د. محمد بن فهد بن عبدالعزيز الفريح
كان رحمه الله فيما أحسبه والله حسيبه يؤثر رضوان الله، وخدمة الإسلام، وإعزاز أمته, قد بذل نصحه للراعي والرعية, وانتفع به المسلمون.
وكان رحمه الله دائم الدعاء لهذه البلاد المباركة, كثير الثناء على ولاتها وحكامها, لم يتغير في وفائه وصدق محبته لبلاده وولاة الأمر لعوارض عرضت, ولا لأحداث مرت, بل كان رحمه الله في نهاية كل درس ومحاضرة يكثر الدعاء للمسلمين ولبلادهم عموماً ثم يخص هذه البلاد «المملكة العربية السعودية» بدعاء خاص, ويكثر من الدعاء لولاة الأمر فيها, وكان لا يفوت الفرصة إذا سنحت في ذكر مناقبها وفضلها وما اختصها الله به في هذه الأزمنة المتأخرة من القيام بالتوحيد والسنة مع أمن ظاهر وخير كثير, وحدثنا مرة بالدرس أنهم خرجوا من حفر الباطن إلى الرياض وقد نسيتُ تفاصيل ما ذكره إلا أنه قال يقيناً: تعطلتْ بنا السيارة في مكان يقال له «الجرارة» - تمَّ تغيير اسمها في الوقت الحالي- وكان معنا ريالات الفضة, كل كيس فيه خمسة آلاف, ومكثنا ثلاثة أيام نذهب ونرجع, وقد تركنا المال في السيارة المتعطلة لم نخش عليها؛ لما منَّ الله به علينا من أمن ضارب أطنابه في البلاد, وحكَّامٍ دفع الله بهم شروراً كثيرة, وكان يقول بالنص: (هذه البلاد قلب الإسلام وحرزه... والحكومة السعودية خير حكومة على وجه الأرض, ولهذا يجب على كل مسلم في داخل البلاد وخارجها أن يدعو لها بالثبات والقوة في الحق, ونصرة المظلوم... وحكام هذه البلاد لا يشك منصف في الدنيا من المسلمين وغير المسلمين لا يشك أن ولاة هذه البلاد خير ولاة في بلاد العالم, لا يشك أحد في ذلك إلا من كان ذا هوى لا إنصاف عنده أو كان جاهلاً لا يدري عن أحوال الناس).
وكان رحمه الله من أبصر علمائنا بالجماعات والفرق والأحزاب لمَّا أهديته نسخة من كتابي نقض كتاب «تحقيق المقال» في الرد على جماعة التبليغ, وكشف ما تجنَّاه المؤلِّف على علماء السنة, قال لي: اثْرك يا شيخ محمد لا تحب جماعة التبليغ؟ فقلت: نعم, علمتمونا السنة وبُغْض مخالفها, فقال: أنا أعرفهم من عام 1374هـ في مسجد سكيرينة بالرياض, وحي العتيبية بمكة, وهم منحرفون عن السنة, ليسوا على منهاج النبوة, وعندهم انحرافات في المعتقد.
وقال لي أيضاً: أعرف جماعة الإخوان المسلمين وأنا طالب بكلية الشريعة عام 1377هـ وقرأتُ جملة من رسائلهم كرسائل حسن البنا وغيره, وعرفتُ أنهم على ضلال وانحراف في المنهج منذ ذلك الوقت, وهم لا يهتمون بالتوحيد, وهدفهم الوصول إلى السلطة, فكان رحمه الله يحذِّر الناس من التأثر بهم, بَلْهَ الانخراط معهم, وكان يرى أن توقيع البيانات للمطالبة بالدستورية نوع من أنواع الخروج عن جماعة المسلمين وعلى إمامهم, ويقول: هذه دعوة فتن.
وكان يحذِّر الشباب من الذهاب لمواطن الصراعات وأماكن الفتن التي وقعت في بعض البلدان, وقال في درسه الذي يقام بمسجده في تاريخ 25/5/1431: الجهاد الإسلامي لا وجود له في هذه الأزمان المتأخرة من عشرات السنين.
