أ.د. محمد خير محمود البقاعي
كانت المدة التي قضيتها في جامعة الجنان -طرابلس وترددي على فرع الجامعة اللبنانية هناك فرصة، كما ذكرت، للقاء كوكبة من الأساتذة الأجلاء من ذوي الشهامة والعلم والكرم، ذكرت منهم في شذرة القمر. وتتداعى الذكريات كلما ذكرت المدينة التي هي شقيقة حمص فصلهما الاستعمار الفرنسي إلى مدينتين، فقسم الأسر والأرض وبقي الحب والقرب الذي تجلى في تقارب اللهجات والعادات والتقاليد. وفي هذا السياق كان اللقاء بأساتذة فضلاء ذكرت منهم الأستاذ الدكتور بسام بركة أستاذ اللسانيات الفرنسية والترجمة الذي تولى رئاسة جامعة الجنان في الأعوام 2016-2019. وهو اليوم الأمين العام لاتحاد المترجمين العرب.
ومن الأساتذة النبلاء الكرماء الذين توطدت العلاقات بيننا هو الأستاذ الدكتور عبد الحميد محمد جيدة صاحب كتاب «الاتجاهات الجديدة في الشعر العربي» دار مطيع محمدى، 1979 م. رحمه الله الذي كان ناقداً حصيفاً، وأستاذاً بارعاً ذا بصيرة نافذة، وفكر ثاقب. كان يملك منزلاً جميلاً في قرية «بيت جيدا-الضنيّة» استضافني فيه وفي منطقة سير-الضنية مع جماعة من الأصدقاء من حمص فقضينا يومين في منطقة سير- الضنية زرنا خلالها المنطقة الجبلية الجميلة التي كنت تسمع خرير الماء على وجه الأرض وفي باطنها في كل مكان فيها، ناهيك عن الأشجار المثمرة والخضار وكل ما يبهج النفس من بديع لوحات الطبيعة؛ ومن ذلك مطعم مشهور في منطقة سير يسمى مطعم النبع المسحور الذي تتدفق مياهه بغزارة وصفاء ثم تغيض فجأة.
وذكرني هذا النبع بنبع مماثل يسمى «نبع الفوار» وهو من الأماكن السياحية المهمة في وادي النصارى الذي يقع في غرب محافظة حمص، ويسميه أهل حمص تلطفاً وابتعاداً عن الجدل «وادي النضارة» ويقع النبع في بلدة الزويتينة بالقرب من دير مارجرجس الأثري. وقد قام بجانبه عدة مقاه ومطاعم، كما زرنا في طرابلس منطقة الضنية الجبلية التي استضافنا فيها أحد طلبة الدكتور جيدة من أبناء المنطقة ورافقنا إلى نبع السكر، وهو أعلى الينابيع اللبنانية، ينبع من أسفل جبال الأربعين ليتجه نزولاً قاطعاً قرى الضنية وصولاً إلى بحيرة عيون السمك والنهر البارد. كنت في هذه الرحلة مع صديقي أستاذ اللغة والأدب الإنجليزي والمترجم المتقن الدكتور فؤاد عبد المطلب والصديق الدكتور الباحث التاريخي منذر الحايك المكثر تأليفاً ونشاطاً علمياً، وكان مديراً لفرع مكتبة دار طلاس في حمص. وكنا جميعاً برفقة رئيس جامعة حمص معالي الأستاذ الدكتور عبدالمجيد الشيخ حسين (ت 2021م) رحمه الله. وقد كانت رحلة لا تنسى بما زرناه من مناطق تطيب لها النفس، ويسر لها الخاطر.
استمرّ عملي في جامعة الجنان حتى مغادرتي في عام 1996م إلى المملكة العربية السعودية التي كان الله يشاء أن تكون بداية مرحلة الحياة المثمرة على كل المستويات. كنت إبان هذه المرحلة بعد انتهاء العمل في كتاب الذئب قد انصرفت بعض الانصراف عن الترجمة والتأليف على كثرة المشاريع التي كانت تشغلني، فشرعت في ترجمة كتاب «الرواية في القرن العشرين» للناقد ومؤرخ الأدب والنقد الفرنسي جان إيف تادييه
Jean Yves Tadié الذي صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة دراسات أدبية عام 1998م. وأعدت النظر في ترجمة كتاب «لذة النص» ونشره المجلس القومي للترجمة في مصر عام 1997م. وكلاهما صدر بعد قدومي إلى المملكة العربية السعودية. وكنت قد ترجمت كتاب «القرآن والعلم المعاصر» تأليف: الطبيب الفرنسي المسلم موريس بوكاي Maurice Bucaille (1920-م1998) بالاشتراك مع الصديق الدكتور محمد إسماعيل بصل، وصدر عن دار ملهم في حمص 1995م.
