مشعل الحارثي
مع حلول أيام العيد السعيد التي نفتح لها قلوبنا بالبهجة والمسرات وبعد شهر حافل بالعبادات والطاعات، ووسط هذا العالم الهائج المائج بالمنغصات والمكدرات، وما يحيط بنا من مأسٍ وفواجع مؤلمات موجعات، وجب علينا أن نعطي للفرح والابتسامة حقها كمطلب أساس في هذه المناسبة السعيدة التي يلتئم فيها شمل الأسر والأحباب والأصدقاء فنزيح عن كواهلنا ووراء ظهورنا ولو لأيام أو لساعات تلك الجبال من الهموم ونرجي ذلك البؤس والعبوس الذي يتوسدنا ليل نهار ونبسط حواجبنا بالابتسامة الشفيفة النقية ونبتسم للعيد وللحياة ونضحك ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، فكل شيء إلى زوال ولا يبقى في أيام العمر إلا تلك الأيام والساعات التي عشناها في سعادة ومرح وشيء من السلوة والمزاح والفرح.
قلت ابتسم يكفيك إنك لم تزل
حياً ولست من الأحبة معدما
قال الليالي جرعتني علقماً
قلت ابتسم ولئن جرعت العلقما
فلعل غيرك إن راك مرنما
طرح الكآبة جانباً وترنما
وبالعودة إلى محكم الكتاب والتنزيل نجد أن الضحك والابتسام جاء في العديد من آياته الكريمات فقال المولى عز وجل في سورة عبس: (وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة)، وقال جل في علاه في سورة النمل: (فتبسم ضاحكاً من قولها)،كما أن الابتسام هدي نبوي وخلق سلفي كما ورد في الكثير من كتب السنة والأثر والمصنفات فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (يا رسول الله إنك تداعبنا قال: إني لا أقول إلا حقاً) وقال جرير بن عبدالله رضي الله عنه (ما حجبني النبي صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم في وجهي)، وكان صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه إذا رأى إقبالهم على الجد (روحوا القلوب ساعة بعد ساعة فإن القلوب إذا كلت عميت) أي مراوحة بين الجد والترويح عن النفس كون النفس البشرية بفطرتها ترتاح للمباح من اللهو والمزاح وتنفر من الملل الذي يورثها الأسى والجهامة والسأمة.
أخو البشر محبوب على حسن بشره
ولن يعدم البغضاء من كان عابسا
إن دواعي الضحك وكما حددها عدد من العلماء والفلاسفة القدماء لا حصر لها ولا عد إلا أن الابتسام وكما جاء في كتبهم التراثية القديمة يعد أول مراتبها ثم الاهلاس وهو إخفاؤه، ثم الافترار، والانكال وهما الضحك الحسن، ثم التكتكة وهي أشد من الافترار والانكال، ثم القهقهة، فالقرقرة، ثم الكركرة، ثم الاستغراب، ثم الطخطخة وهي أن يقول طيخ طيخ، ثم الإزهاق والزهزقة وهي أن يذهب به الضحك كل مذهب الخ...) من هذه المراتب إلى صور الضحك الأخرى من ضحكة الهزء والسخرية، إلى ضحكات التغامز، وضحكات الاستبشار والمباسطة، وضحك الفكاهة، وكان العرب إذا مدحوا قالوا: هو ضحوك السن، بسام العشيات، هش إلى الضيف، ذو أريحية واهتزاز، وإذا ذموه قالوا هو عبوس، كالح، قطوب، شتيم المحيا، كريه، مقبض، وحامض الوجه وكأنما وجهه بالخل منضوخ.