قال ذلك تحذيراً من تغرير دعاة الفتنة والحزبية لبعض الشباب بأن تلك الصراعات التي كانت هي جهاد إسلامي, فيغررون بهم ليذهبوا وقوداً في الفتنة.
ولما كنتُ طالباً في كلية الشريعة رأيتُ بعض الشباب يدعون إلى التجمع بعد صلاة الظهر في دار الإفتاء, وغداً عند مجلس القضاء الأعلى في زعمهم ليحرِّكوا المشايخ ويضغطوا عليهم في إنكار بعض الأمور!! فقال لي أحدهم: اليوم سيجتمع الشباب عند مجلس القضاء الأعلى فكن معنا! فقلت: ولم هذه التجمعات؟ فقال: لإنكار المنكرات!! فقلت: عجيب هل هذه طريقة شرعية؟! ثم لِمَ سوء الظن بعلمائنا حتى تتجمهروا عليهم هكذا, كأنهم لا يبذلون النصح إلا بمثل هذه الأفعال التي لا تَحْسُن من الجهَّال فضلاً عمن يَنْسِبْ نفسه إلى العلم وأهله, فأنصحك يا أخي أن تترك هذه الطريقة, فأعرض عني مغضباً - وغضبه هنا أحب إليَّ من رضاه- ولم يسمع النصيحة, وقد أخبرني أحد الفضلاء أنهم لما تجمَّعوا عند مجلس القضاء الأعلى وكثروا وأُخْبر عنهم سماحة الشيخ صالح اللحيدان رحمه الله خرج إليهم من مكتبه, وكان مما قاله لهم: هذا التجمع بدعوى إنكار المنكر يُذِّكر بتجمع الغوغاء على الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه, فالطريقة واحدة والدعوى واحدة, ثم صرفهم الشيخ بعد أن دعا للجميع بالهداية.
وأذكر أن أحد دعاة الفتنة في وقت من الأوقات تجمهر حوله أناس كُثر في المسجد الحرام والناس ينظرون باستغراب ما هذا التجمع؟ وما سببه؟ وكان ذلك ليلة من ليالي رمضان, وعَلِمَ الشيخ صالح بذلك وكان في الحرم, فما راع الناس إلا وسماحته يدخل بين الناس فانفرج أمامه الطريق, وأخذ هذا الداعية بيده وجرَّه حتى أبعده عن مكان التجمع, والناس ينظرون, فصار يكلمه ثم انصرف, فتفرق ذلك التجمع.
إذا ما تَرَاءاهُ الرِّجالُ تَحَفَّظوا
فلم تُنْطَقِ العوراءُ وهْوَ قَريبُ
ولا أنسى أن بعض تلك الفرق الضالة والجماعات الخارجية كانت تهدد -زيادة عمَّا فعلتْهُ- بالإفساد في بلادنا واستهداف رجال أمننا بل وعلمائنا فضلاً عن ولاة الأمر, فذهبتُ إلى سماحته وذلك في عام 1424 تقريباً طالباً منه أن يتخذ سبباً مباحاً زيادة في الحرص على سلامته, وقلت له: إنك يا شيخنا رأس من رؤوس السنة والإسلام في هذا الزمان, وعظيم من عظمائنا, فالتفت إليِّ وشكرني على خوفي عليه, ثم قال: قال صلى الله عليه وسلم لابن عمه رضي الله عنه: «اعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف», فلا تخف ولا تقلق, فالله هو الحافظ سبحانه.
يصدق عليه ما وصف أبو فراس الحمداني نفسه بقوله:
صَبُورٌ ولَو لَم تبْقَ مِنِّي بقِيَّةٌ
قَؤُوْلٌ وَلَو أَنَّ الْسُّيُوفَ جَوَابُ
وَقُورٌ وَأحْدَاثُ الزَّمَانِ تَنُوشُنِي
وَلِلْمَوْتِ حَوْلي جَيْئَةٌ وَذَهَابُ
سألته عن قول لبعض دعاة الفتنة تناقله شريحة من الشباب, فقال: هذا قول سوء! ثم قال: أقال به أحد؟ فقلت: نعم, اثنان؟ فقال: من هما؟ قلت: فلان وفلان, فقال: أما الأول ففيه خُبث, وأما الثاني فمسكين! وربما أحب الظُّهور والشهرة فضيَّع الحق.