وقد سبقت الإشارة إلى ترجمتي هذه الكتب في حديثي عن الرحلة المصرية، ولكنها هنا تأتي في سياقها التاريخي المنتظم.
كانت المدة بين عودتي من فرنسا في الشهر الثاني من عام 1992م وحتى مغادرتي إلى المملكة العربية السعودية عام 1996م مدة من الاضطراب والتنقل بين البلاد ومحاولة كسب العيش بمستوى يحفظ الكرامة والحياة اللائقة. تنقلت في هذه المدة بين جامعات سورية ولبنانية وأردنية فضلاً عمّا أشرت إليه في «رحلة الذئب في آداب الشعوب». توليت التدريس في عدد من الجامعات السورية، وحضور الندوات والمؤتمرات والمحاضرات ومتابعة ما يصدر من مطبوعات تصل إلى مكتبات حمص ودمشق.
لقد كانت المؤتمرات التي انعقدت في جامعات عربية فرصة لمتابعة منجزات عدد كبير من الأسماء العربية في مجال النقد الأدبي والأدب والترجمة وما يتفرع عن ذلك من اتجاهات علمية تتسع بالمدى وتشحذ الهمة للإنجاز الراقي؛ وجاءت في هذا السياق مؤتمرات النقد الأدبي في جامعة اليرموك الأردنية في مدينة إربد التي انطلقت في عام 1987م وشهدت دورتها الـ 19 في عام 2024م. ويعد هذا المؤتمر الذي يقبل عليه أساتذة النقد في العالم العربي بوصلة لقياس مسارات النقد الأدبي العربي وعلاقته بعلوم العربية الأخر ى قديمها وحديثها ويقصده كبار النقاد في الجامعات العربية والعالمية.
كانت مشاركتي في المؤتمر السادس عام 1996م، وفي المؤتمر السابع 1998م بعنوان: «إستراتيجيات التلقي في النقد الأدبي الحديث»، وكانت هذه المؤتمرات فرصة للقاء نخبة من نقاد العالم العربي. وحدث مثل ذلك بعد قدومي إلى المملكة في تلقي الدعوات لحضور سوق عكاظ الذي تحتضنه مدينة الطائف الجميلة والقريبة إلى قلبي بأهلها وطبيعتها. دعاني القائمون على مهرجان سوق عكاظ إلى دورتين من دوراته: العاشرة 1437هـ / 2016 م تزامناً مع إطلاق المملكة رؤية «2030». وكانت عن «المخطوطات المهاجرة» بصحبة د. محمد هادي مباركي، ود. علي محمد عمران، ود. محمد عزير شمس الحق، وأدارها د. فهد الجهني. وشاركت أيضاً في الدورة الـ 11 وكانت عن الشاعر الجاهلي الفارس دريد بن الصمة الجشمي من هوازن؛ وكنت قد أشرت في هذه الشذرات إلى أنني جمعت ديوانه. وانعقدت هذه الدورة في عام 2017 م/1438هـ، وكانت بصحبة كل من الدكتور صغير بن غريب العنزي، والدكتور محمد الشريف، وأدارها الدكتور مازن الحارثي؛ وإبان انعقاد هذه الدورة سعدت بالتعرّف على أول من جمع شعر دريد بن الصمة؛ وهو الأستاذ مناحي ضاوي القثامي ط1: 1398هـ - 1978 م. الذي أخبرني أن نسبة الجشمي تحولت في النسبة الحديثة إلى القثامي، فدريد من قومه.
لقد كان حضور سوق عكاظ في الطائف ومنتدى النص في نادي جدة الأدبي وندوة الحج الكبرى في مكة المكرمة مكونات ثقافية عبرت من خلالها إلى المجتمع الثقافي السعودي وعبر المشاركين فيها إلى الآفاق القصية للثقافة بأبعادها السعودية والعربية والعالمية. أما ملتقى حاتم الطائي الدولي الذي ينظمه النادي الأدبي في حائل فقد حملني على جناح المعرفة الثقافية التاريخية والأدبية والمودة الإنسانية التي ضربت جذورها في ركن أساسي من أركان المملكة يحمل عبق الماضي ومتعة الحاضر وآمال المستقبل بقيادته وشعبه. وقد سبقت الإشارة إليه.
