د. محمد بن إبراهيم الملحم
فيما سبق تحدثت عن المحاولة التي قمت بها للتعرف على الأسباب التي من أجلها يترك بعض المعلمين المتميزين التعليم بالتقاعد المبكر، حيث طرحت هذا السؤال عليهم في أحد المجالس واستعرضت هناك بعض إجاباتهم، ولعلي اليوم أواصل مع تعليق سأختم به ما قدمته، فقد علق أحد الجالسين وهو وكيل مدرسة بأن كل مدرسة لها وضعها الذي قد تفرضه على بعض من فيها، إما ليتقاعد ذلك المعلم مبكرا أو ربما بالعكس فيفضل الاستمرار، وقد أيد هذا الرأي بعض الجالسين حيث كان هناك فعلا من يرى أن ظروف مدرسته الجيدة شجعته على البقاء مدة أطول من الآخرين في حين أن أحد المعلقين السابقين كان قد ذكر أن سبب تقاعده المبكر هو عدم ملاءمة مجموعة المعلمين الذين معه بتلك المدرسة.
وأعتقد شخصياً أن هذا قد لا يكون سبباً وجيهاً باعتبار أن المعلم يمكنه أن ينتقل من مدرسته التي هو فيها ولا يجدها بيئة مشجعة على العطاء سواء من حيث معلميها أو من حيث إدارتها ويذهب إلى مدرسة أخرى توافرت فيها هذه العناصر والشروط، وإن كان التنقل صعباً نوعاً ما في هذه الأيام مقارنة بما كان عليه في وقت سابق عندما كنت في الميدان التعليمي التدريسي، ولكنه يظل حلاً مناسباً مقارنة باللجوء إلى ترك العمل كلياً بالتقاعد، ولا بد أن نقدر أن هناك أشخاصاً غير مستعدين للتضحية بالنقل من المدرسة القريبة من مقر سكنهم إلى مدرسة بعيدة فقط من أجل الحصول على بيئة عمل مشجعة للعطاء التربوي، حيث تنصرف فلسفة هؤلاء إلى أن التضحية يجب أن تكون على عاتق المؤسسة التعليمية بإصلاح وضع المدرسة التي هم فيها لتصبح مناسبة، وإلا فإنهم يرون أنها إن لم تكن على هذا المستوى من الاهتمام فلا تستحق أن يضحوا من أجلها هم فيتركون للمؤسسة التربوية الجمل بما حمل، على أني أشير إلى هؤلاء أن مثل هذا العذر هو مجرد تبرير لتركهم مهمة العطاء التدريسي الجميلة مبكراً، وذلك لأن مسألة الانتقال من مدرسة بيئتها غير مشجعة إلى أخرى لا يكون في مرحلة ما قبل نهاية خدمة المعلم، وإنما في مرحلة مبكرة منذ أن وطئت قدماه تلك المدرسة ذات البيئة المسممة ضد العطاء التربوي الجيد، فلا يليق به أن يصبر عليها كل هذه السنوات حتى يصل سن التقاعد المبكر ثم يبرر تركه العطاء التعليمي بعدم ملاءمة هذه المدرسة! نعم هناك حالات يحصل فيها أن يُنقل المعلم حسب حاجة الادارة التعليمية إلى مدرسة أخرى، وتكون ذات بيئة غير مشجعة مما يدفع إلى الهروب منها بالتقاعد، ولكنها هذه حالات قليلة جداً بتصوري.
ختاماً فإن تعليقي على مثل هذه الأسباب لن يخرج عما يتوقعه كل واحد منكم، فلا شك أن توفر الأسباب التي توطد بقاء الخبرات هو أمر متأكد الوجوب على المؤسسة التعليمية، فعليها أن تكافح لتحقيق هذا الاستقرار ذلك أن الخبرات الجيدة هي رأس مالها البشري الذي لا تفرط فيه أبداً، فليس قوام العملية التعليمية المناهج ولا الأدوات والوسائل ولا المباني المدرسية فإنما هم الأفراد وتحديدا المعلم الذي هو أساس البناء الذي يقوم به كل ما تطمح إليه الغايات والأهداف التعليمية بكل مستوياتها وتفرعاتها. وهنا يقفز إلى البال سؤال واحد عند الحديث عن مثل هذه الشجون والشؤون وهو إلى أي مدى توجد دراسات تقيس مثل هذه المشاعر والتوجهات لدى المعلمين الذين غادروا العملية التعليمية مبكراً، على أن تستهدف تلك الدراسات وسائل ومبادرات للعمل على تلافي أية سلبيات تكشفها، ومن الأجدر بالمؤسسات التعليمية الكبرى أن تكون هي من ترعى مثل هذه الدراسات وتحفل بنتائجها.