د. عبدالرحمن بن محمد الغزي
في يوم ربيعي ذي شمس ظليلة، يغطيها الغيم الرقيق والمزن الخفيف، وتارة تتجلى، فهي كالعذراء الخفرة والشابة الخجلة تتراءى لعاشقها بين الأستار ثم تغيب فيها حذرة مراقبة، وكنت مطرقًا رأسي وكأني أحادث الثرى في شأن هذه الرحلة إلى منتزه ثادق البري بناء على دعوة كريمة من أخي الشيخ عبدالعزيز الغزي فرأيت في هذا المنتزه ما لا عين رأت، وسمعت من الحاضرين في هذا الاجتماع ما لا أذن سمعت، فمن المتحدثين من تحدث عن محافظة ثادق وما تشهده من نهضة شاملة في العمران والطرق في عهد هذه الدولة المباركة، وتظافر جهود المخلصين من أهلها وكونهم حملة بيرق التوحيد على عهد الملك عبدالعزيز رحمه الله، فهم:
هم المحسنون الكرَّ في حومة الوغى
وأحسن منه كرَّهم في المكارِم
وقد حضر هذا الاجتماع المبارك عدد من أهل البيان منهم الشيخ عبدالله الشدي الذي بدأ حديثه بالشكر للداعي ثم عن الملك عبدالعزيز رحمه الله وقال: كان الملك عبدالعزيز محباً لبلاد آبائه وأجداده، وكان لقناً أي ذكيًا يكتسب بسرعة، واشتعلت في قلبه النار وتصعدت أنفاسه وكثر قلقه وطال أرقه، فما اغمضت له عين قبل استعادة ملكه والقصة في ذلك مشهورة فاستعاد بلاده ووحد الكلمة، وقضى على الفتن ما ظهر منها وما بطن، وقال كلمته المعروفة: «اللهم إن لم يكن فيَّ خير لهذه البلاد وأهلها فارزقهم خيرًا مني»، فتحقق لهذه البلاد ما أراده، وتحقق لأهلها ما تمنوه.
أفي الرأي يُشبَهُ أمْ في السخاءِ
أمْ في الشَّجاعَةِ أمْ في الأدبْ
مُبارَك الاسمِ أغرَّ اللقَبْ
كَريمُ الجِرشّى شَريفُ النَّسبْ
ليس يشبهه أحد من الموك في شيءٍ من هذه الأوصاف، محبوب مطلوب، ولأنه سُمي على والد عمر الإمام المعروف وقد اشتهر هذا الاسم فهو أغرُّ متعالم مشهور أبلج، كريم في نفسه ونسبه، فهو رحمه الله إذا جمع مالاً لا يسر منه بما يدخر، ولكن بما يهب، وإذا لاقى الأعداء:
ثقيلٍ إذا لاقى خفيفٍ إذا دُعِي
كثيرٍ إذا اشتَّد قليلٍ إذا عُدا
ثم تحدث بعد ذلك الشيخ سليمان بن فالح الفالح من وجهاء مركز (حرمه) التابع لمحافظة المجمعة، فقال: من يشك في جهود وجهاد الملك عبدالعزيز فهو شاك في فرع من فروع الدين المجمع على تحريم مخالفته، رضيه الله لديننا فرضيناه لدنيانا، اختاره الله ملكًا لبلادنا، حسن المأخذ، دقيق المنفذ، متمكن البيان، مرهف اللسان والسنان، جليل الحلم، واسع العلم، شديد الاحتمال، وفي الخصال، محمود الخلائق، مكفوف البوائق، نبيل المداخل، مصروف الغوائل، واضح المعاني، عارف بالأماني، طيب الأخلاق، سري الأعراق، مكتوم السر، كثير البر، صحيح الأمانة، مأمون الخيانة، كريم النفس، نافذ الحس، صادق الحدس، مضمون العون، كامل الصون، مشهور الوفاء، معروف بالنقاء، ثابت القريحة، مبذول النصيحة، مستيقن الوداد، حسن الاعتقاد، صادق اللهجة، خفيف المهجة، عفيف الطباع، رحب الذراع، واسع الصدر، متخلقًا بالصبر، يألف الاخلاص، ولا يعرف المناص.