كان يعرف القضاة كبيرهم وصغيرهم, ويعرف العامل منهم, والجاد في عمله, وكان يبادر بوأد الكلام حول القاضي بإصلاحه بما يراه مناسباً, ولا يقبل الطعن فيه, ولا التشويش ولو يسيراً على الجهة القضائية, بل كان المحامي لها, المدافع عنها, وكان يحث القضاة على الاحتساب في أعمالهم, وأن يتقربوا بذلك لله, وأن يصبروا على القضاء لوجهه سبحانه, وكان يذكِّرهم بعظيم منزلتهم, وعلو منصبهم, وخطورة عملهم, وأن القضاء إحدى المقامات التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلها بنفسه, فالقضاة ورثة للنبي صلى الله عليه وسلم في هذا المقام, وكان يحثهم على الانضباط في العمل وعدم التأخر عنه, بل حدثني أحد قضاة الاستئناف أنه ذهب وزميله إلى الشيخ صالح اللحيدان للسلام عليه حين قدم الطائف وقت الصيف باعتبار أنه شيخهم ورئيسهم وقد قدم من سفر فله حق السلام عليه, لاسيما أنه سيستقر مدة الصيف في الحجاز كما جرت العادة حين ينتقل مجلس القضاء الأعلى بأعماله إلى الطائف في عطلة الصيف, يقول: نوينا أن نصلي مع سماحته الظهر ثم نسلم عليه, ولعلنا بادرنا الوقت فوصلنا المجلس قبل أذان الظهر بنصف ساعة تقريباً فدخلنا على سماحته فرحَّب بنا وأكرمنا ثم قال: ما عندكم؟ فأجبناه: إنما هو السلام عليكم والتحمُّد لله على سلامة وصولكم, فقال الشيخ: تركتم أعمالكم لتسلموا عليَّ! فشكرهم ثم قال: قوموا إلى أعمالكم جزاكم الله خيراً وأعانكم.
كان رحمه الله كبير النفس, واسع القلب, قد سامح وحلَّل كلَّ من تكلَّم فيه وأساء إليه طلباً في تعويض الله وثوابه وطمعاً في عطائه سبحانه, فعطاء الله لا يُقدَّر بالحسنات التي تؤخذ من العبد وتعطى لمن اغتابه, إلا من كان سيِّئاً واستمر على السوء, فيرجو الشيخ من الله أن يحاسبه لا أن يُؤْخذ له من حسناته.
كان سماحته رحمه الله عالماً بالأنساب, عارفاً بالأسر والقبائل, واسع الاطلاع في ذلك, وجدتُ يوماً عنده رجلاً من سدير من إحدى العوائل فلما ذهب قال لي: هذا من دياركم, فقلت: نعم من المجمعة, فقال: عندكم ثلاث عوائل تحمل الاسم نفسه, الذين في المجمعة من «عَنَزة», وهذا منهم -يشير إلى الرجل الذي ذهب-, وفي بلدة التويم من قبيلتك من «تميم» ويشير إليَّ, وفي بلدة الروضة وهم من «الدواسر».
وجاءه أحد المشايخ من حوطة بني تميم في موضوع يخصه, فلما دخل على سماحته قال له: أنت من جماعة الشيخ فلان؟ فقال: لا, فهو من «أسفل الباطن», فقال الشيخ مباشرة: أنت من الحلوة أو القويع؟ «إذ لقب أسرته موجود هنا وهنا» ثم قال له سماحته: على كل حال كلكم أبناء عم, وأصلكم واحد.
فانظر إلى معرفته بتفاصيل الأسر, وكيف يعرف أن منازلهم في هذا المكان أو هذا المكان دون تسمية بقية الأماكن التي حولها.
