م.عبدالمحسن بن عبدالله الماضي
1 - في مطلع القرن العشرين بزغت فكرة مُنحت اسم (ما بعد الحداثة)، وأصبح لها منظروها ومفكروها.. وتم بناء الأسس الفلسفية لمعانيها ومفاهيمها وماهيتها، وإن كان بعض الفلاسفة المعاصرين مثل الألماني «هابرماس» قد أنكر أن هناك شيئاً اسمه (ما بعد الحداثة)، فالحداثة في رأيه فعل لا يكتمل.. هنا تصدى للأمر مفكرون آخرون حوروا الاسم وأتوا بمصطلح (عهد ما بعد الحداثة) وكان ذلك في ثمانينات القرن العشرين، وكأنهم بذلك يوعزون إلى النتائج التي وَلَّدتها الحداثة في مجالات الفنون، والآداب، والعمارة والفكر، والاقتصاد، والاجتماع، بل والدين ذاته.
2 - (عهد ما بعد الحداثة) ذاته تم تسميته بعدة تسميات منها: عهد ما بعد عصر التكنولوجيا والإلكترونيات، كذلك عصر ما بعد الصناعي، وثالث باسم مجتمع ما بعد الاقتصادي، وأخرى.. هذا التعدد والتنوع في المجالات التي رُبِط بها عهد ما بعد الحداثة يجعل من الصعب تحديد المسمى الدقيق لها.. لكن يظل السؤال الأهم: هل المصطلح يُقْصد به أنه ضد مصطلح الحداثة أم متمم له؟ وهل هو إعلان لانتهاء مرحلة الحداثة أم هو تطور لها؟
3 - المنظرون لفكر (ما بعد الحداثة) يفسرون نظريتهم على أساس أنه إذا كانت الحداثة تقوم على «العقلانية» و»الفردانية» و»الحرية» فإن ما بعد الحداثة تقوم على «العابرية»، و»التعددية»، و»التشذرية».. ويقصدون «بالعابرية» أن زمن صلاحية الأشياء والفنون والأفكار أصبحت قصيرة جداً.. فالمستهلكات أصبحت للاستخدام مرة واحدة ثم إلى سلة المهملات، والأصل صار يُسْتَنسخ منه المئات، بل الملايين، أي أن كل شيء أصبح قابلاً للاستبدال.. أما «التعددية» فتعني الترحيب بالأكثر بدلاً من الاختزال أو التوحيد، والتقابل بدلاً من التماثل، والانفصال بدلاً من الاتصال، والمتحول بدلاً من الثابت، والمتناثر بدلاً من المتقارب.. أخيراً سمة «الشذرية» وهي حالة عكسية لمبادئ التوحيد والتنميط والمساواة التي اتسمت بها الحداثة، فأصبحت مبادئ التشظي والتفتيت والتفكيك والتشذر هي السائدة، فلم يعد هناك نسق كما في زمن الحداثة.
4 - إذا كان مفكرو (ما بعد الحداثة) في الغرب قد فسروها على أساس (العابرية، والتعددية، والتشذرية) فإن المفكر المغربي «د. طه عبدالرحمن» قد سار على ذات المنحى عن الحداثة ذاتها، وإن بدأ الأمر وكأنه يصف حالة (ما بعد الحداثة).. فهو يرى أن للحداثة ثلاث آليات وهي: (التنسيب) أي أن لكل أمة حداثة تنسب إليها.. فلكل أمة خصوصيتها وبذلك لها حداثتها الخاصة بها والتي تناسب ثقافتها.. كذلك يرى «د. طه» أن الحداثة في حقيقتها عدة حداثات.. فهي متنوعة في فروعها ومستوياتها وتطبيقاتها، وأن كل أمة قد تجرب حداثة ثم تعدلها إلى حداثة أكثر مناسبة لها.. فالحداثة ما هي سوى ظاهرة تاريخية عارضة، أما الإنسان فهو كائن باقٍ وهذه وصفها «د. طه» (بالتعددية).. أما الثالثة فهي (التمكين) ويُقْصد بها أن الحداثة ليست قَدَراً، بل هي إمكان.. كما عد روح الحداثة في الإبداع.