أروح القلب ببعض الهزل
تجاهلاً مني بغير جهل
أمزح فيه مزح أهل الفضل
والمزح أحياناً جلاء العقل
ولقد تعددت مسميات وأساليب إدخال السرور على الناس وتحريضهم على الابتسامة بداء من المفاكهة التي تشمل الممازحة والدعابة وهذه الأخيرة هي نوع من المزاح البريء الخالي من الخبث الداعي إلى الضحك الصادر عن ابتهاج النفس بالغبطة، وفيها قال العرب أدعب الرجل أملح أي قال كلمة مليحة وغرضها إشاعة المرح وترويح القلوب من سأم الجد فالنفس إذا ابتهجت أحبت وتواضعت وسمت روحها وترفعت عن حب المادة، وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: (من كان فيه دعابة فقد برئ من الكبر)، ويقول في موضع آخر (لا بأس بالمفاكهة يخرج بها الرجل عن حد العبوس).
اسمح يزنك السماح
إن السماح رباح
لا تلق إلا ببشر
فالبشر فيه الفلاح
تقطيبك الوجه جد
أجل منه المزاح
وجزى الله من كان وراء تلك النظرة السوداوية والمفهوم المعقد الذي تملك نفوسنا منذ أمد بعيد نحن العرب المشارقة عن الضحك وأنه يجب أن يأتي في أوقات محددة فقط، وأن الكثير منه يعد من قلة الأدب فأصبحنا عندما نضحك نشعر أننا مقيدون مكبلون بسياط تلك النظرة المجتمعية التي تلوكنا بسياطها النارية بلا رحمة ولا هوادة، ولعله لا يباري تلك النظرة مرارة وحسرة إلا تلك الأخرى التي ترى في الضحك شر مستطير وعواقبه تقود لأمر خطير وأنه مقدمة لحلول المآسي والكوارث، أو تلك التي تطلب منك كتم ضحكاتك لأنها تعد من الشطارة حتى لا يتشمت بك الآخرون تماشياً مع مقولة (الشاطر من يضحك أخيراً)، فقتلت مثل تلك المفاهيم المغلوطة في أنفسنا الضحك وحولته إلى شيء من المحظورات والمفسدات للهيبة والوقار كقولهم (العبوس وجاهة والتجهم هيبة) وكأنما المطلوب أن نكون كأصنام متحركة محظور عليها أن تتنفس طعم الحياة بوجهها المشرق النقي، وغاب عنهم أن الإنسان بطبعه لا يستطيع العيش حزيناً بائساً طوال الوقت فهو دائب البحث عن كل ما يساعده على نسيان همومه ومتاعبه.
إلا أنه مع تفشي هذه النظرة القاتمة للابتسام والضحك فإن عالمنا العربي أيضاً سجل حالات فريدة من الاهتمام بالضحك ورسم الابتسامة على الشفاه ووظفه لتخطي ما يمر به من ضغوط وأزمات وحالات الإحباط والإحساس بالظلم والجور والقهر فشاعت بين مجتمعاته المزحة والنكتة بكافة أشكالها الاجتماعية والسياسية، وانتشرت الأعمال الكوميدية والمسرحية، وكانت هناك المناسبات والملتقيات التي من أبرز ساحاتها المقاهي التي يجتمع فيها الناس والنخب المثقفة والأدباء والصحفيون والفنانون كمقهى (هافانا) في دمشق ومقهى(الزجاج) في لبنان التي كانت مقر للشاعر الساخر أحمد الصافي النجفي وفيها كانت تعد الرسوم الكاركتورية السياسية الجريئة لمجلة الصياد إبان الاحتلال الفرنسي للبنان والتي قادت رئيس تحريرها آنذاك سعيد فريحة للسجن، وكذلك مقهى تحت السور في تونس، ولا ننسى مقهى (المضحكخانة) أو كما يطلق عليه (بيت الضحك الكبير) في باب الخلق بمصر ومنه كان المصريون يطلقون النكات السياسية التي تسخر من قوات الاحتلال البريطاني مما حدا باللورد (كرومر) المندوب السياسي البريطاني في مصر آنذاك إلى تنظيم غارات دورية على هذا المقهى لاعتقال من يطلقون تلك النكات حتى وصل الحال إلى إغلاق (المضحكخانة) وازالتها من الوجود.