لقد كانت لسماحته المنزلة العالية عند مفتي الديار النجدية الشيخ محمد بن إبراهيم رحمهما الله حتى قال: (دامت الخلطة بيني وبينه سنين, من حين عملت عنده في الإفتاء في وظيفة أمين, إلى أن توفاه الله), وقال: (في أوائل سنة 1380 تعينتُ مع سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمة الله عليه سكرتيراً له في الإفتاء, وبقيت معه، وكنتُ -والحمد لله والمنة والفضل له- محل الثقة وتقديرهم واحترام رأيهم، وفي عام 83 نقلني -رحمة الله عليه- إلى محكمة الرياض؛ ليهيئني لرئاستها, وذلك في أول رجب عام 83 وجلستُ فيها، وفي أوائل عام 84 توليتُ رئاسة المحكمة, وبقيت فيها إلى 5 محرم عام 91 ثم انتقلت إلى الهيئة القضائية العليا وتحولت فيما بعد إلى مجلس القضاء الأعلى, واستمررتُ في هذا العمل في حياتي القضائية في الإفتاء وفي القضاء بما يتجاوز 50 عاماً).
وقد ذكرتُ طرفاً من علاقة شيخنا صالح بسماحة شيخه محمد بن إبراهيم رحمهما الله في مقال عن الشيخ محمد بن إبراهيم نُشِرَ قبل مدة.
ومما حدثني به رحمه الله أنه كان يقرأ المعاملات على مفتي الديار الشيخ محمد بن إبراهيم, قال: كنتُ أُسْرِعُ في القراءة, فسمعته يتمثل بيتاً لكعب بن زهير معلقاً به على سرعة القراءة:
تخْدِي عَلَى يَسَرَاتٍ وَهْيَ لاحِقَةٌ
ذوابِلٌ وَقْعُهُنَّ الأرضَ تَحلِيلُ
أي: عدْوُهُنَّ - أي الإبل- سريع، فكأنَّ أخفافهنَّ لا يُصِبْنَ الأرض من شدة سرعتها وخفتها إلا بقدر تحليل القسم!
ومما أذكره هنا ما قاله لي شيخنا العلامة عبدالله الغديان رحمه الله قال: (الشيخ صالح قليل جنسه, وقد تفرَّس فيه الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله- وقرَّبه, ومكَّنه, فجعله عنده في مكتبه ثم رئيساً لمحكمة الرياض, وصدقت فراسة الشيخ محمد فيه, وهذا الشيخ صالح منذ عرفته هو هو لم يتغيَّر, وهو من أحبِّ المشايخ لي, وأقربهم إلى قلبي), وكان الشيخ صالح اللحيدان يحب الشيخ عبدالله الغديان حُباً كبيراً بل قال: (أعزُّ أصدقائي ثلاثة, وكلهم من الزلفي, الشيخ عبدالله الغديان, والشيخ محمد بن سليمان البدر, والشيخ عبدالمحسن العباد). على ذكر الشيخ عبدالله الغديان رحمه الله فإني قد طلبتُ منه الشفاعة عند الشيخ صالح لإعفائي من القضاء, فقال: لو تقول للشيخ صالح يجعلك عنده في مجلس القضاء, فقلت: شيخنا لو تكلمونه لكان أوقع للكلام, فقال: اذهب إليه وقل أرسلني فلان! فقلت: طيب, وذهبتُ إلى الشيخ صالح وقلت له, فسكت قليلاً ثم قال: سيفتح علينا هذا الفعل باباً مغلقاً.
قصدته مرة وقد نزل علينا غيث عام ومطر طيب, والأرض قد ارتوت, وكان الجو عليلاً لطيفاً, فلما أوقفتُ سيارتي عند منزله من الجهة الشمالية ونزلت منها متوجهاً إلى المسجد, وذلك قبل الأذان بقليل, إذ بالشيخ رحمه الله يخرج من منزله, فيممت وجهي إليه لأسلم عليه وقبَّلت رأسه, فقال مرتجزاً:
وابنُ فُرَيْحٍ فَرِحٌ
بالغَيْثِ لمَّا نَزَلا
فقلت: إي والله فرح بالغيث وبرؤيتكم شيخنا, وكان ذلك في 2/2/1434هـ.
ذهبتُ معه رحمه الله إلى بلدة تبعد عن الرياض أكثر من مائة كيلو؛ ليلقي محاضرة على أهلها, وكان قد بلغ من العمر حينها خمسة وثمانين سنة!
