الأعلام والرموز من بلدة الشنانة كثيرة ومن أُسر متعددة وكثيرة، لكن قصور التدوين التاريخي كان واضحاً أكثر بحق تاريخها وأهاليها، كيف وبعض هذه الرموز ممن أسهم بالتوطين الفكري والعمراني لبعض القبائل والعشائر على الدين ووحدة البلاد بعقيدة السلف على يد الملك عبدالعزيز -رحمه الله- وتاريخ هذا التوطين مما يتوافق زمنياً مع الفترة التاريخية الثالثة لبلدة لشنانة بعد فتح الرياض عام 1319هـ، حيث كانت سنة قطعة الشنانة عام 1322هـ وما تلاها من معركة، وهنا عرض يسير عن أحد هذه الرموز وجهوده المتعدي نفعها.
هو المطوع محمد بن صالح بن محمد بن خليفة بن عبدالله الخليفة -رحمه الله- من عائلة الخليفة سكان الشنانة، وهم من المشارفة الوهبه بني تميم. وكانت ولادة المطوع محمد بالشنانة نحو عام 1333هـ، وقد تعلم بعض العلوم الشرعية على يد نخبة من علماء الرياض في عمره المبكر كما هي رواية ابنه الشيخ عبدالله، واشتهر بالإمامة كمطوع في بعض الهجر والقرى، وفي الثلث الأخير من عمره استقر في الرياض ليكون إماماً في مسجد مطار الرياض القديم منذ عام 1383هـ وذلك على مدى عقدين من الزمن أو تزيد، ثم انتقل إماماً في مسجد آخر بالرياض، وعُرف بالاحتساب وعلاقته الجيدة برجال الحسبة والدعوة وبعض علماء الرياض.
ويُعدُّ المطوِّع محمد من المطوِّعين الذين ذهبوا إلى بعض الهجر والبلدات ونفع الله بهم كثيراً في تطويعهم الناس للدين والعلم، وهذا التعليم والدعوة التي قام بها من النفع المتعدي، وقد جَمَعَت شخصيته بين العمل الدعوي والتطوعي، فكان مجاهداً بالدعوة والتوعية مع حملة الأمير فيصل -رحمه الله- عام 1352هـ، وكانت هذه الحملة أو الحرب لتثبيت الحدود أو ترسيمها بعد توحيد البلاد.
كما أنه أسهم بالدعوة والتعليم حينما كان مرشداً ومطوعاً في بلدة (قُديد) في الحجاز، وقديد هو وادٍ يقع في محافظة خليص التابعة لمنطقة مكة المكرمة وهو أحد مراكزها الإدارية، وقد استقر هناك نحو ستة عشر عاماً معلماً وداعياً ومحتسباً الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولما سبق من القول فإن للمطوع محمد بن صالح الخليفة جهوداً مباركة تعدى نفعها ليس في الإمامة في المساجد فحسب، وإنما بالمشاركة بالدعوة والتعليم والاحتساب، ثم بالمشاركة في التوعية الدينية مع إحدى الحملات العسكرية -كما سبق-، فهو بهذا رمز من رموز الشنانة ممن قدَّم الكثير خارج بلدته.
وكانت التوعية الدينية والدعوة إلى الخير والمعروف من مقومات القوة للدولة الناشئة ووحدتها الفكرية والثقافية، وأهمية قوَّتها بهذه الوحدة، وتتأكد هذه الأهمية أكثر بحق أيديولوجية القوة العسكرية الجهادية للإمام عبدالعزيز -رحمه الله- وجنده زمن التأسيس، ثم بمكونات الجيش السعودي فيما بعد جند التطوع، وذلك حينما أصبح لهذا القطاع رجال وإدارات معنية بالدعم الإيماني والنفسي والشرعي لتعزيز العقيدة القتالية ومفاهيم البيعة والسمع والطاعة، وبهذا تعمل معظم الجيوش العالمية كقوة مساندة لجيوشها بأفكارها وعقائدها وهو ما يُسمى بمصطلحات العصر (الأيديولوجيا الفكرية السياسية للدول) أو (الدعم اللوجستي) عند بعض الدول، وقد كان للمطوع محمد الصالح الخليفة شرف الشراكة في هذا الميدان.
