محمد سليمان العنقري
تميزت الانتخابات الرئاسية الأمريكية لهذه الدورة بتجاذبات حادة وتنافس شديد جداً ولم تترك اي ورقة الا واستخدمها كل طرف ضد الآخر، ولكن بالنهاية حسم الرئيس ترمب السباق وحصد عددا كبيرا من أصوات المجمع الانتخابي بعدد 312 صوتاً مما يفوق العدد الكافي للفوز بولاية رئاسية عند 270 صوت، وتفوق ايضا بالتصويت الشعبي حيث وصل عدد من انتخبه الى 72 مليون مقابل 68 مليون لمنافسته الديمقراطية كامالا هاريس، ولكن بعد هذا الفوز الكبير واعتراف خصمه بالخسارة تتجه الانظار الى محاولة قراءة توجهاته القادمة على كافة الأصعدة، ولعل أهمها الملف الاقتصادي الذي كان وصفته السحرية التي اعادته للبيت الابيض كثاني رئيس بتاريخ اميركا يعود لمنصبه بعد خسارته للدورة التالية لرئاسته الأولى فقد حدث ذلك لأول مرة مع الرئيس الديمقراطي ستيفن جروفر كليفلاند الذي أصبح رئيسا عام 1884 وخسر السباق عام 1888وعاد للفوز بولايته الثانية الغير متتالية عام 1892
فمن النادر أن يستطيع أي رئيس أو أي سياسي يدخل السباق الرئاسي ويخسره أن يعود ليكرر المحاولة مرة أخرى فغالباً ما يكون ذلك اشبه بالمستحيل؛ لأنه يكون قد فقد الشعبية أو التأييد الذي ناله من مناصري حزبه ويعتبرون أن تكرار التجربة ليس الا مضيعة للوقت وفرصة للحزب المنافس ليحصد الانتصار في سباق الانتخابات بما أن أوراقه كشفت ولم يعد لديه ما يقدمه من جديد، لكن الأمر مختلف مع الرئيس ترمب فهو تعامل مع هذا الامر بعقلية التاجر الذي يخسر بتجارته ثم يعود للنهوض من جديد، ولذلك لم يفقد إصراره على العودة للبيت الأبيض من جديد واستعد للسباق الانتخابي مبكراً واستثمر كل غلطة أو هفوة للديمقراطيين كي يستغلها لصالحه، فماذا تخبئ فترته الحالية للملفات الشائكة التي أعادته لمنصب الرئيس، وهل سيكرر ذات السياسات السابقة التي انتهجها بولايته الأولى والاجابة على هذه الاسئلة تحتاج لعدة مقالات لكن ما يهم العالم اليوم هي الخطوط العريضة التي سيتبعها ليصل للشعار الذي يعتبر عنوان فترته وهو جعل اميركا قوية؛ فهو ركز على أن فترة بايدن التي تنتهي قريباً اضاعت هيبة بلاده وجعلت منها ضعيفة لا يحسب لها حساب قياساً بما تملكه من قوة وتفوق بمجالات عديدة، ولقد بدات دول العالم التي تعد المنافس الاكبر لاميركا كالاتحاد الاوروبي والصين بالاستعداد للتعامل مع سياسات ترمب المنتظرة في علاقته مع العالم اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً.
