د. تنيضب الفايدي
قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} (هود: 84)
يتفق كلٌّ من المفسرين والمؤرِّخين بأن مدين اسمٌ لقوم شعيب عليه السلام، لكن الخلاف وقع في تحديد موقعها، فذهب معظم الجغرافيين والمؤرِّخين إلى أن مدين هي التي تعرف اليوم باسم: (البدع أو مغائر شعيب)، علماً بأنه تم تتبع اسم مدين ولم تتكرر كثيراً كموقع لدى بعض المفسرين، ويصدر قريباً إن شاء الله كتاب حولها يثبت أن مغائر شعيب أو البدع هي مدين بعينها ولا يوجد موقع آخر غيرها تتوفر فيه الأدلة الكافية مثلها.
وقد ذهب البعض إلى أن مدين مدينة تقع بالقرب من مدينة معان في شرقي الأردن، من أطراف الشام مما يلي ناحية الحجاز وقريباً من بحيرة قوم لوط، بينما ذهب الآخرون إلى أن مدين تقع شمال خليج العقبة في بلاد فلسطين في قرية تسمى: (كفر مندا)، لكن الراجح أن مدين هي التي تعرف اليوم باسم (البدع أو مغائر شعيب) وهي بلدة بين تبوك وساحل البحر الأحمر على بعد 132 كيلاً غرب تبوك. وما يؤيّد ذلك هو آثارهم وبيوتهم وقبورهم، حيث تقع حالياً في محافظة البدع.
وشاع بين الناس أن المرأتين اللتين سقا لهما موسى عليه السلام هما ابنتا شعيب، وهذا خطأ إن كان قصد بشعيب النبي عليه السلام؛ لأن رسالة شعيب عليه السلام تمت قبل رسالة موسى عليه السلام بمئات السنين ولم يلتقِ شعيب النبي بموسى عليهما السلام نهائياً.
موقعها الجغرافي
تقع إلى الشمال الغربي من تبوك على بعد حوالي 225 كلم، وتعرف في المصادر القديمة والإسلامية باسم مدين، وتتميز بأرضها الزراعية الخصبة وتوافر المياه فيها، كما تمتاز المنطقة بالمناطق الطبيعية المحيطة بها المتمثلة بالشواطئ الخلابة والمتنوعة بقيال ورأس الشيخ حميد ومقنا، وهي واحة قديمة بها قبور منحوتة في الصخور، وترجع إلى العصر النبطي، وكانت البدع (مدين) محطة مهمة على طريق الحج المصري، وفيها مواقع أثرية كثيرة.
وكانت مدين في العصر الإسلامي بلدة عامرة كثيرة المياه والمزارع والبساتين، فقد وصفها اليعقوبي في القرن الثالث الهجري: «مدينة قديمة عامرة، بها العيون الكثيرة، والأنهار المطّردة العذبة، والأجنة والبساتين والنخل، وأهلها أخلاط من الناس». وفي القرن الرابع الهجري وصفها الاصطخري، وذكر أنها أكبر من تبوك. وفي أواخر القرن نفسه وصفها المقدسي، وذكر أن أرطال سكانها ورسومهم شامية مثل أيلة. وفي القرن السادس الهجري ذكرها الإدريسي وأشار إلى تدهور أوضاعها الاقتصادية، حيث ذكر: «أن بها معايش ضيقة، وتجارات كاسدة».
التسمية
مدين اسم قديم للبدع أو مغائر شعيب المسمى حالياً، أما في تسمية قوم شعيب بمدين ففيها قولان: أحدهما: لأنهم بنو مدين بن إبراهيم الخليل عليه السلام، فقيل مدين، والمراد بنو مدين، كما يقال مضر والمراد بنو مضر. الثاني: أن مدين اسم مدينتهم، فنسبوا إليها، ثم اقتصر على اسم المدينة تخفيفًا.
مدين في القرآن الكريم
جاء ذكر مدين في القرآن الكريم في العديد من المواقع، منها: قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } (سورة الأعراف الآية: 85).
كما جاء ذكر مدين في قصة موسى عليه السلام كثيراً لكن بدون ذكر النبي شعيب عليه السلام. قال تعالى: {وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} (سورة طه الآية: 40).
