د. محمد بن إبراهيم الملحم
اغتنمت لقاءً ضمنياً مع عدد من الزملاء الذين تقاعدوا من التعليم لأطرح عليهم هذا السؤال، خاصة أن عدداً منهم تقاعد مبكراً من مهنة التدريس، أو ما يماثلها من المهن التعليمية الأخرى مثل مدير مدرسة أو وكيل مدرسة، فطرحت عليهم هذا السؤال «لماذا تركت مهنة التدريس وفضلت التقاعد؟» فكانت الإجابات تتراوح بين عدة أسباب أحدها طبعاً الإجابة الكلاسيكية المتمثلة في الرغبة بالراحة أو التخلص من الالتزام الوظيفي، وهناك من ذكر الشعور بالتعب والإرهاق من الأداء التدريسي باعتبار تقدم السن، وإن كان المتحدث لازال في صحته الجيدة! لكنه يقول إنه أصبح يشعر بالتعب، وهناك من أشار إلى معنى قريب من ذلك وهو الشعور بالملل، من حيث إنه لم يعد هناك شيء جديد يقدمه، فهو يكرر نفسه فلم يعد للتدريس نفس الشعور الجميل في بداياته، وقبل أن أنتقل لبقية الأسباب سأعلق بأن هذه الأسباب (أقصد التعب الجسدي والملل) هي أيضاً أسباب كلاسيكية مشتركة بين طائفة كبيرة جداً من المعلمين، وهي نتيجة استمرارهم غالباً على الطريقة الإلقائية وعدم قدرتهم على تطبيق طرق التدريس الحديثة التي تقوم على التفاعل المستمر مع الطلاب في العملية التدريسية؛ ما يجعل للطالب دوراً مهماً وفاعلاً ويقلل من نشاط المعلم الزائد واستهلاكه صوته وطاقته كما في الطريقة الإلقائية التقليدية؛ وهو ما يشعرهم بـ»التعب» أو «الملل» لأنهم هم فقط مصدر المعرفة ومصدر الأداء، ولا يعود ذلك بالضرورة إلى نقص في هؤلاء المعلمين من حيث أنهم لا يستوعبون هذه الاستراتيجيات الحديثة أو لا يؤمنون بها (وإن كان هذا في الواقع حال فئة لا بأس بها من المعلمين فعلاً)، ولكن قد تكون الأسباب هي عدم توافر الظروف المناسبة للتطبيق سواء من حيث ضغط المناهج وطولها الذي تم تفصيله على مقاس الطريقة الإلقائية، (وأنا شخصياً كنت أشكو من هذه المتلازمة في مقررات الفيزياء عندما كنت معلماً في الثمانينيات والتسعينيات الميلادية)، أو من حيث عدم تفهُّم الإدارة المدرسية أو الإدارة التعليمية لمتطلبات هذه الطرائق من أدوات ووسائل وممارسات أيضاً، فهناك مثلاً بعض المسئولين من مديري مدارس أو مشرفين تربويين لا يتقبل الضوضاء وكثرة الحديث الذي يصاحب تطبيق طرق التعلم التشاركي.
ونواصل الأسباب لنجد أن هناك من يرى أن المعلمين والقيم التي يحملونها لم تعد كما هي من قبل؛ مما يجعل مهمته صعبة حيث يغدو هو الشاذ من بينهم وهو ما يجعل البيئة طاردة له، بل إن مدير مدرسة ذكر هذا السبب أيضاً كمبرر لتركه العمل، حيث إن قيم المعلمين المنخفضة (أقصد قيم العمل من التزام مهني واحترام الأنظمة وتقدير المسئولية)، كانت سبباً لصعوبة مهمته وتعسرها عليه في ظل تمسكه هو شخصياً بتلك القيم ومحاولته القيام بواجبه بما يمليه عليه ضميره، وكان هناك أكثر من رأي ذكر بعدة تعبيرات متنوعة، ولكنها كلها تتمحور حول معنى واحد وهو كثرة التغيرات التي تحدث في المؤسسة التعليمية، من حيث تغيير الأنظمة وتحول الممارسات وتغير ثقافة العمل بشكل سريع ومتكرر كثيراً؛ مما جعل البيئة غير مستقرة على الدوام وهو ما يشوش حياة هؤلاء ونظامهم وطريقتهم ونهجهم التدريسي، فلا يستقر لهم الأمر على حال لفترة طويلة؛ مما جعل بيئة المدرسة والتدريس طاردة لهم فيختارون التقاعد المبكر في أقرب فرصة.
أحد المتحدثين ذكر أنه يتمنى أن يواصل العملية التدريسية حتى إلى ما بعد عمر الـ60 ليستمر معلماً، فعنده الطاقة والشغف لذلك ولاسيما أنه يستمتع بالتدريس والعطاء، ولكنه لا يستطيع أن يحقق هذا الأمل في ظل التغيرات الكثيرة والتشويشات المتعددة التي تجعل من بيئة التدريس بيئة غير آمنة وغير مستقرة. وللحديث بقية.