وقد كَتَبَ عنه ابنه الشيخ عبدالله بن محمد الصالح الحسحوس الخليفة -رحمه الله- وذلك لكاتب هذه السطور حول دوره المجتمعي، بل عن أحوال الناس في أزمنة مضت واهتمامهم بالعلم والمعرفة والدعوة واحتياجهم إليها، وكان مما قال: «إن والده قد عاش الحياة العلمية والتعليمية بمسجد الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- في الرياض، ومن فقه الملك عبدالعزيز -رحمه الله- وحرصه على نشر التوحيد خاصة بعد ضم الحجاز، أنه استجاب لطلب الشيخ محمد بن إبراهيم تعيين وإرسال بعض طلبة العلم لتكليفهم بالدعوة والإرشاد، فكان والدي من هؤلاء.. وكان للوالد نصيب من النشاط والمشاركة في بعض الحروب والعلم والدعوة، فقد كان مع الملك فيصل في حرب اليمن حتى دخلوا الحديدة مع الإخوان، ويُلحظ أنه بعد فتح الرياض واستقرار الأمر بدأت الدروس العلمية، ثم هاجر الناس من بلدانهم البعيدة من أنحاء المملكة إلى الرياض لطلب العلم ثم لطلب العمل، وكان والدي واحداً من الراغبين في طلب العلم، وكانوا سبعة رجال يستأجرون جملاً واحداً ليحمل أمتعتهم، أما الركوب فلا يفكرون فيه، بل إنهم يسيرون على الأقدام من القصيم إلى الرياض».
كما كَتَبَ عنه ابنه عبدالله كذلك حول عمل والده وجهوده قبل انتقاله من الحجاز (قُديد) وبعدها، فقال: «ذهبت أنا وأخي صالح إلى الشيخ عمر بن حسن رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطلبنا منه السعي لنقل الوالد من (قديد) إلى الرياض، حيث كَبُر سنه وهو بحاجة لخدمتنا له فتم ذلك -بحمدلله-، وقد كُلِّف الوالد بالعمل في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حي مطار الرياض القديم، إضافةً إلى إمامة وخطبة مسجد المطار، وقد ثَقُلَ الوالد عن الخطابة فتطوع لصلاة الجمعة الشيخ صالح اللحيدان فترة من الزمن».
أجداده بالشنانة ومكانتهم:
تُعدُّ عائلة الخليفة ممن استوطنوا الشنانة عام 1200هـ، وكان توسع مزارعهم أكثر خاصةً بعد قطعة ابن رشيد لنخيل الشنانة وهي الفترة التاريخية الثالثة بعد عام 1322هـ، وعُرفت العائلة بدورها الزراعي والتنموي بالشنانة وبالذات بعض قراها أو مزارعها الحديثة، ومن هؤلاء مؤسسو مزارع قرية الريدين كما هو معروف عن (العُزيِّز) من الحسحوس الخليفة وأبو شلق الخليفة وكذلك عائلة المجاهد، وذلك نحو عام 1351هـ في الفترة التاريخية الثالثة للشنانة حسب ما ورد حول نشأة «الريدين» في كتاب مساجد الرس وأطرافه.
