د. محمد بن إبراهيم الملحم
من خلال ما يمكن اعتباره شبه دراسة حالة، فقد استقصيتُ أسباب ترك المعلمين السعوديين مهنة التدريس وبخاصة المتميزون منهم، وخرجت ببعض الأسباب المقبولة منطقياً التي كان أهمها ضغط الأنظمة من خلال تغيرها باستمرار، وتحول ثقافة العمل من الوضع الجاد إلى وضع مسترسل يعيشه أغلب المعلمين؛ مما يجعل المعلم الجاد بينهم (أو المدير الجاد) شاذاً فيعاني لتحقيق أهدافه، وأخيراً ضغوط العمل وعدم تقدير المعلم صاحب الخبرة.
أتحدث اليوم عن بعض الدراسات العالمية حول أسباب ترك المعلمين مهنة التدريس، ونقارنها لاحقاً بما تقدم وما تعرضت له أيضاً بعض المحاولات لدراسات إقليمية أو محلية.
المنظمة الأوروبية للتعاون الاقتصادي والتنمية OECD قامت بإجراء استبيان شارك فيه معلمو المرحلة الابتدائية في أكثر من 30 دولة، حيث أشارت النتائج إلى أن أقل من 20 % فقط من المعلمين في عدد من الدول الأوربية كفرنسا، وإيطاليا، وإسبانيا، وبلغاريا، وبولندا، والسويد يعتقدون أن مهنة التعليم مقدَّرة في المجتمع، وهو ما يعني أن 80 % منهم لا يرى أنها مهنة مقدَّرة مجتمعياً! كما أن الدراسة وجدت نتيجة مختلفة في البلدان المتقدمة تعليمياً، مثل سنغافورة، وفنلندا، وكوريا الجنوبية، وهولندا، وأستراليا، وبريطانيا، وماليزيا، حيث أن أكثر من 40 % من المعلمين فيها يرون أن مهنة التعليم مقدَّرة في المجتمع، وهو ما يشير إلى علاقة طردية بين ارتقاء أداء النظام التعليمي ونظرة المجتمع الإيجابية لمهنة التعليم، فالتقدم التعليمي سيحث المجتمع على تقدير مهنة التعليم، وربما العكس أيضاً أي إذا تحسَّنت النظرة المجتمعية لمهنة التعليم (وكذلك نظرة المعلم لمهنته)، فإن ذلك سيكون من العوامل الأساسية للتقدم التعليمي.
وقد أوضحت دراسة أجرتها لجنة المعايير المهنية في ولاية جورجيا الأمريكية عام 2015 أن 44 % من معلمي المدارس الحكومية في الولاية تركوا مهنة التدريس خلال السنوات الخمس الأولى من العمل، وتوصلت إلى أن أهم الأسباب هي: ضغوط العمل، وعدم تعاون الهيئة الإدارية مع المعلمين، وأكدت دراسة عام 2015 أجراها مجلس الولاية للتعليم State Board of Education أن 15 % تقريباً ممن تم توظيفهم ذلك العام تسربوا من الوظيفة. وفي عام 2010 أصدرت وزارة التعليم الأمريكية The Department for Education (DFE) تقريراً أوضح أن المعلمين يتركون التعليم إذا تحسنت الظروف الاقتصادية للبلاد، ويتمسكون بالمهنة عندما تكون هناك صعوبات اقتصادية، ويدل ذلك على أن التمسك بالمهنة هو للحاجة إلى الراتب وليس حباً في المهنة ذاتها وهو أمر سلبي في الواقع.
في عام 2003 توصلت دراسة طويلة لآراء 50 معلماً جديداً في ماساتشوستس بأمريكا، أن استمراريتهم في مهنة التدريس يعود في المقام الأول إلى شعورهم بالنجاح مع طلابهم وتقديم الدعم المناسب والموارد الكافية من الإدارة التعليمية، وهو ما يوضح ضرورة التدريب على رأس العمل خاصة في بداية المهنة.
وفي دراسة أخرى عام 2003 أجراها باحثان هما باميلا وآلان Pamela الجزيرة ,Alan توصلت إلى أن أهم أسباب ترك المعلمين مهنة التدريس هي: عبء العمل التدريسي، وانخفاض الرواتب، وظروف المدرسة التي كان أهمها سلوك الطلاب السلبي، وهو الأمر الذي يتطلب توافر بيئة إدارية وأنظمة حازمة لتأمين بيئة عمل آمنة ومريحة للمعلم، وهو أمر يبدو أنه مشترك عالمياً اليوم بسبب الانفتاح وتغير العادات الاجتماعية والأسرية.
وقد أكدت دراسة أخرى أن أحد الأسباب التي تجعل المعلمين المؤهلين الجدد يغادرون المهنة في السنوات الأولى هو أن واقع التدريس لا يتطابق مع توقعاتهم، وفيما يتعلق بانخفاض الرواتب والأجور فقد أظهرت دراسة أجراها كولتفليتر وزملاؤه Coltfleter, et. al. عام 2008 وامتدت ثلاث سنوات أن المعلمين الذين يعملون في مناطق ذات فقر شديد أو مدارس متدنية الأداء وكذلك معلمي العلوم والرياضيات عموماً عندما تم منحهم مكافأة سنوية إضافية فقد كان لها أثر كبير في انخفاض معدل تسرب المعلمين من المهنة بنسبة 12 %، كما أكدت ذلك أيضاً نتائج دراسة ممبينقوا Mmbengwa عام 2008 حيث توصلت إلى أن الإدارة التعليمية كان لها دور في الاحتفاظ بالمعلمين في المهنة من خلال إدخال نظام مكافأة الأداء، والتعامل الفعال مع زيادة أعداد الطلاب بالفصول وتوفير الموارد التعليمية بشكل أفضل مع الحد من العنف الطلاب، والتعامل بفعالية مع الفساد، وتوفير إجراءات فعالة لتحسين الانضباط الطلابي.
ما سبق من نتائج دولية هو عينة من كثير من الدراسات تخلص كلها إلى نتائج مشابهة، ولسنا بصدد تحليل متعمق لدلالات هذه النتائج، ولكن نخلص منها إلى استنتاج واحد فقط هو أن مهنة التدريس يمكن أن تكون مهنة «احتراق» Burnout Career يمضي فيها الفرد وقته تحت الضغوط، وذلك إذا لم تكن مهنة مقدَّرة مجتمعياً، ولم تكن تقدم مكافآت مجزية للجهد المبذول، ولم تكن الإدارة التعليمية تقدِّر المعلم وتساعده في مهمته (بل أحياناً على العكس: تعيق تقدمه)، كما أنها يمكن أن تكون مهنة مريحة بل جاذبة (كما هو حال معلمي الدول المتقدمة تعليمياً)، وذلك إذا عكست ما ذكرته آنفاً من عوامل سلبية، الأمر الذي سيجعل منها مهنة محببة وتشبع الشغف الإنساني للعطاء، فالإنسان بطبعه يحب أن يفخر بما قدمه للآخرين، فإذا توافرت له الظروف الإيجابية لذلك في مهنة ما فستكون تلك المهنة جاذبة ومحببة وسيكون عطاؤه فيها نوعياً متميزاً.
** **
- مدير عام تعليم سابقاً