سألته عمن يُصدِر بياناً من طلبة العلم وهو في الشباب إلى أهل دولة من الدول أو إلى الشعب الفلاني في بعض الأمور العامة في بلادهم؟ فقال: من أي بلد هو؟ قلت: من الرياض؟ فقال: هل يعرفونه أهل الرياض! وهل عَلِمَ عنه أهل تلك البلاد! أو التفتوا إليه, ثم قال: قل له: رحم الله امرأ عرف قدر نفسه, ثم هو إن كان لأجل أن يُعْرف وأنه أصدر البيانات وناصح الشعوب, فنيَّته فاسدة, وعمله ضائع, وهو مسكين في الحقيقة, وإن كان يريد النفع فليعلِّم من حوله, وليدع القوس لبارئها.
لما صار الحديث والكلام مرة في مجلسه رحمه الله عن الإرهاب قال: أول من كتب عن الإرهاب عندنا هو الشيخ زيد المدخلي, وقد أحسن فيما كتب, وقد سبق غيره, فقد كتبه قديماً, وذكر أضراره على الفرد والمجتمع.
كان الشيخ رحمه الله من أوائل من أفتى بتحريم المظاهرات, وأنها فوضى, وقال: إن كان فيها سفك دماء فهي من أكبر المحرمات.
توفيتْ والدته رحمها الله وهو في العاشرة من عمره تقريباً, قدم الرياض مع والده رحمه الله عام 1367هـ, دَرَسَ في المعهد العلمي ثم التحق بكلية الشريعة وتخرج فيها عام 1379هـ, ثم المعهد العالي للقضاء وقدَّم بحثاً عنوانه (الإقرار في الشريعة الإسلامية), كما له كتابة قد ملئتْ علماً عنوانها (الأحكام المتعلقة بالهلال) جاء فيه (وقد رأيت إعادة نشر المقال استجابة لأمر شيخنا ووالدنا سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد, وتلبية لرغبة زميلنا العزيز الدكتور محمد بن سعد الشويعر رئيس تحرير مجلة البحوث الإسلامية), وقد نشر في مجلة البحوث الإسلامية عدد (27).
وعلى ذكر سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله, فقد كان سماحته دائم المشاورة للشيخ صالح, بل كان يكتب إليه في طلب رأيه في تعيين بعض العلماء في هيئة كبار العلماء, فإذا أشار بهم الشيخ صالح رفع الشيخ ابن باز الاقتراح إلى مقام خادم الحرمين الشريفين الملك فهد رحمه الله.
وكان الشيخ صالح اللحيدان له منزلة كبيرة جداً لدى الملك فهد رحمهما الله, فله عنده القدر العالي والقدح المعلى.
دعوتُ سماحة الشيخ إلى حفل الزواج وكنتُ حينها في الملازمة القضائية فقال: إن كنتُ في الرياض فلن أتأخر بإذن الله, وفعلاً شرَّف حفل زواجي رحمه الله, ولما رأيته تقدَّمتُ إليه فدعا لي وأكثر, وطلبتُ منه أن يجلس مكان العريس فرفض, فكنتُ عن يمينه ووالدي حفظه الله عن يساره.
حَلَفَ الزَّمَانُ ليَأْتينَّ بِمِثْلِهِ
حَنِثَتْ يمِينُك يَا زَمَانُ فَكَفِّرِ
لقد أمضيتُ أكثر من عشرين سنة في التردد عليه, والرجوع إليه, والحضور بين يديه, ومشاورته في أمور كثيرة, كنتُ قد جعلته أباً قبل أن أكون بين يديه تلميذاً, أُحدِّثه لأسمع منه, وأُخْبره لأتعلم, لم يتبرم أو يظهر عليه أثر السخط من أي سؤال مع كثرة الأسئلة حتى أني أخبرته برؤياي له في المنام قبل وفاته بسنتين وتكررت عليَّ الرؤيا مرتين فذهبتُ إليه, وكان على العربة في مكانه المعهود خلف الإمام, فسلمت عليه بعد الصلاة, ودعوت الله له, ثم قلت: أحسن الله إليكم سماحة شيخنا لقد رأيتكم في المنام مرتين في أسبوع واحد وفي هذا المسجد, والرؤيا واحدة والسؤال الذي جاء في الأولى هو نفسه في الثانية, وجوابكم عن السؤال فيهما واحد, وقد تعجَّبتُ من تكررها! رأيتُ أني سألتكم فيها هل أجازكم سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله في الحديث؟ فكان جوابكم: لا لم أطلب منه ولم يجزني, فقال الشيخ: صحيح لم أطلب منه ولم يجزني, ثم قال: رحم الله الشيخ ما أطيبه وما أحسن ذكراه.
