د. تنيضب الفايدي
تبالة قرية ضاربةٌ في التاريخ، تعدّ من أكثر المواقع شهرةً في الجنوب من وطننا الغالي، تقع في الشمال الغربي من محافظة بيشة، وكانت حلقة الوصل بين مكة المكرمة واليمن قديماً، حيث تمرّ منها القوافل التجارية والحجاج ويتزودون منها الماء والتمر، أما تسميتها فقيل إنها سميت بها نسبةً إلى تبالة بنت مكنف، وكان بها في الجاهلية صنم (ذو الخلصة)، ففي صحيح الإمام البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه إلى خثعم من بلاد قومه لتحطيم صنم ذي الخلصة. يقول جرير: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألاتريحني من ذي الخلصة؟». فقلت: بلى فانطلقت في خمسين ومائة فارس من أحمس، وكانوا أصحاب خيل، وكنت لا أثبت على الخيل، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضرب يده على صدري حتى رأيت أثر يده في صدري، وقال: «اللهم ثبته، واجعله هادياً مهدياً» قال: فما وقعت عن فرس بعد. قال: فأتاها فحرقها بالنار وكسرها، رواه البخاري. وقد أسلم أهل تبالة على يده، ثُمَّ بَعَثَ جَرِيرٌ رَجُلاً مِن أحْمَسَ يُكْنَى أبَا أرْطَاةَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُبَشِّرُهُ بذلكَ، فَلَمَّا أتَى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، والذي بَعَثَكَ بالحَقِّ، ما جِئْتُ حتَّى تَرَكْتُهَا كَأنَّهَا جَمَلٌ أجْرَبُ، قالَ: فَبَرَّكَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى خَيْلِ أحْمَسَ ورِجَالِهَا خَمْسَ مَرَّاتٍ. متفق عليه. وكان أحد الأمراء الحجاج بن يوسف الثقفي قدم من الطائف وعندما اقترب من تبالة سأل عنها فقالوا له إنها خلف هذه الأكمة فكَرّ راجعاً مستهيناً بها حيث ورد أنه قال: «لا حاجة لي بإمارة مَنْ تواريها الأكمة وضُرِب مثلٌ شهيرٌ وهو (أهون على الحجاج من تبالة) معجم البلدان للحموي (2/11) ، وقد وردت تبالة في أمثال أخرى ومنها: ما حَلَلْتَ بطْنَ تبالةَ لِتَحْرِمَ الأَضْيَافَ. ومعناه: وإن لم يكن لتبالة دورٌ في شرحه أنك لم تبتدئ في أول أمرك بالتفضل والنيل وأنت تريد تركه. أي: أن من تعوّد على الخير يصبر على ما يأتي معه من غيره.
وتبالة عزيزة على الجميع، وهي من القرى الحالمة بما تحمله من مواقع أثرية، لها تاريخ طويل عاشت من العصور القديمة، كونها تعتبر من أهم طرق القوافل التاريخية آنذاك، حتى سميت بمدينة الآثار، فقد عثرت مواقع أثرية عديدة يعود تاريخها إلى ما قبل الإسلام، ويحتوي بعضها على الرسوم والنقوش الصخرية مثل: وادي قار وموقع اللبدة وموقع اللج الأعلى وموقع اللج الأسفل، ووادي قرا، وموقع ذي الخلصة، وموقع أم الفراش، وغيرها، كما وُجد على سطحها بعض أفران صهر المعادن وبقاياها والرحى اللازمة لطحن الحبوب، وكسر الفخار والخزف والزجاج، ومجموعة من الرحي الكبيرة المصنوعة من الحجر الجرانيت التي استخدمت في طحن معادن الذهب، كما تشتهر بالمباني القديمة في مواقع عديدة مثل: قصر شعلان، وقرية الكليات في تبالة، وحوطة مطوية، ودرب الفيل، مما دفع بعض الشعراء إلى التغني بها حيث رُصِدَتْ شعراً في الجاهلية وفي صدر الإسلام وفي العصر الحديث، وقد مرّ بها امرؤ القيس فذكرها، يقول:
هما ظبيتان من ظباء تبالة
على جؤذرين أو كبعض دمي هكر
قال لبيد بن ربيعة:
فالضيف والجار الجنيب كأنما
هبطا تبالة مخصباً أهضامها
قال طرفة بن العبد:
أرى منظراً منها بوادي تبالة
كأن عليه الزاد كالمقر أو أمر
قال عمرو بن معدي بن يكرب:
أأغزو رجال بني مازن
ببطن تبالة أو ارقد
قال مالك بن زعبة الباهلي:
عليهن أدم من ظباء تبالة
خوارج من تحت الخدور نحورها
قال القتال الكلابي:
وما مغزل ترعى بأرض تبالة
أراكا وسدرا ناعما ما ينالها
وترعى بها البردين ثم مقيلها
غياطل ملتج عليها ظلالها
قال أوس بن حجر:
بكيتم على الصلح الرماح ومنكم
بذي الرمث من وادي تبالة مقنب
قال الزير سالم:
أطلبُ اليومَ في تبالةَ صفواً
و بهرجاب بات حملي ثقيلا
قال القاسم بن عمرو:
ألا ليت شعري هل أدوسنا بالقنا
تبالة أو نجران قبل مماتي
وهل أصبحن الحارثين كليهما
بسم زعاف يقطع اللهواتي
قال الشنفرى:
قتيلاً فخارٍ أنتما إن قُلتُما
بجنب دحيس أو تبالة تسمعا
ونظراً لعمق تاريخها وشهرتها الأثرية فقد ذكرها أكثر المؤرخين، قال البكري في المعجم (1/301) والحموي في معجم البلدان (2/9): على أنها بلدة من أرض تهامة بينها وبين الطائف مسيرة ستة أيام، وبينها وبين بيشة يوم واحد، ويصفها الإدريسي بأنها تمتاز بالمزارع والعيون المتدفقة والنخيل. نزهة المشتاق للإدريسي (2/151) وقال الهَمْداني في صفة جزيرة العرب (ص206): «وتَبَالة قرية صغيرة بها عيون متدفقة ومزارع ونخل، وبها مسجد ومنبر، والماء من العيون والآبار، وهي في أسفل أكمة من تراب».
وكان الكاتب ثالث ثلاثة يتجولون عصراً في سوق بيشة ووقفت سيارة ونزل منها أحد الشباب وسلم بحرارة على الجميع وفوجيء بأن ذلك الشاب رفع (عقاله) ورمى به على الكاتب الذي أمسك به ولايدري ماذا يعمل، ثم شرح له مرافقوه بأن إرجاع (العقال) دليل على قبول الموافقة على ضيافة ذلك الشخص الذي أخبرنا بأنه المسؤول عن قرية تبالة، وهناك تذكر الباحث هذه القرية الضاربة في التاريخ وأن أحد أمرائها الحجاج بن يوسف الثقفي الذي قدم من الطائف وعندما اقترب منها سأل عنها فقالوا له إنها خلف هذه الأكمة .. فكرّ راجعاً مستهيناً بها حيث ورد أنه قال : لا حاجة لي بإمارة من تواريها الأكمة وضرب مثل شهير جداً وهو (أهون على الحجاج من تبالة). وقد روى الكاتب هذه القصة له. وكانت رحلة مثيرة من محافظة بيشة إلى هذا الجزء النفيس من الوطن الغالي، والدعوة مفتوحة للتمتع بزيارتها وتنظيم رحلات علمية لطلاب الثانوية والجامعات ولمحبي الإطلاع على الآثار.
وتبالة أصبحت مقصداً للسياحة لتعدّد الآثار وجمال المكان وطبيعتها الخلابة، حيث يثري مكانها السائح بـ (العلم) سواءً بالعمق التاريخي لها، أو الطرق التجارية التي كانت تمر بها قديماً، ولاسيما أن هناك منجماً للذهب غير بعيد من تبالة.