د.حادي العنزي
في ظل التحولات الرقمية السريعة التي يشهدها العالم، ومع نهاية عام واستقبال عام جديد، أعلنت جامعة أكسفورد اختيار كلمة «تعفن الدماغ» أو «Brain Rot» ككلمة للعام 2024؛ مما يؤكد معاناة الأفراد وإدراك المجتمعات للتأثيرات السلبية والمتزايدة للمحتوى الذي تقدمه وسائل التواصل الاجتماعي، والتي أصبحت تهيمن على الحياة اليومية للناس.
لم يكن إعلان جامعة أكسفورد الوحيد الذي يُثبت التأثيرات السلبية لوسائل التواصل الاجتماعي على صحة العقل، وإنما وجدت دراسات عديدة أكدت أن الاستهلاك المفرط للمحتوى غير العميق والتافه يؤدي إلى تدهور الصحة العقلية والنفسية أيضاً، خاصة عند فئة الشباب الذين يتعرضون بشكلٍ أكبر لهذا النوع من المحتوى.
فقد أظهرت دراسة من جامعة كاليفورنيا أن التعرض المستمر للمحتوى السطحي يؤدي إلى تآكل التفكير النقدي ويضعف قدرة الفرد على التحليل، مما يؤدي إلى تراجع القيم الثقافية والفكرية.
فيما أعلنت دراسة من جامعة هارفارد أن الأشخاص الذين يقضون أكثر من ثلاث ساعات يومياً على وسائل التواصل الاجتماعي هم أكثر عرضة للإصابة باضطرابات المزاج. وأوضحت دراسة أخرى أجرتها جامعة ولاية أوهايو أن (40 %) من المراهقين الذين يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي بكثرة يُعانون من مستويات عالية من القلق والاكتئاب.
ووفقاً لتقرير من (Pew Research Center)، وهي مؤسسة غير ربحية تُعنى بإجراء الأبحاث والدراسات، وتعد مصدراً مهماً لصانعي السياسات، والأكاديميين، والمهتمين بالتغيرات الاجتماعية، فإن (72 %) من المراهقين في الولايات المتحدة يتبعون المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا يكشف مدى التأثير الذي يمارسونه على عقول الشباب وسلوكياتهم.
علاوة على ذلك، كشف مؤخراً تقرير منظمة الصحة العالمية أن واحدا من بين خمسة مراهقين يُعاني من مشكلات تتعلق بالصحة النفسية، مما يؤكد قوة العلاقة بين الاستخدام المفرط لوسائل التواصل الاجتماعي وتدهور الحالة العقلية والنفسية.
وعلى المستوى المحلي؛ تُعد وسائل التواصل الاجتماعي جزءاً أساسياً من الحياة اليومية، حيث تشير الإحصاءات إلى أن السعوديين يقضون أكثر من (3) ساعات يومياً في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وفي بداية العام 2024، كان هناك (36.84) مليون مستخدم للإنترنت في المملكة، مما يعـادل معدل انتشار للإنترنت بنسبة (99.0 %). فيما بلغ عدد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي (35.10) مليون مستخدم، مما يعادل (94.3 %) من إجمالي عدد السكان.
ورغم أن الشباب السعوديين يمثلون حوالي (37 %) من إجمالي أفراد المجتمع، فإن الأفكار والسلوكيات تختلف بين واحدٍ وآخر. ومن الطبيعي أن يتأثروا بما تقدمه وسائل التواصل الاجتماعي، ونحن نرغب أن يكون التأثير إيجابياً، وهذا يتطلب تحصينهم فكرياً من المحتوى غير المفيد ومن المشاهير غير المؤهلين.
إن الدراسات والأبحاث، وكذلك الأحداث والمشاهدات من حولنا، تؤكد وجود أزمة حقيقية بسبب الافراط غير الواعي في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والمتابعات غير المسؤولة للمشاهير غير المؤهلين للظهور الإعلامي (مشاهير الفلس)، مما يشير إلى تفاقم حالات القلق والاكتئاب في المستقبل وإلى ظهور مشكلات جديدة في الصحة النفسية والفكرية قد يُعاني منها العالم أجمع، حيث يؤثر إدمان وسائل التواصل الاجتماعي بشكلٍ سلبي على العلاقات الاجتماعية والأنشطة اليومية، ويمكن أن يتسبب ذلك في تراجع الإنتاجية وجودة الحياة بصفة عامة؛ مما ينعكس سلباً على الاقتصاد والمجتمع بشكل عام، وهذا يخالف الطموحات في المملكة وواقع رؤية 2030 التي تهدف إلى تعزيز التعليم وتطوير المهارات. مما يستدعي ضرورة اتخاذ استراتيجيات محلية فعالة لمواجهة هذا التحدي العالمي، بحيث تبدأ من الأسرة بعدم ترك أبنائهم ضحايا للتفاهة الرقمية، وحمايتهم من الأفكار التي يروج لها مشاهير الفلس، وأن يتم إجبار الوالدين على تحمل المسؤوليات الأبوية وممارسة أدوارهم في توعية أبنائهم وبعناية حول مخاطر التقنية وعدم الانسياق لكل ما يأتي من وسائل التواصل الاجتماعي، مع تدريبهم على التفريق بين المعلومات الإيجابية والسلبية، وكذلك تعزيز قدراتهم النفسية والفكرية؛ ليكملوا مسيرتهم في خدمة بلادهم ويواصلوا مساهماتهم الوطنية في بناء مجتمعٍ حيوي واقتصادٍ مزدهر.