لئن غاب عن العين فهو في القلب حاضر, لقد كان زينة المَجَالِس, وأُنس المُجَالس, أحب الخير للناس وبذله فأحبه الناس, لما سمعوا بمرضه تواصوا بالدعاء له, ولما بلغهم خبر وفاته حزنوا وأكثروا من رجاء الله أن يرحمه, ويعلي منزلته, صُلي عليه صلاة الغائب في بعض البلدان الإسلامية وغيرها, وتناقل الناس بعض كلامه, واجتهدوا في بثها بينهم, وتزاحموا على جنازته, وتكاثروا على قبره, لم أستطع الوصول إلى قبره للمشاركة في دفنه, بل لم أغادر المقبرة إلا قد طَوَّحت الشمس للمغيب, والناس ما زالوا في زحامهم على القبر يدعون له!
عليكَ سلامُ الله وقْفًا فإنَّني
رَأَيْتُ الكريمَ الحُرَّ لَيْسَ لَهُ عُمْرُ
لما بدأ رحمه الله في علاج المرض الذي أصابه -جعل الله ما نزل به رفعة لدرجاته- ربما مرت عليه بعض الأيام يصلي صلاة الجمعة دون غيرها تقريباً فكان لا يتيسر لي اللقاء به لارتباطي بجامع ليس بقريب من مسجده, فاتصل بي أخي الشيخ العزيز أبو خالد محمد بن سليمان البريه يوم أربعاء وكان من حديثه: إني كُلِّفتُ بالخطابة في جامع الشيخ صالح اللحيدان الجمعة القادمة! فقلت: رحمك الله بلِّغ سماحته سلامي ومحبتي وعظيم شوقي إليه, فقال: أبشر, وبعد الجمعة اتصل بي الشيخ محمد وقال: الشيخ صلى معنا فقمتُ إليه بعد الصلاة مسلِّماً مغتبطاً برؤيته, ثم بلغته سلامك ومحبتك ودعاءك, فابتسم الشيخ ابتسامة المحب, وقال: بلِّغ الشيخ محمداً محبتي ودعائي وتقديري.
لَكَ في الحَشى قبرٌ وإِنْ لم تَأوِهِ
ومن الدُّموعِ روائِحٌ وغَوادي
جبلٌ هوى لَو خرَّ فِي البحرِ اِغْتَدى
من وَقْعِهِ مُتَتَابِعَ الإزباد
لَيْسَ الفجائِعُ بالذَّخائِرِ مثلَها
بأماجِدِ الأَعيانِ والأَفْرادِ
أثنى عليه العلماء في حياته وبعد وفاته, قال سماحة شيخنا العلامة صالح الفوزان حفظه الله وبارك في عمره: (الشيخ صالح بن محمد اللحيدان عالم جليل، وهو من أكبر علماء هذه البلاد, فهو عضو من أعضاء هيئة كبار العلماء منذ أنشئت هذه الهيئة في عهد الملك فيصل رحمه الله، وهو تلميذ المشايخ الأجلاء, وخريج كلية الشريعة، وخريج المعهد العالي للقضاء، ولاه الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله بعد تخرجه عضوية الإفتاء فكان ملازمًا له في حياته ثم ولاه رئاسة المحكمة الشرعية بالرياض، ثم بعد ذلك صار عضواً في الهيئة القضائية العليا، ثم صار عضواً في المجلس الأعلى للقضاء، ثم عينه الملك فهد رحمه الله رئاسة هذا المجلس, واستمر في ذلك إلى أن تقاعد رسمياً، وكان محمود السيرة, حازماً في جميع أعماله, مسدداً في آرائه وأحكامه، ومع أعماله الرسمية الجليلة كان مشاركاً في برنامج نور على الدرب منذ أنشئ إلى جانب مشاركاته في الدعوة إلى الله بإلقاء المحاضرات وإلقاء الدروس في المسجد الحرام, وفي غيره من المساجد, مع الإجابة على أسئلة المستفتين في كل مكان يوجد فيه).