وفضلاً عما كتب في قديم الزمان من كتب تراثية تحدثت عن الضحك والفكاهة والمزاح إلا أن حقبة الاستعمار في عالمنا العربي صاحبها ظهور الكثير من الصحف والمجلات المتخصصة في النكتة والضحك والسخرية أو كما أطلق عليها البعض الصحافة المرحة فعلى سبيل المثال لا الحصر ظهرت في سوريا مجلة النديم، وصحيفة الراوي، والنفاخة، وأسمع وسطح، والسعدان، والمهاجر، والطبل، وحط بالخرج، والمضحك المبكي، والكلمة وغيرها، أما في مصر وشعبها الذي تخالج فكرته النكتة ويفعم قلبه مرحاً على الدوام فكانوا من أوائل من طرق هذا الباب في عالمنا العربي وفي العصر الحديث فصدرت بها مجلة أبو نظارة، والبعكوكة، وصحيفة الحمارة منيتي، والفكاهة، وكاريكاتير وغيرها ولم تغب النكتة من صحفها ومجلاتها وزوايا كتابها، وفي العراق صدرت مجلة حبزبوز، وكناس الشوارع، وجريدة البدائع، وفي تونس صدرت صحيفة الكاركوز التي تعني المهرج، وصحيفة المزعج وصحيفة النسناس، وصحيفة السرور، وصحيفة الشباب، وغيرها من أمثال هذه الصحف الهزلية الساخرة في عالمنا العربي والتي كانت تحمل بين طياتها إلى جانب الصور والرسوم الكاريكاتورية التي تطرز معظم صفحاتها النقد للأوضاع السائدة والظواهر المجتمعية المختلفة والمقاومة الصارخة للاستعمار الأجنبي، وقد تلاشت معظم هذه الصحف والمجلات الساخرة بزوال الاستعمار وتحول الصحافة العربية إلى مرحلة الرسمية والجدية الكاملة وأصبح المرح فيها شبه نادر رغم مطالبة البعض بأن يكون للصحافة المرحة أو الساخرة وجودها الدائم جنباً إلى جنب مع صحافة الخبر المثير الذي يهتم بالنوازل والكوارث والماسي والحروب والأشلاء الممزقة والجرائم والآفات وضحايا الأوبئة والأمراض والمجاعات التي تتصدر صفحاتها الأولى.
ولعله من اللافت للنظر إن الابتسامة أيضاً لم تعد فقط مفتاحاً للتفاؤل وطرد المشاعر السلبية وضخ الطاقة الإيجابية في النفوس وإسهامها الكبير في دفع المجتمع للعمل بجدية وروح معنوية عالية، إنما أصبحت مطلباً مهماً لتيسير الأعمال وتحقيق الرضا والتفوق والنجاح، وفي هذا السياق فقد سبق أن قامت دولتان كبيرتان هما فرنسا وهونج كونج بإجراء عدد من الدراسات ووزعت مئات الاستبانات لقياس مدى تأثير الابتسامة على زوارهما من السياح والقادمين إليهما فكانت النتائج صادمة لهما عند اكتشافهم أن من أهم أسباب تذمر وعزوف السياح عن معاودة الزيارة وتكرارها مرات أخرى فظاظة العاملين في المرافق والمنشآت السياحية وسائقي الأجرة وغياب روح الترحاب والابتسام ومشاعر الابتهاج بالزائر منذ وصوله وحتى مغادرته مما حداهم ذلك إلى إعادة تقييم خدماتهم واضفاء عنصر الابتسامة والترحاب كعنصر أساس لحصد الكثير من النتائج الإيجابية.
وبعيداً عن استعراض سيوكلوجية الضحك وفوائده وخاصيته العلاجية والجسمانية والنفسية وما يسببه من أثر في اكتساب النظارة والحيوية، وبخلاف ما يجره ويفعله التجهم والعبوس في عضلات الوجه من خطوط وتجاعيد إلا أنه من الأولى في مناسباتنا وأعيادنا وكل مواسم الفرح أن نفتح النوافذ للبهجة والنور، ونغسل قلوبنا بماء الغبطة والمسرة، ونبني معاً جسور جديدة من الحب والتفاهم والألفة تعلوها دوماً الضحكات والابتسامات، وكل عام وابتسامتكم بألف خير.