مدين والأيكة
قال الإمام ابن كثير: «وأصحاب الأيكة: هم أهل مدين على الصحيح، والصحيح أنهم أمة واحدة، وصفوا في كل مقام بشيء، ولهذا وعظ هؤلاء وأمرهم بوفاء المكيال والميزان، كما في قصة مدين سواء بسواء، فدل ذلك على أنهما أمة واحدة..
بينما ذكر بعض المفسرين بأن أصحاب الأيكة غير قوم شعيب (أصحاب مدين) ولذلك لم ينسب إليهم في القرآن الكريم، حيث قال: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} وقد أرسل مرتين، مرة إلى مدين حيث أهلكوا بالصيحة، ثم أرسل إلى أصحاب الأيكة وهم قوم آخرون، فأهلكوا بالظلة.
وذهب بعض المفسرين بأن أصحاب الأيكة فريق من قوم شعيب عليه السلام غير أهل مدين، فأصحاب مدين هم سكان الحاضرة، وأصحاب الأيكة هم باديتهم.
لكن القول الراجح هو ما ذهب إليه ابن كثير رحمه الله، بأن أصحاب الأيكة هم أصحاب مدين، لأسباب كثيرة، منها:
أولاً: أن الأنبياء إنما تبعث في أقوامها؛ لأن القوم سيكونون أفهم لقول النبي من قول غيره، وأعرف بحاله في صدقه وأمانته وشرف أصله.
ثانياً: لمعرفة النبي بلسان قومه، تصديقاً لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}.
ثالثاً: أن ما جاء في سورة الشعراء من وصف لأصحاب الأيكة، إنما يتفق ما جاء في غيرها من وصف لأهل مدين، مما يدل على أن أهل مدين إنما هم أنفسهم أصحاب الأيكة.
رابعاً: أن أنواع العقاب التي أنزلها الله سبحانه وتعالى بالقوم، لا تعني أقوام عدة، وإنما تعني أن الله قد أخبر عنهم في كل سورة بما يناسب سياقها، ففي سورة الأعراف رجف القوم نبي الله وأصحابه وتوعدوهم بالإخراج من قريتهم أو ليعودن في ملتهم، فقال تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ}، فقابل الإرجاف بالرجفة، وأما في سورة هود فذكر أنهم أخذتهم الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين، وذلك لأنهم قالوا لنبي الله على سبيل التهكم والاستهزاء {أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}، فناسب أن يذكر الصيحة التي هي كالزجر عن قول ما قالوا، ومن ثم فقد جاءتهم صيحة أسكنتهم مع رجفة أسكنتهم، وأما في سورة الشعراء فذكر أنه أخذهم عذاب يوم الظلة، وكان ذلك إجابة لما طلبوا، حيث قالوا {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاء إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}، ومن ثم يقول سبحانه وتعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}.
خامساً: أن وصف شعيب في سورة الأعراف بأنه أخو مدين وعدم وصفه بذلك في سورة الشعراء عند الحديث عن أصحاب الأيكة، فالرأي عند ابن كثير أنه لم يذكر الأخوة بعد قوله تعالى: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ}، لأنه وصفهم بعبادة الأيكة، فلا يناسب ذكر الأخوة هنا، وحين نسبهم إلى القبيلة شاع ذكر شعيب بأنه أخوهم.
ويقول الجاسر رحمه الله: «إن المراد بأصحاب الأيكة أهل مدين، ومدين وتبوك متجاوران، و لا يزال يطلق اسم الأيكة على واد من روافد وادي عفال، في المنطقة المعروفة باسم بلاد مدين، والتي فيها آثار مغائر شعيب وغيرها.
مصير أهل مدين
شعيب عليه السلام هو النبي المرسل إلى أهل مدين، قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} فدعاهم إلى توحيد الله بالعبادة، ونهاهم عن الرذائل مثل: التلاعب بالمكاييل والموازيين في الأخذ والعطاء، كما نهاهم عن الفساد في الأرض والعتو فيها، وقطع الطريق، لكنهم كذّبوا، وسخروا واستهزؤوا، بل هددوه بالطرد والإخراج والتهجير قال تعالى: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} فأنذرهم شعيب عليه السلام بالعذاب، لكنهم تمرّدوا بل زادوا في تهديدهم بالقتل،فدعا ربه أن يفتح بينه وبينهم بالحق قال تعالى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ}، فأهلكهم الله سبحانه وتعالى بأنواع مختلفة من العذاب (الرجفة، الصيحة، عذاب يوم الظلة) كما جاء في القرآن العظيم.
