د. تنيضب الفايدي
تعددت أسواق العرب في الجزيرة العربية قبل الإسلام، وما زالت أطلال بعض تلك الأسواق باقية حتى بعد مرور قرون من الزمن، وقد تمّ رصد تلك الأسواق وألّفت لها المؤلفات؛ لأن هناك أندية تقام ببعضها حيث يلقى الشعر، وحفظ الشعر تلك الأسواق، بل هناك مُحَكِّمُون لذلك الشعر، ومن بين أولئك الشاعر النابغة الذبياني، فقد ورد أن النابغة الذبياني جلس تحت قبة من أدم (جلد) في عكاظ، وهو المحكّم في شعر العرب يومئذ، فدخل عليه حسان بن ثابت، وكان عنده الأعشى والخنساء، وقد أنشد الأعشى شعره وحكم له النابغة، ثم أنشدت الخنساء قصيدتها:
قَذىً بِعَينِكِ أَم بِالعَينِ عُوّارُ
أَم ذَرَفَت إِذ خَلَت مِن أَهلِها الدارُ
إلى أن قالت:
وإن صخرا لتأتم الهداة به
كأنه علم في رأسه نار
وإن صخرا لكافينا وسيدنا
وإن صخرا إذا نشتو لنحار
فقال النابغة: لولا أن أبا بصير (كنية الأعشى) أنشدني قبلك لقلت إنك أشعر الناس. وكذا الخنساء حيث كانت تُحَكِّم في سوق عكاظ، وتقام تلك الأسواق في أيام محددة طوال العام، وكانت تلك الأيام معروفة لمرتادي الأسواق، حيث تبدأ بسوق دومة الجندل في شهر ربيع الأول، ثم سوق المشقر في جمادى الآخرة، ثم سوق صحار في عُمان الذي كان يبدأ في أول رجب بينما تشهد نهايته سوق دبا ثم سوق الشحر بحضر موت الذي كان موعده في شعبان، ويعقبه في رمضان سوق عدن وصنعاء، ثم سوق عكاظ في ذي القعدة، ثم يشهد شهر ذي الحجة سوق ذي المجاز ومجنة.. وبعد انصراف العرب من الحج متجهين شمالاً كانوا يجتمعون في سوق نطاة خيبر. وبذلك كانت خيبر تشارك في هذه الدورة الاقتصادية التي تطوف كافة أرجاء الجزيرة العربية، كما كانت تمر بخيبر اللطائم (القوافل) التي كانت يبعث بها ملك الحيرة النعمان بن المنذر إلى الأسواق العربية.
سوق قرح (المعتدل) بالحجر (وادي القرى) العلا
نظراً لوقوع هذه القرية على الطريق التجارية الكبرى بين اليمن والشام، أسهم أهلها بتجارة الجزيرة، وكانت إحدى محطات القوافل التجارية في سفرها إلى الشام، ونجح أهلها في متاجرهم حتى أفادوا منها غنى واسعاً واستفاضت لهم ثروات طائلة، ونشأت فيهم رؤوس الأموال الضخمة، وكلما مرت عير لقريش أو لطيمة من لطائم النعمان قامت لها سوق في خيبر. وقد وعد الله سبحانه وتعالى المسلمين وقت رجوعه من الحديبية بمغانم كثيرة، والمقصود بمغانم كثيرة في الآية هي خيبر عند بعض المفسرين حيث وجد المسلمون فيها من أموال جمة وكنوز كثيرة، تقول عائشة رضي الله عنها: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبز الشعير والتمْر حتى فُتحت دارُ بني قِمَّة.
وترد النطاة أحياناً بأنها حصن من حصون خيبر، قال الزمخشري: «النطاة حصن بخيبر»، واعتبر الأصفهاني نطاة خيبر من أكبر الأسواق العربية القديمة التي كانت في الجاهلية قبل الإسلام وكانت من الأسواق الموسمية، كما أشار جواد علي إلى أن سوق نطاة خيبر يعقد في يوم عاشوراء إلى آخر شهر محرم، وذكر الدكتور الأنصاري بأن سوق نطاة خيبر كانت تشارك بالدورة الاقتصادية التي كانت تطوف في أنحاء الجزيرة العربية، وذلك بعد انصراف العرب من الحج متجهين نحو الشمال، وكانت تمر فيها القوافل التي كان يبعثها ملك الحيرة النعمان بن المنذر إلى الأسواق العربية. وأحياناً أخرى ترد بأن النطاة عينٌ من العيون، ويطلق في بعض المصادر بأنها كل أرض خيبر، وكلّ ما ورد صحيح، وكان من أهم البيوع في سوق النطاة الجواهر التي استطاعت خيبر أن تتفوق على جميع مراكز بيع المجوهرات في شمال وجنوب الجزيرة العربية، وكان يوجد في السوق أيضاً آنية الشراب والطعام والقدور النحاسية، وقطع الأثاث والأسلحة والسكاكين وأدوات الزراعة، بالإضافة إلى محاصيل الواحة من القمح والشعير وأنواع التمور، بالإضافة إلى السمن والعسل والزيت وشحوم الأنعام، والدواجن وأعلاف الماشية، كما كان في السوق خمور خيبر، فلقد كان التجار يقصدون سوق النطاة من أجل جلب الخمور (قبل الإسلام).
والنطاة من آخر الحصون التي فتحت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر، حيث ذكر الواقدي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما افتتح حصن ناعم وغيره من حصونه تحول أهلها إلى قلعة الزبير، وهو حصن منيع في رأس قُلّة، قال: فجاء رجل من يهود للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: تؤمنني على أن أدلك على ما تستريح من أهل النطاة وتخرج إلى أهل الشق؟ فأمّنه، فقال: إنك لو أقمت شهراً ما بالوا، لهم دُبول تحت الأرض يشربون منها، فقطع دبولهم، قال: وكان هذا آخر حصون النطاة فتحاً، ثم تحوّل إلى أهل الشق. قال ابن لُقَيم العبسي في الشق والنطاة، وذلك عند فتح خيبر:
رُمِيَتْ نَطَاةُ من الرسولِ بفيلقِ
شَهْباءَ ذاتِ مناكبِ وفِقارِ
واسْتَيْقَنَتْ بالذُّلِّ لمَّا أصبحتْ
ورجالُ أسْلَم وسْطَها وغِفارِ
ولكلِّ حصن شاغلٌ من خَيْلِهِمْ
من عبد أشْهَل أو بَني النَّجَّارِ
صَبَحَتْ بَني عمرو بن زُرعة غُدْوةً
والشِّقُّ أظلمَ ليلُهَا بِنَهارِ.
كما ورد ذكر النطاة في الشعر حيث قال الشماخ:
ألا تلك ابنة البكري قالت
أراك اليوم جسمك كالرّجيع
كأن نطاة خيبر زوّدته
بكور الورد ريّثة القلوع
وكان من يرد عين النطاة يصاب بالحمّى حتى ظنّ الليث أنها اسم للحمّى وهي عين بها، والنطاة حالياً عبارة عن مجموعة من المباني القديمة تشعر أنت بداخلها بأن هذا الموقع تاريخي، سواءً من حيث المباني أو الشوارع الضيقة، وهناك ساحة مجاورة لتلك المباني يقال عنها بأنها السوق القديمة للنطاة في الجاهلية.