رمضان جريدي العنزي
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبداً لأول منزل
الحنين إلى الماضي له نكهة خاصة ومميزة، وله عبق مغاير، تغنوا فيها الشعراء والكتاب، ودونوا له القصائد والروايات والأناشيد، وله في النفس مشاعر مختلطة، فالأماكن القديمة، والأيام الخوالي، والرفاق القدماء، والعلاقات الاجتماعية، والعواطف الجياشة، والشوق والضنى والأطلال والآثار والمنازل والفصول المتعاقبة، والتفاصيل الصغيرة، تستقر في العمق، وتحتويه الذاكرة، ويمد بالاسترخاء والسعادة، كأنه شريط مصور لا يمل من إعادته والتفرج عليه، قال الشاعر أمرؤ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
وقال الشاعر طرفة بن العبد:
لخولة أطلال ببرقة ثهمد
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
وقال الشاعر قيس بن الملوح:
أمر على الديار ديار ليلى
أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وقال الشاعر نزار قباني:
ورأيت منزلنا القديم وحجرة
كانت بها أمي تمد وسادي
والياسمينة رصعت بنجومها
والبركة الذهبية الإنشاد
وعلى هذا المنوال سار الشعراء وغيرهم، يتهجأون الماضي، ويقرأون تفاصيله، ويلمون شتاته، وتتداعى عندهم الكلمات والجمل، ويحاولون العودة للماضي لكي ينعموا بالدفء، تكبر عندهم المشاعر، ويحيا عندهم الوجدان، يقول الشاعر الشعبي:
أحن لـ الماضي على طول الأيام
مبطي من أوقات الفرخ والسعادة
ليت الليال الماضية مثل الأفلام
فترة وترجع مثل عرض الاعادة
وقال الشاعر بصري الوضيحي:
علمي بهم يا خليف يوم المطر طاح
واليوم عشب الوسم كل رعى به
ما أدري مع اللي سندوا يم الأسياح
والا مع اللي حدروا يم طابه
إن مراتع الصبا تبقى المتنفس والحنين وجذوة الحاضر ومحرك العواطف، إنه القيمة والنبض، ومحطاته شيقة ومريحة، حين يغفو العقل بعيداً عن الواقع تجيء الذكريات تترى، مثل فرشاة سحرية ترسم أجمل اللوحات بألوان زاهية، كثيراً ما يضج العقل بالماضي، ويحاول التشبث به مثل شجرة أمام إعصار هائج، الماضي غائب ولن يعود أبداً، لكن محاول استرجاعه والتشبث به يزرع بالروح الأمل والجمال والحياة، فالذكريات تبقى ولن تمحى، بأزمنتها وملامحها يتناقلها المرء كأنها نصوص شعرية، أو سرد رواية، إن الذكريات مهما كانت لا تموت، بل تبقى مثل النبض يسقي الأوردة والشرايين ويمدها بالدم.