موسى عليه السلام ومدين
ذكر القرآن الكريم قصة خروج موسى عليه السلام من مصر إلى مدين هارباً من فرعون وملئه حتى وصل إلى ماء مدين، فأسقى من البئر أغنام امرأتين ثم مكث في مدين بعض السنين. قال تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
مصاهرة موسى وشعيب عليهما السلام
هل صاهر موسى شعيباً النبي عليهما السلام؟ كما شاع بين الناس، يقول الله تعالى: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} سورة القصص الآية (27-28).
اختلف المفسرون وأصحاب السير في هذا الرجل الذي استأجر موسى على أربعة أقوال:
أحدها: إنه شعيب نبي الله صلى الله عليه وسلم وعلى هذا أكثر أهل التفسير. الثاني: إنه صاحب مدين واسمه يثرى. الثالث: رجل من قوم شعيب. الرابع: إنه يثرون ابن أخي شعيب. وكلّ منهم يستدلون بأدلة، لكن الصحيح أنه رجل غير النبي شعيب عليه السلام لطول الفترة الزمنية بينهما، فلم يلتقيا في زمان واحد البتة، والقول الفصل في ذلك والله أعلم قول الله تعالى في سورة الأعراف {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا}، لقد قطع قوله تعالى {مِنْ بَعْدِهِمْ} بأن موسى عليه السلام وُجِد في زمان آخر «بعد» زمان شعيب عليه السلام، وأكد طول الفترة الزمنية بينهما بالحرف «ثُمَّ» في صدر الآية، فدل ذلك على أن الذي استأجر موسى وزوَّجه ابنته كان رجلاً آخر غير شعيب النبي عليهما السلام.
مدين وسرية الرسول صلى الله عليه وسلم
مدين كان اسمها معروفاً في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ضميرة مولى علي بن أبي طالب، وأخ له، فأصاب سبياً من أهل ميناء، فبيعوا ففرق بينهم الأمهات والأولاد، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم وهم يبكون، فقال: «ما لهم»، فقيل: يا رسول الله ، فرق بينهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تبيعوهم إلا جميعاً».
مدين والمؤرِّخون
ذكرها أكثر المؤرِّخين، يقول الحموي: «ويقال إن أصحاب الأيكة الذين بعث إليهم شعيب عليهم السلام كانوا فيها ولم يكن شعيب منهم، وإنما كان من مدْين، ومدينُ على بحر القلزم على ست مراحل من تبوك. ويقول ابن إسحاق في ذكر غزوة تبوك: «ومدين على بحر القلزم على ست مراحل من تبوك، وتبوك بين جبل حسمى وجبل شرورى وحسمى غربيها وشرورى شرقيها». ويقول العباسي: «يقال إن أصحاب الأيكة الذين بعث إليهم شعيب عليه السلام فيها كانوا فيه، ولم يكن شعيب منهم وإنما كان من مدين ومدين على بحر القلزم على ستة مراحل من تبوك، وتبوك على اثنتي عشرة مرحلة من المدينة». ويقول الحميري في الروض المعطار: «ويقال إن أصحاب الأيكة الذين بعث إليهم شعيب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا بها، وكان شعيب من مدين وتبوك أقصى أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم». وقال الفيروزآبادي: «ومدين على بحر القلزم على نحو ست مراحل من تبوك، وتبوك: على اثنتي عشرة مرحلة من المدينة». وقال السمهودي: «ومدين على بحر القلزم على نحو ست مراحل من تبوك. ويقول حمد الجاسر: «مدين على بحر القلزم على ست مراحل من تبوك، وتبوك بين جبل حسمى وجبل شرورى، وحسمى غربيها وشرورى شرقيها».