ستركز سياسة ترمب على ما فشل به بايدن اقتصادياً وكان سبب بخسارة الديمقراطيين للرئاسة حيث سيوجه اغلب السياسات المالية نحو تراجع الاسعار وسيحاول مناقشة الفيدرالي بخصوص اسعار الفائدة لتكون بنسب متوازنة تضبط التضخم، ولا يكون التمويل مكلفاً لان التضخم ارتفع كثيراً في أميركا والأسعار تضاعفت ولم تفلح خطط بايدن في انتشال الاقتصاد تماماً؛ فالولايات المتأرجحة والتي يميل اغلبها للديمقراطيين وتعد هي مفتاح الفوز بالرئاسة صوتت جميعها لترمب لأسباب اقتصادية، فالناخب الامريكي لا يعنيه كثيراً اي ملف بالسياسة الخارجية، ولا غير ذلك الا ما يؤثر على جيبه وتكاليف حياته، لذلك سيكون عمله وخططه تصب بجانب زيادة الانتاج المحلي وخفض التكاليف لتؤثر ايجاباً بتراجع الأسعار ولابد من ان يقوم برفع الانتاج الصناعي والزراعي في اميركا، ويتطلب ذلك وضع مزايا تدعم جذب الاستثمارات واتخاذ اجراءات حمائية كفرض الرسوم على واردات من دول كالصين والمكسيك واي دولة تصدر منتجات عديدة للسوق الامريكي، ورغم أن البعض يرى أن ذلك قد يرفع التكلفة على الامريكيين لكنه يسعى لاعادة توطين الصناعة وخفض تكاليف الطاقة وتشغيل العمالة الامريكية من خلال التركيز على صناعات محددة ذات أهمية كبيرة؛ كالسيارات وايضا الاجهزة الالكترونية، كما انه قد يعدل قانونا متعلقا بصناعة الرقائق الذي سنته ادارة بايدن وقدمت دعما مباشرا له بحوالي 40 مليار دولار لمن يؤسس مصنعاً في أميركا بينما يرى هو ان ذلك خطأ كبير لأن الشركات الآسيوية الاكثر سيطرة عالمياً ستفتتح مصانع بانتاج رقائق غير مهمة عملياً لتتمكن من الاستمرار بتصدير المنتجات الاكثر جودة من مصانعها ببلادها لاميركا، بينما يسعى لوضع رسوم عالية على صادراتها لبلاده حتى تضطر لضخ استثمارات من جيبها وبمصانع حديثة لتبقي لنفسها مكاناً في أكبر سوق عالمي فقد تراجع انتاج اميركا من الرقائق الى 12 بالمائة عالمياً بعد ان كان يمثل حوالي 40 بالمائة في تسعينيات القرن الماضي، فهو بذلك يجلب الاموال ولا ينفق عليهم من الداخل.
كما سيتجه لزيادة إنتاج الوقود الاحفوري من الاراضي الفيدرالية لزيادة الاعتماد على الانتاج الداخلي وخفض تكاليف الطاقة، وهنا قد يواجه ما حدث سابقاً معه حينما تراجعت الاسعار ببداية جائحة كورونا وسارع لدعم قرارات اوبك بلس لخفض الانتاج واستعادة السوق لتوازنه ضمن نطاق اسعار مناسب؛ فاميركا عندما اصبحت منتجاً كبيراً للنفط قد وضعت نفسها امام معادلة صعبة، فانخفاض الاسعار سيعني خروج شركات عديدة لديها من السوق لان التكاليف مرتفعة وارتفاعها الحاد اذا تراجع الانتاج العالمي بسبب اي تقلب شديد بانتاجها فيعني عودة التضخم واحتمال ركود اقتصادها ولذلك سيكون اكثر حذرا بهذا الجانب، ولن يتمكن من الخروج عن قواعد السوق لان الضرر سيلحق بصناعة النفط الامريكية في حال أغرق السوق بالانتاج الذي لن يستمر طويلاً بأي حال، خصوصاً ان هذه الصناعة الحيوية يعمل بها ملايين الامريكيين بشكل مباشر وغير مباشر، اضافة للخطر الذي ستواجهه البنوك الممولة للمنتجين في حال إفلاسهم كما سيسعى لخفض النفقات غير الضرورية بالميزانية الفيدرالية لان هناك ارتفاعا بالدين السيادي، وكذلك العجز بالميزانية وتتفاقم بشكل سريع.
ملفات عديدة على طاولة الرئيس ترمب لكن جلها يصب في خدمة الاقتصاد فايقاف الحروب في اوكرانيا وغزة ولبنان سيعني عودة السلم الدولي واستقرار انسيابية سلاسل الامداد ووقف تهديدات الملاحة البحرية فهي عوامل تساعد على خفض التضخم عالمياً وتحريك رؤوس الاموال نحو الاستثمار واعادة البناء، وايضاً زيادة الانتاج امريكياً وعالمياً وتراجع بتكاليف عديدة كالشحن البحري والتأمين عليه وفتح المجال لشراكات وتحالفات عبر صفقات سيسعى لعقدها مع اكبر الاقتصادات من خلال التلويح بورقتي الرسوم على بعض الواردات والمزايا لمن يستثمر محلياً كي يتمكن من استعادة زخم النمو داخلياً، وان تنال كل الولايات نصيبها من ذلك مع حماية كبيرة لاهم الصناعات تاريخياً في اميركا.
فهل سنشهد وجها آخر للاقتصاد الأمريكي يؤسس في أربعة أعوام قادمة ؟