عبده الأسمري
ما بين أصول «الفقه» وفصول «الشريعة» بنى صروح «المعارف» على أركان من «التدبر» وأسس من «التبصر»،
جبر «عثرات» التساؤل وسبر «أغوار» الفتيا حتى أضاء «مسارب» البدايات بقناديل «البصيرة» وأنار «دروب» الأمنيات بمشاعل «السيرة».
ملأ «الكتاتيب» بأصداء النبوغ الباكر واتخذ من «دور العلم» مكاناً قصياً زرع فيها بذور «الالهام» وجنى منها حصاد «المهام».
أوى إلى «الزهد» كركن شديد أقام في محرابه مولياً قبلة «العمر» شطر الحسنى، مجللاً بموجبات «الجواب الكافي»، ومكللاً بعزائم «الصواب الشافي»، متخذاً من «الوسطية» نقطة ارتكاز عاش فيها دهرين من الإثبات أحدهما لليقين والآخر للتمكين.
إنه العلامة الشيخ الجليل الدكتور عبدالله بن عبد الرحمن بن جبرين -رحمه الله- أحد أبرز الفقهاء والعلماء في السعودية والعالم الإسلامي.
بوجه نجدي مسكون بعلامات «الود» وسمات «الجد»، وتقاسيم مسجوعة بطيب المحيا وجميل المظهر، وملامح ودودة تعلو منها ابتسامة «الرضا» واستدامة «التواضع «تتشابه مع والده وتنتهل من أسرته، وعينان تغلبها عبرات «التأثر» وتسكنها نظرات «الأثر»، مع محيا عامر بالمكارم وغامر بالفضائل وحضور مشفوع بالمروءة والطيبة وأناقة بيضاء تعكس صفاء قلبه ونقاء داخله وبياض أياديه، وبساطة حافلة بالألفة والتآلف، وشخصية ممزوجة بلطف التعامل ونبل التواصل ورونق الإجابة، واكتمال الفهم وجمال الرد ورقي الوصال وسلاسة الأسلوب ووجاهة المعنى، ولغة قوامها الفصاحة ومقامها الحصافة تستند إلى «مخزون» شرعي، وتتعامد على «مكنون» معرفي وإلمام فريد بمناهج الفقه والتفسير والحديث والتوحيد، وإتمام سديد لمنهجيات التراجم والأدب والتاريخ، وخبرة عريضة وسيرة فريدة قضى ابن جبرين من عمره «عقوداً» وهو يملأ اتجاهات طلاب العلم بروائع التدريس، ويبهج حلقات الدروس ببدائع المحاضرات ويسكب «العلم» حبراً في صفحات التأليف، ويسبك «الفهم» جبراً في نفحات التوصيف عالماً وفقيهاً وعلماً من أعلام العلم الشرعي والعمل النوعي في شؤون الدين ومتون المعرفة.
في قرية «محيرقة» بمحافظة القويعية «الدرة الساطعة» في عقد «الرياض» المضيء بالعز ولد بن جبرين عام 1352، وتربى في كنف والد فاضل علَّمه ماهية «الالتزام» سراً وعلانية، وأسبغ عليه بتربية صالحة فالحة انطلقت من فروض التوجيه وتجلت في فرائض الصلاح.. وأم كريمة ملأت وجدانه وأضاءت طفولته بدعاء الخلوات وابتهال الصلوات..
ارتبط طفلاً بضياء الأبوة الحانية فظل مقترناً بوالده الذي درَّسه منذ الصغر على امتزاج العبادة بالسلوك، وتوظيف الأخلاق مع «الخلائق» وظل يغترف من «مشارب» النصح حتى امتلأ فؤاده بمعاني «التدين» وتوسمت جوارحه بمحاسن «التهذيب».
تعتقت نفسه بأنفاس الهدوء في جنبات قريته «الحالمة»، وتشربت روحه نسائم السكينة بين ثنايا بلدته «العتيقة»، فكبر وفي قلبة «رياحين» الطفولة الممهورة بأثير البراءة وعبير العفوية.
ركض مع أقرانه بين منازل «الطيبين» مراقباً ملاحم «العون» في أحاديث العابرين على «دروب» الترحال، ومرتقباً حكايات «الصبر» في قصص القادمين على أجنحة «الكدح»، فترسخت في ذاكرته «الغضة» الشواهد الأولى لمعالم «الفلاح» التي وظَّفها في مقتبل العمر وجناها في عطايا القدر.
تعلَّق قلبه بالمساجد وظلت منصتاً لتراتيل معلمي القرآن الكريم وتلك الألحان السماوية التي غمرت داخله بلذة الحفظ ومتعة التلاوة، فظل القرآن ربيع قلبه ونوره صدره وجلاء همه وحزنه.