مدين والرحالة
كما ذكرها كثيرٌ من الرحالة المسلمين والغربيين، يقول الإدريسي عام 560هـ: «وعلى ساحل بحر القلزم مدينة مدين، وهي أكبر من تبوك وبها البئر التي استقى منها موسى عليه السلام لسائمة شعيب، ويحكى أنها بئر معطلة، وقد عمل عليها بيت وماء أهلها من عين تجري إليهم، وسميت مدين بالقبيلة التي كان منها شعيب، وبها معايش ضيقة وتجارات كاسدة. ومن مدينة مدين إلى أيلة خمس مراحل، ومن أيلة إلى الجار نحو من عشرين مرحلة، ومن مدين إلى تبوك في البرية شرقاً ست مراحل».
وقال العياشي (ت1090هـ) عن مغائر شعيب: «ثم ارتحلنا من هناك وسرنا يومنا في هبوط منحدر مع الوادي، لا نفارقه إلى أن نزلنا في المكان المسمى بمغائر شعيب عليه السلام، عند العصر، ماؤها طيب جداً حلو خفيف نافع، وتسوقنا بها أعراب مدين بأحمال كثيرة من العنب الجيد الأسود، وهو في غاية الحلاوة، وجاءوا برمان كثير، واشترى الناس العنب أولاً بدرهمين، ثم صار بعد ذلك رطل ونصف بدرهم».
ويقول ابن عبد السلام الدرعي المغربي: «... ونزلنا مغائر شُعيب، والعرب تقول له البِدع، وقد مضى من النهار بعده ساعة وثلث، وهو وادٍ ذو مياه دافقة عذبة إلى الغاية، باردة إلى النهاية، جارية في نخيل بطرف الغاية، وتسوّقنا به أعرابُ مدين يدعون العميرات وغيرهم بتمر وغنم وغيرها من المحتاج. قال الشاعر:
قد وصلنا إلى مغار شعيب
فرأينا المياه كالأنهار
فاستقينا من مائه واشتفينا
وظفرنا بغاية الأوطار
وذكرنا بغاره غار ثور
من حوى للصديق والمختار
خير من انْزل الإله عليه
(ثاني اثنين إذ هما في الغار)
أما الرحالة الغربيون فقط تقاطروا على زيارة منطقة البدع (مدين) منذ أوائل القرن التاسع عشر، وأول من زار مدين ريتشارد بيرتون عام 1877م، ثم زار ألويس موزل منطقة البدع حالياً عام 1910م ، كما زار الرحالة جون فلبي أرض مدين، وكتب مشاهداته في كتاب بعنوان (أرض مدين).
مدين وطريق الحج
اشتهرت فترة من الزمن فمنذ بداية الدولة الإسلامية ارتبط ماء مدين بحجاج مصر ومن جاء من ناحيتهم. حيث أشار إليه كلٌّ من الحربي في كتابه المناسك وأبو عبيد البكري في كتابه المسالك والممالك، كما أشار إليها ابن خرداذبة وهو أقدم الجغرافيين المسلمين عند ذكر منازل الطريق من مصر إلى مكة واليعقوبي وغيرهم.
المعالم الأثرية في مدين
تحتوي مدين عدداً من المعالم الأثرية مما يؤكد نجاح السياحة -بإذن الله. ومن تلك المعالم: مغائر شعيب، ديسة البدع، بئر السعيدني، آثار البرج والرديدة، نقش الملقطة، ميناء مقنا التاريخي وغيرها.
وأخيراً فإن مدين والأيكة اسمان لمكان واحد على القول الصحيح، مغائر شعيب والبدع حالياً هي مدين التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، وأن الذي صاهر موسى عليه السلام عند مكوثه في مدين هو رجل آخر غير النبي شعيب عليه السلام. ومدين مع عمق تاريخها فهي أحد أبرز المواقع الأثرية في وطننا الغالي، حيث تحتوي كهوفاً ومقابر منحوتة في الصخر تشبه مدائن صالح بمحافظة العلا، والغريب في الأمر أنها لم تتأثر بعوامل التعرية حتى بعد مرور ألفي عام، لذا احتلت مدين وجهة السياحة الأولى من قبل الزوار.