انت الذي لو يعاب في ملأٍ
ما عيب إلا بأنه بَشَرُ
فالله صوره بشرًا وجعله غاية للناس تنتهي إليها كما لا تهم بأسرها وكان خَلْقُ الملك عبدالعزيز آية من خوارق العادات تنتفي بها ظنون الناس فيه، فلا تقع على حقيقة كنهه فلا يقاس بغيره، لأن الشيء إنما يقاس بمثله ولا مثل له.
ثم تحدث بعد ذلك صاحب الدعوة الأديب الشيخ: عبدالعزيز بن محمد الغزي ورحب بالحضور وتحدث عن الملك عبدالعزيز حتى قلنا ليته لم يسكت وكأنه يتكلم عن قصة خيالية لا حقيقية لأن الحديث عن الملك عبدالعزيز لا يجيده إلا مطلع فاهم حذق مثل مضيفنا فقال عن الملك عبدالعزيز:
فلو كان حيا في الحياة مخلدًا لخلدت لكن ليس حي بخالد فلو جاز أن يخلد إنسان لخلد لوحده لما اجتمع فيه من الفضل والشجاعة والدين، لكن الدنيا لا تخلد أحدًا والا لخلدته أفعاله فبلغ رحمه الله من الهيبة أن الجماد يخافه ويعرفه فالسيف يحيد عنه ويميل ويقصر من أن يناله مع حدته هيبة من الملك عبدالعزيز فالأبطال في الحروب تريده فلا تجترئ على ملاقاته، وموت العظيم يعظم عند الله مع فشو الموت وعمومه يقول الحسن البصري:
«ما رأيت حقًا أشبه بباطل من الموت» فرحم الله الملك عبدالعزيز مات وهو في حالة من العز المتطاول والملك الكامل.
فأسأل الله أن يسقي قبره برحمة تفضل السحب فيضا كما كان عطاء كفه يفضل عطاء الأكف سخاء
ولا يستغيث إلى ناصرٍ
ولا يتضعضع من خاذلِ
فهو رحمه الله مستغن بالله ثم بقوته وشجاعته عمن ينصره فلا يستنصر أحدًا مستغيثًا إليه ولا يجزع ولا يستكين من خذلان أحد لأنه من نفسه الكبيرة في جيش.
وعُدتَ إلى بلادك ظافرًا
كعود الحلي إلى العاطل
فعاد الملك الفاتح عبدالعزيز إلى موطن آبائه وأجداده كما تعود الحلي إلى من لا حلي لها فزينة بلاده به وبأبنائه وأحفاده من بعده فالأعداء معه كمن يريد أن يقتحم لجة البحر والموج يغمره في ساحله فهم يتعرضون للصعب الكبير وهم عاجزون عن السهل الصغير فلا يركب الأهوال غيره أحد ووصل بسيفه إلى ما كان يؤمله وهو أمضى من السيف في بلوغ آماله.
إذا قيل رفقًا قال للحلم موضع
وحلم الفتى في غير موضعه جهل
فما اجتمع لأحد ما اجتمع للملك عبدالعزيز، فكفه كالبحر وقلبه وعضده كالأسد ووجهه كالبدر.
ولله سر في عُلاك وإنما
كلام العدا ضرب من الهذيان
ثم دعاء للملك عبدالعزيز على جهوده وجهاده وأن يحفظ لهذه الأمة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان فمن شابه أبه فما ظلم.
وختم حديثه عن منتزه ثادق الوطني وما فيه من أنواع الأشجار وعن الجبل المحيط بالمنتزه وجماله وجمال مدرجاته وجلساته الطبيعية وشكر القائمين عليه ودعا لهم.