وقال الشيخ الزاهد سعد بن عبد الرحمن الحصين رحمه الله: (أحد كبار ولاة الأمر بالعلم والعمل, وهو من أوائل المفتين في هذه البلاد والدولة المباركة قبل أن يرأس مجلس القضاء الأعلى, ومن أكبر وأعلم كبار العلماء فيها, وهو من خير من يعمر المسجد الحرام بدروسه المباركة الشاملة ما أمكنه ذلك, ومن خير الدعاة إلى الله على منهاج النبوة).
وقال معالي الشيخ عبدالله المنيع حفظه الله: (سماحة الشيخ صالح بن محمد اللحيدان زميلنا وأخونا رحمة الله عليه لا شك أننا فقدنا أعزَّ حبيب إلينا, وأعزَّ من يجاهد في سبيل إعزاز هذا الدين وإعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى, والعناية بما يتعلق بالأمور الشرعية فيما يتعلق بالجانب العدلي, وبالجانب القضائي, والجانب الإفتائي, وبالجانب العلمي, في الحقيقة إننا فقدنا عالماً كبيراً له قيمته واعتباره, نحن في أمس حاجة إليه وإلى أمثاله, نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتغمده برحمته وألا يفتنا بعده, وأن يعوض بلادنا بمن فيه الخير والبركة, كان له مجهود عظيم في سبيل تقويم وتكوين مجلس القضاء الأعلى حيث كان ميزان عدل, وكان معياراً لتقويم مجموعة كبيرة من رجال العلم ورجال القضاء, ووزارة العدل فيها مجموعة كبيرة كلهم أو غالبهم من تلاميذه ومن نتيجة توجيهاته الكريمة, نسأل الله تعالى أن يعظم أجره, وأن يرحمه رحمة واسعة, وإنا لله وإنا إليه راجعون).
إيه يا نفس هذه مصابيح العلم كل يوم في نقص, وربما ضاعت الأوقات على ثمن بخس!
لما بدأ الناس يهيلون التُّرب على قبر شيخنا رحمه الله تذكرتُ قول حبر الأمة رضي الله عنه لما قام على قبر زيد بن ثابت رضي الله عنه بعد دفنه قال: هكذا يذهب العلم.
إي والله هكذا يذهب العلم, فما أحوج طلاب العلم إلى الجدِّ في طلبه, والسعي في تحصيله, خاصة علم التوحيد, فإن الفتن كثرت وتنوعت وتشعَّبت, والناس بحاجة ماسة وملحَّة إلى العلم النافع وأهله, وبثه بينهم وتداوله, والعلم إنما يُتلقَّى من الشيوخ, ليس مجرد قراءة الكتب والبحث والنظر فقط, بل هو سلسلة من التَّلقي مترابطة إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وسماحة شيخنا رحمه الله له اختيارات فقهية كثيرة, وترجيحات معتبرة, يحسن جمعها ودراستها في رسائل علمية, وله جهود دعوية مباركة, وكان رحمه الله على قانون السلف الصالح عقيدة وفقهاً ومنهجاً.
فرحم الله سماحة شيخنا صالح اللحيدان وجعل الفردوس مأواه, وعوَّض أمة محمد خيراً, وشكر له عمله وجهاده وجعلها كلها في ميزان حسناته, وأحسن العزاء فيه لولاة الأمر والعلماء وطلاب العلم والقضاة والمسلمين, وممن أخصه بالعزاء أولاده الكرام النبلاء, وأهل بيته, وطلابه, و إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ , والحمد لله على قضائه وقدره.
** **
- أستاذ الفقه المقارن بالمعهد العالي للقضاء