م.عبدالمحسن بن عبدالله الماضي
1 - التباس المصطلح وارتباك المعنى واختلاف المفهوم خلق مشكلة في الفهم لدى العموم، وجعل من الوسيلة نتيجة ومن الغاية وسيلة، فاختلط الحابل بالنابل وأصبح الكل يغني على ليلاه.. فمثلاً مصطلحات: التنوير، والمدنية، والحداثة، والنهضة، والحضارة.. فأيها الوسيلة وأيها النتيجة، ومن يسبق من، وهل اللغة والدين والثقافة من المكونات أو العناصر التي يجب أن تضاف لتلك السلسلة من المصطلحات؟
2 - مصطلح الحداثة في رأيي فاز بقصب السبق في سوء الفهم والتباس المعنى، مما سَهَّل على المختلفين اللعب بالكلمات واستخدام المصطلح مرة للثناء ومرة للذم.. فمصطلح الحداثة حسب التعريف الاصطلاحي بعيداً عن تأويل أي طرف يعني استحداث بُنى وأنظمة فكرية ومجتمعية واقتصادية وسياسية وإدارية وعلمية.. كما يعني سعة استخدام والاستفادة من المنتجات المعرفية والتطبيقات العلمية والتكنولوجية.. مما يؤدي إلى الإطاحة بالمفاهيم القديمة والتعامل مع الوسائل والمنتجات الجديدة، من خلال اتجاه حديث يشكل ثورة كاملة.
3 - مفهوم الحداثة متعدد الدلالات، ليس له معنى صارم المفهوم.. هذه الالتباسات في المفهوم والدلالات ليس على مستوى المعنى وحده بل على مستوى ترجمة المصطلح والمقصود منه سواء في لغة مَنْشئه (الأنجلو سكسوني) أو المنقول إليها من اللغات الأخرى ومنها العربية.. فالحداثة في لغتنا العربية مرتبطة بالزمن، ومثال ذلك أننا نصف الطفل بحديث الولادة، والشاب المراهق نسميه «حدث» أي أنه حديث عهد بالحياة وتجاربها.. بينما الحداثة في لغة مُنشئ المصطلح لها معنى اقتصادي أو اجتماعي أو سياسي أو صناعي أو فكري، ولها دلالات جمالية وفلسفية وفنية، وليس لها علاقة بالزمن.
4 - هناك من يحصر الحداثة في مفهومها الزمني، وهناك من يحصرها في تأثيراتها المجتمعية، وهناك من يراها مجرد أفكار فلسفية غايتها البحث في إشكالات العصر التي تهم الإنسان المعاصر.. وهناك من يراها أمراً شمولياً ولا يمكن أن تكون مجزأة بل نسق اجتماعي متكامل ثقافياً واقتصادياً وصناعياً وسياسياً وأمنياً وفكرياً.
5 - اختلف منظرو الحداثة على بداياتها، فمنهم من قال إنها انطلقت مع عصر النهضة في منتصف القرن الخامس عشر فهي من نتائج التنوير تماماً مثل النهضة ذاتها، ومنهم من قال إنها بدأت مع الفيلسوف الفرنسي «ديكارت» في مطلع القرن السادس عشر، ومنهم من يرى أنها بدأت مع «جان لوك» الإنجليزي في أواخر القرن السابع عشر، ومنهم من رأى أنها بدأت بعد الثورة الصناعية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر.. بمعنى أن بدايات الحداثة تَفَرَّق دمها بين مفكري أوروبا، فكلٌ يدعي أنها بدأت من موطنه وعلى يد مفكريه.
6 - أيضاً اختلف منظرو الحداثة على سماتها، فمنهم من قال إنها عهد تسيد الإنسان على الطبيعة وتسخيره لها، ومنهم من قال إنها مرحلة نزع القداسة عن الأشخاص والأفكار والأشياء، وفئة ثالثة قالت إنها مرحلة العقلانية التي نفت السحر والأسطورة وقدرتها على التدخل في حياة الإنسان ومصيره.. وأخيراً قالوا إن الحداثة هي عهد سيادة الديموقراطية التي هي رمز فردية اتخاذ القرار.
7 - هناك من يرى أن الحداثة هي الانقطاع التام عن كل ما له صلة بالتاريخ، ومن ذلك العادات والتقاليد والأعراف.. فالحداثة في رأيهم هي نمط حياة جديد حديث ليس له صلة بكل ما ورثناه من آبائنا وأجدادنا وكل ما هو سائد في المراحل السابقة.. فالحداثة سمة من نتائجها السرعة والتنوع والشمول والاختراعات والبحث العلمي، أما مجالها فهو الكون كله.
8 - الحداثة والتحديث مصطلحان يبدوان وكأن الثاني مشتق من الأول؛ فالحداثة اسم والتحديث فعل.. ورغم التداخل الكبير بينهما إلا أنهما مختلفان جذرياً.. فالحداثة موقف عقلي تجاه العلوم والمعارف والموروث ونظام الدولة وسلوكيات أفراد المجتمع.. أما التحديث فهو استجلاب التقنية واستعمالها في الحياة اليومية وفي عمليات الإنتاج، لكنه لا يمس السلوك وأسلوب الحياة والنظر إلى الأحداث والأشخاص والمواقف.. فالتحديث لا يمس العقل ومناهج التفكير بل يمس أساليب العمل ووسائل الإنتاج فقط.. والإنسان يمكن أن يكون تقليدياً تاريخياً في فكره وممارساته لكنه يستخدم المخترعات الحديثة، فهي تؤثر على إنتاجه ولكنها لا تؤثر في طريقة تفكيره أو قراراته أو رؤيته للحياة.. بمعنى أن التحديث مظهر خارجي، أما الحداثة فهي عمق روحي وعقلي.
9 - كما يتم أيضاً ربط مفهوم الحداثة بمفهوم النهضة، بسبب أنهما ارتبطا معاً منذ البداية فاختلط الأمر على الناس.. فهل شكلت الحداثة النهضة أم أن النهضة هي التي شكلت الحداثة؟ على اعتبار أنه لا يمكن أن تكون هناك حداثة بلا نهضة ولا نهضة بلا حداثة.. كما أن بينهما مشتركات عدة، فكلاهما لا يقبل إلا العقل، والعلمانية، والفردية، والمدنية، وحقوق الإنسان.. إلخ.. لكن الفارق الظاهر هو أن الحداثة أقرب إلى السلوك الفردي، بينما النهضة سلوك جماعي.. والحداثة يمكن أن تتم باستيراد وسائل الحداثة دون فكرها، لكن لا يمكن النهوض باستخدام وسائل الحداثة.. بمعنى أن النهضة هي مشروع اجتماعي كلي، بينما الحداثة ممارسة يومية سلوكية فردية.