وأود هنا الإشادة بما بذله الدكتور نايف المهيلب: رئيس النادي الأدبي في منطقة حائل، والدكتور نايف يتمتع بشخصية علمية إدارية واجتماعية أهلته لاستقطاب أعلام سعوديين وعرب وعالميين إلى هذا الملتقى، وقد بدأت مشاركتي فيه في دورته الثانية التي انطلقت بتاريخ 23/5/2014م، وكانت بعنوان: «حائل في عيون الرحالة»، شاركت في الملتقى ببحث عن ملامح «جبل شمر وحائل في كتاب «الجزيرة العربية المعاصرة» ملحق به وصف شعيرة الحج لأدولف دافريل (1822-1904م) القنصل الفرنسي العام في رومانيا، طبع باريس 1868م». وكانت أهمية البحث تكمن في اعتماده على مجموعة كبيرة من كتب المستشرقين والرحالين عن الجزيرة العربية والدين الإسلامي. وعرضت لما ذكره المؤلف عن جبل شمر وحائل من حياة اجتماعية وثقافية وسياسية لحائل والجزيرة العربية. وقد ترجم هذا الكتاب الشيخ أحمد المنى من قسم اللغة العربية، كلية اللغة العربية والدراسات الاجتماعية، جامعة القصيم وحققه وعلق عليه الأستاذ الدكتور الصديق إبراهيم محمد البطشان الأستاذ في جامعة القصيم أيضا، وهو من أكابر التراثيين المهتمين بالرحلات، وصدرت الترجمة
عن دار نشر E-Kutub Ltd, 2022
أما الملتقى الثالث 2016م الذي كان موضوعه: «الملك المؤسس.. في الأدب العربي». فقد شاركت فيه ببحث ضاف عن «شخصية الملك عبد العزيز الثقافية في موسوعة الملك عبد العزيز سيرته وفترة حكمه في الوثائق الأجنبية» فتحدثت عن بناء المملكة العربية السعودية وتوحيدها وهو بناء تجلَّى فيه دور الفرد في صناعة التاريخ، بل امتزج الفرد والتاريخ حتى لم يعد التمييز بينهما ممكنا، وهذه حالة فريدة تحتاج إلى تنظير متعقل ورؤية متبصرة لكي تجتمع خيوط النسيج المتلاحمة التي صار تماسكها مثلا تحدو به الركبان، وأشرت إلى أن موسوعة الملك عبد العزيز، سيرته وفترة حكمه في الوثائق الأجنبية وسيلة نستطيع من خلالها تفكيك الظاهرة التوحيدية لتكون منارة في صناعة المستقبل وقلت: أزعم أن قارئ هذه الموسوعة سيجد فيها ما يجعل الإجابة عن هذا السؤال تأخذ حيزا في الفكر العربي المعاصر، مبينا أن الباحث المنصف يستطيع من خلال هذه الموسوعة جلاء البعد الثقافي من خلال عمل استمر عاماً ونصف العام في الوثائق الفرنسية التي احتواها المشروع، ومن خلال المراجعة الخاصة في الوثائق البريطانية والأمريكية. وخلصت من كل ذلك إلى القول: إن شخصية الملك عبد العزيز هي شخصية تكاملية شمولية تلتقي فيها المتفرقات وتتصالح المتضادات.
ولا يزال صدى الأوبريت؛ يوم الوطن، الملك المؤسس عن ملحمة التوحيد من كلمات الصديق الدكتور الشاعر نايف الرشدان يتردد في أذني بألحانه المبدعة وكلماته العذبة المعبرة والأداء المتقن للفرقة التي قدمت الأوبريت.
أما الملتقى الدولي في دورته الرابعة التي كانت عام 2020م/1441هـ فقد جاءت بعنوان: «الترجمة ودورها في البناء الثقافي». وشارك فيه 30 متحدثًا من جنسيات مختلفة من دول العالم اختارتهم اللجنة العلمية التي شاركت فيها مع الدكتور عقيل حامد الزماي الشمري الصديق والباحث الرصين والمترجم الثبت، وكانت برئاسة الأستاذ الدكتور سعد البازعي بمشاركة الدكتور نايف المهيلب. وكان من الأبحاث الرصينة المفيدة ما كتبه الصديق الدكتور المؤرِّخ والدبلوماسي لويس بلان عن قصيدة الشاعر والأديب الفرنسي الكبير فكتور هوغو المعنونة: «السنة التاسعة للهجرة» التي تحدث فيها عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وغير ذلك من الأبحاث القيمة.
لقد كان لكل ذلك أثره في تنوع اهتماماتي والسعي إلى التحصيل والتعلم والتعليم، وتقديم الممتع والمفيد. ولنا لقاء.