي بهذا، بل يتواصل مع الموظفين في موقعه الجديد القدامى منهم أصحاب الخبرة ويجعلهم بأسلوبه الجميل مستشارين لديه بل « بيت خبرة « يرجع إليهم في كل صغيرة وكبيرة حتى يبني خيوطا من التواصل الوظيفي الإيجابي الذي يساعده على صناعة القرار قبل اتخاذه.
مساندته للصحفيين السعوديين
«سأساندكم في مواقف الصدق، وانتفاء سوء النية» هذه الكلمة على اختصارها تمثل منهجا له إبان توليه مهام مدير عام المديرية العامة للإذاعة والصحافة والنشر ، قالها في اجتماعه الأول مع رؤساء تحرير الصحف السعودية بعد تعيينه مديرا عاما للإذاعة و الصحافة والنشر ، عندما اشتكى الأستاذ أحمد السباعي ، رئيس تحرير صحيفة « قريش» و الأستاذ حمد الجاسر ، رئيس تحرير «اليمامة» ، رحمهما الله من تضييق المديرية العامة عليهم في تناول بعض المواضيع ، والحد ، بالتالي، من قدرة الصحافة على أداء مهمتها الوطنية ، وبرهن هذا الموقف النبيل من خلال معالجته لكثير من المواقف التي حصلت في عهده من رؤساء التحرير والكتاب مثل ما حصل للأستاذ أحمد عبدالغفور عطار في صحيفة عكاظ ، والكاتب الأستاذ محمد عمر توفيق في جريدة البلاد والذي أصبح في ما بعد وزيرا للمواصلات ، كان موقفه هو الحرص الكامل على المعالجة و الحماية لرؤساء التحرير والكتاب في حدود صلاحياته، ومن هنا كسب الحجيلان ود وتقدير وولاء الكتاب و رؤساء التحرير الذين وجدوا فيه « الأخ و الرئيس « الحامي لهم بعد الله ، مما جعل الأستاذ العطار يكتب له : « .. وأشعر – والله – بفدح الخسارة التي لحقت الإذاعة والصحافة ببعدك عنها، فقد كنت حاميها وراعيها والموجه لها إلى الخير»
أخيرا
يقول الشيخ جميل الحجيلان في « مفتاح «مذكراته: « لقد أتاحت لي المناصب التي عهد بها إليَّ، وقربي المتواصل من مصادر القيادة في بلادي ، وحرصي على أن لا ألوذ بالصمت عندما توجب أمانة التأريخ الالتزام بالصدق و قبول تبعات ذلك القول، في حدود الممكن ، أن أتناول في هذا الكتاب ، بجزئيه الاثنين مسيرة في ركان الوطن عمرها خمسون عاما»، و أنا أقول :لقد صمتم طويلا ، لكنكم كتبتم «أم المذكرات» التي ستبقى خالدة في ذاكرة الأجيال السعودية القادمة ، لتشهد للتأريخ بأن المملكة صانعة «رجال» قبل أن تكون صانعة «قرار».