انطلق بن جبرين في قافلة التعليم عام 1359هـ، حيث بدأ والده تحفيظه القرآن الكريم وعمره ست سنين، وحين أصبح عمره 9 سنوات قرأ على والده الأربعون النووية وعمدة الأحكام وعدداً من كتب الفقه والتوحيد، وأتم حفظ القرآن كاملاً وهو ابن 12 عاماً. وطلب العلم على يد الشيخ عبد العزيز الشثري» أبو حبيب» وقرأ عليه تفسير ابن كثير والبداية والنهاية وصحيح البخاري ومسلم ومختصر سنن أبي داوود.
انتقل عام 1374هـ مع شيخه أبي حبيب من بلدة الرين إلى الرياض وانتظم طالباً في معهد إمام الدعوة العلمي ونال الشهادة الثانوية عام 1377هـ، وكان ترتيبه الثاني بين الطلاب الناجحين ونال الشهادة الجامعية عام 1381هـ، وكان ترتيبه الأول وقد طلبه الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ تولي القضاء ولكنه رفض ذلك لرغبته في إكمال دراسته، وظل خلالها مقيماً في «محاريب» العلوم وثاوياً في أهل الصلاح يبحث ويناقش ويتعلم ويحلل ويجمع ويرصد ما يتعلق بالعلم الشرعي، موجهاً بوصلة «مهماته» قبلة العلم الشرعي بكل تفاصيله واتجاهاته.
أكمل الشيخ ابن جبرين دراساته العليا ونال درجة الماجستير في عام 1390 هـ في رسالة بعنوان «أخبار الآحاد في الحديث النبوي»، وأشرف عليها الشيخ عبد الرزاق عفيفي، وطبعت عام 1408هـ في مطابع دار طيبة ثم نال درجة الدكتوراه في الفقه وأصوله عام 1407 هـ بامتياز مع مرتبة الشرف الأولى، وقد حصل عليها وعمره 58 عاماً. وأشرف على رسالته الشيخ عبد الله الركبان.
وقد واظب ابن جبرين على حضور دروس الشيخ عبد العزيز بن باز ومجالس الشيخ عبد الله بن حميد واستفاد منهما كثيراً، وفي سنة 1375هـ قرأ ابن جبرين الأصول على الشيخ محمد الأمين الشنقيطي واستمر يحصد استثمار «التمكن» ويقطف «ثمار» التفوق.
تعلم ابن جبرين من الشيخ عبدالعزيز بن باز سلاسة الفتوى وقوة الحجة، وانتهل من الشيخ عبدالله بن حميد دلالة المعنى ورجاحة الضرورة، ومن الشيخ عبدالرزاق عفيفي قيم الثبات وأحكام الاختلاف، ومن معلمه الأول الشيخ أبو حبيب الشثري صبر العابد ونبل العالم، وغرس في عقول تلاميذه الذين كانوا يقدمون إلى حلقاته ومجلسه من كل مناطق الوطن وأرجاء العالم الإسلامي مهام «الدعوة» الإسلامية الحقة ومعاني «المثابرة» في طلب العلم و»المصابرة» في نيل الأجر، والتفاصيل المؤكدة لتلك الرسالة «الدينية» التي يحملونها وتقتضي الثبات والإثبات.
برع الشيخ ابن جبرين في التأليف وأصدر عشرات «المؤلفات» في «الفتاوي» والمسائل الفقهية والقواعد الشرعية والتوحيد والتفسير وفي العقيدة والحديث والأحكام والفرائض وغيرها من المجالات الدينية المتعددة.
تمتلئ المكتبات الكبرى والجامعات ومراكز البحوث بالإرث المعرفي الكبير الذي تركه الشيخ ابن جبرين ناطقاً وسامقاً وحاضراً ناضراً في آفاق المعارف وأبعاد المشارف.
انتقل ابن جبرين إلى رحمة الله يوم الاثنين 20 رجب 1430 هـ عن عمر يناهز 80 سنة في مستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض، وقد نعاه الديوان الملكي ودفن في مقبرة العود، وقد حضر جنازته المئات من طلاب العلم والمشايخ ومحبي الشيخ وتناقلت وسائل الإعلام نبأ رحيله واصفة مآثره ومناقبه، وودعته الألسن والأنفس بصادق «الدعوات» وعميق «التعازي» التي تعكس «مقام» الشيخ الكبير في ميزان «الأثر» وميدان «التأثير».
ترك الشيخ صدى محبته في قلوب «الملايين» ومدى علمه في قوالب «اليقين» الذي تستشهد به «مواقع» الفتيا، وتستشرف به «مواطن» العلم وتستشهد به «محافل» الاقتداء.
الشيخ العلامة عبدالله بن جبرين -رحمه الله- عالي «المقام» وسامق «القيمة» ورفيع «القامة»، صاحب السيرة الساطعة بإضاءات العابد الزاهد والمسيرة اللامعة بإمضاءات الفقيه المكين.