وقد عدَّد الأستاذ سليمان الرشيد عوائل الشنانة القدامى قبل عام 1200هـ، ثم بعد ذلك عدَّد عوائل الشنانة الذين وصلوا إليها فيما بعد عام 1200هـ وكان من هذه العائلات عائلة الخليفة، وذلك بقوله: «ثم بعد ذلك في الربع الأول من القرن الثالث عشر استوطنت فيها أسرة البلاع من الصيخان، والخليفة، والمساعيد، والسلومي، والقريش. وأما في الوقت الحاضر فأغلب سكان الشنانة من أسرة الخليفة، وقد ارتبط ذكر الشنانة مؤخراً بأسرة الخليفة». (مساجد الرس وأطرافه، ج2/ص 610)
ولعموم العائلات والأسر بالشنانة على مدى تاريخها الطويل مكانتها الاجتماعية أو التنموية الاقتصادية، ولبعضها الرمزية التاريخية بالأحداث ذات الأهمية، كما أن لبعضها الآخر الرمزية العلمية والتعليمية أو الدعوية، وقد كان لعائلة المُترجَم عنه مكانتها الاجتماعية ودورها التنموي الزراعي، حيث أسهمت عائلة الخليفة مع غيرها من العائلات في إعادة العمران والزراعة لقرية البلطانية بعد تأسيس البلطان لها ثم تدمير ابن رشيد لها بقطع نخيلها، وكذلك الحال مع قرية البلاعية التي أسسها البلاع ثم قطع نخيلها ابن رشيد سنة القطعة، فكان لعائلة الخليفة دورهم التنموي الزراعي البارز في إعادة الحياة الزراعية للبلاعية بعد قطع نخيل ابن بلاع.
وللعائلة مكانة اجتماعية مع غيرهم من وجهاء الشنانة، وذلك من خلال حضورهم في الأحداث الاجتماعية والاقتصادية للبلدة، وذلك في الفترتين التاريخية الثانية (1200- 1322هـ) والثالثة فيما بعد سنة القطعة 1322هـ، ومن ذلك الوجاهة المالية لـ»سليمان الخليفة المنيع»، ويَدُل عليها كثرة المداينات لبعض مزارعي الشنانة وغيرهم، وهو ما يكشف عن دور سليمان بن خليفة وجهوده في التنمية الزراعية في تلك الفترة التاريخية الثانية للشنانة حينما كان مقطر نخيل السليمان بالشنانة القديمة، كما هو مدوَّن في بعض الوثائق خاصةً ما كتبه كاتب الوثائق سليمان بن فلاح والكاتب الآخر رميح بن سليمان الرميح عن المداينات والمبايعات، وهؤلاء كانوا من أعيان الشنانة وأئمة مساجدها ومن أبرز رموزها وكُتَّاب وثائقها آنذاك.
ومما يمكن أن يُعدَّ من وجاهة العائلة في البلدة أن منهم من كان من أبرز أعيان ورموز البلدة لا سيما في فترتها التاريخية الثالثة بعد قطعة ابن رشيد للشنانة، حيث كانت مخاطبة أشهر أعيان الشنانة ووجهائها آنذاك من قبل قاضي الرس محمد بن عبدالعزيز الرشيد حينما خاطب أهل الحل والعقد بالبلدة حول بناء قريتهم المسماة (الجُديِّدة) عام 1358هـ، وكانوا ثلاثة أعيان ووجهاء من الرجال، وهم: عبدالله المحمد الخليفة وسليمان بن ناصر السلومي، وخليفة المنيع الحسين.
ويلحظ بأن المطوع محمد لم تُترجم عنه ترجمة كافية تعبِّر عن شخصيته وأعماله سوى ما استكتَب به كاتب المقال من ابن الشيخ، وهو عبدالله بن محمد الصالح الحسحوس الخليفة -رحمه الله- الذي يُعدُّ هو الآخر من رموز الشنانة والخرج، بل إنه من أعلام بلدته كذلك، وقد كان عميداً لأسرته فترةً معينة من الزمن، وهو المتوفى عام 1442هـ، وكان قد تربى على يد والده فأصبحت له إسهامات مشهودة من الشراكة في أعمال الخير والبر بمؤسساتها وجمعياتها، ولهذا فإن الابن ثمرة من ثمرات والده المباركة، وتوفي المطوع محمد بالرياض عام 1420هـ رحمه الله، وللمطوع محمد من الأبناء ثمانية وهم: صالح وعبدالله وعبدالرحمن وخليفة وخالد وعبدالرحيم وعبدالعزيز وأحمد جعلهم الله خير خلف لخير سلف.
** **
- باحث في الدراسات التاريخية ودراسات العمل الخيري والقطاع الثالث
info@the3rdsector.org