ثم تحدث ابنه عبدالله أحد رجال الأمن وقال: نحن في نعمة عظيمة من الأمن والإيمان والمحافظة عليها من أوجب الواجبات على الجميع ووجه شكره لوالده على هذا الاجتماع المبارك، وللحاضرين ثم طُلب مني الحديث فقلت: ليس بعد حديث من سبقني حديث وإنما أنا كجالب ماء زمزم على أهل مكة، وأقول: الملك عبدالعزيز أشجع من الرمح والسيف.
إذا لم يكن أمضى من السيف حامل
فلا قطع أن الكف لا السيف تقطع
فالرمح والسيف لا يعملان ولا ينفعان بدون الأيدي الطاعنة فإذا اجتمع السيف واليد حسن أثرهما وعلا شأنهما وبلغا غاية العز والمجد.
وقبل وصولي إلى مكان الاجتماع، قلت في نفسي: لعلي أطلع على معالم ثادق الأثرية وقد حدثني عنها صديق عزيز وإني لأظنه من الصادقين، فمررت بثادق القديمة وإذا هي كما قيل لي وتزيد، فأهلها مخلوقون من طينة المكارم:
هم الناس إلا أنهم من مكارم
يغنى بهم حضر ويحدو بهم سفر
فهم أهل الحقيقة، والحقيقة ما يحق على الرجل من حفظه للجار والحليف والولد، فهم حماة الحقيقة.
رأيت شيخًا مسنًا وقد جلس على عتبة باب بيت من الطين وسلمت عليه في رأسه وطلبت منه أن يحدثني عن بلد ثادق قديمًا فدعاني للضيافة.
فقلت له: أشكرك يا أبتي فأنا على عجل فاعذرني فألح علي بالدعوة وقال: لو علم الإنس والجن بأني قد عذرتك وسامحتك لغضبوا علي أشد الغضب فأجبته وأنا على عجل فاستدعى الخادم وهيأ ما يلزم لمثل ذلك وقلت له: يا أبتي حدثني عن ثادق القديمة وليتني لم أسأله ذلك حيث بدأت عليه أمارات الحزن وخالجته العبرات وقال أي بني:
وما كنتُ إلا السيفَ لاقى ضريبةً
فقطعها ثم انثنى فتقطعا
فالرجل من أهل ثادق يقدم على كل عظيم إلا على الفرار عند ملاقاة العدو فهو أهول عنده من كل هول، ويقدر على كل صعب إلا على أن يزيد على ما هو عليه من علو الشأن وجلالة القدر، فإنه لا غاية له من ورائه، ثم تابع حديثه فقال: يا بني إن البين يولد الحنين والاهتياج والتذكر ثم أورد هذا البيت من الشعر بعد أن سبقه بآهات وزفير:
سلام على دار رحلنا وغودرت
خلاء من الأهل موحشة قفرا
ثم تابع حديثه وقال: ثادق القديمة وقد محيت رسومها وطُمست أعلامها وخفيت كثير من بيوتها القديمة وغيرها البلى وصارت مهدمة بعد العمران ومزارعها القديمة أصبحت موحشة بعد الأنس، وخرائب متقطعة بعد الحسن وشعاب مفزعة بعد الأمن.
وفي هذه الآثار النائية والنواحي البعيدة وقد فرقتهم يد الجلاء ومزقتهم أكف النوى وخُيَّل إلي بقاء هؤلاء الليوث، وامتلاء تلك الأبنية من غير أهلها وأوهمت سمعي صوت طيورها وصدى جبالها بعد حركة تلك الجماعات التي عاشت فيها وكان ليلها كنهارها في انتشار ساكنيها والتقاء أهلها والآن عاد نهارها كليلها في الهدوء والاستيحاش فأبكى عيني وأوجع قلبي وقرع صفاء كبدي وزاد في بلاء لبي.
أطار هواهم القلب عن مستقره
فبعد وقوعٍ ظلَّ وهو يحوم
ثم تابع حديثه وقال: دعني أخبرك أني أحد من دُهي بفادحة الفراق، وتعجلت له هذه المصيبة فمات كثير من الأحباب والأصحاب، والموت يا بني هو الذي لا يرجى له إياب، وهو قاصمة الظهر، وداهية الدهر، وهو قاطع كل الرجاء، وماحي كل طمع، والمؤيس من اللقاء، ثم تمثل بعد وجد وتوجد.
فلو ساعدت حالتي همتي
لكنت ترى غير ما قد ترى
وتوجهت إلى ثادق القديمة ورأيت بيوتها المتهدمة، وأزقتها الضيقة ومقاصيرها المنمقة ذات الخروق المتعددة في أعلاها والضيقة في فتحاتها لمحاربة الأعداء قديمًا، ثم توجهت إلى بعض بساتينها القديمة ذات النخيل الشاهقة والمنحنية وكأنها تحيي القادم، وقلت يا ثادق:
ومن ذا الذي يقضي حقوقك كُلِّها
ومن ذا الذي يُرضي سوى من تُسامحُ
إن حقوقك أكثر من أن يقدر أحد على القيام بقضائها، ومن ذا الذي يرضيك بقضاء حقوقك غير الذي تسامحه وتتساهل معه؟
هذه محافظة ثادق، أقول الحق وإن كنتُ من غير أهلها، أما أهلها الكرام فأقول لهم:
قومٌ إذا اسْوَدَّ الزمانُ توضَّحُوا
فيه وعُودِرَ وهو منهم أبلق
وفي طريقي إلى الرياض عائدًا قابلت أحد المتنزهين وسألته عن سبب مجيئه إلى منتزه ثادق فقال: يا أخي أنا أحب المجيء إلى هذا المكان لأنه يجمع بين القديم والجديد فإذا أردت السياحة في غيره ذهبت إليه إذ ليس من سبيل إلى تركه فما لي ذهاب عنه إلا إليه ثم تمثل قائلا:
وما كنتُ لولا أنت إلا مُهاجرًا
له كلَّ يومٍ بلدة وصحابُ
ولكنَّكَ الدنيا إليَّ حبيبةٌ
فما عنكَ لي إلا إليكَ ذهابُ
فشديت على يده مودعًا وقلت له: صدقت يا أخي أما سمعت قول الشاعر:
لنا جبل يحتله من نجيره
منيع يرد الطرف وهو كليل
رسا أصله تحت الثرى وسما به
إلى النجم فرع لا يُرام طويل
ثم شكرت الداعي والحاضرين والقائمين على هذا المنتزه وأرى ما يلي:
1 - المحافظة على المنتزها من الأيدي العابثة.
2 - عمل جلسات منظمة ومزودة بالماء والكهرباء.
3 - عمل دورات مياه للرجال والنساء.
4 - تقليم الأشجار وتهذيبها وسقيا المحتاج منها.
5 - السماح للمستثمرين باقامة محطات وقود ومزودة بجميع ما يلزم لخدمة المتنزهين.
6 - حماية المنتزهات من العبث بالأشجار وكذلك من الرعاة.
7 - عمل سياج لحماية كل منتزه وعمل ممرات للسيارات وخصوصا في المنتزهات البرية.
8 - إقامة جامع للجمعة للترغيب فيه.
9 - جعل رسم رمزي للعناية به.
10 - الإضاءة الكافية لكل جلسة.
11 - زيارة المنتزه بين الفينة والأخرى من رجال أمن.
وأخيرًا أشكر أخي الشيخ عبدالعزيز وأقول له:
غدا لناس مثليهم لا عدمته
وأصبح دهري في ذراه دهورا
وإلى اللقاء والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
** **
رئيس محاكم جازان - رئيس محكمة استئناف - عضو مجلس القضاء سابقًا