د.محمد شومان
لا يوجد اتفاق على تعريف أو مفهوم محدد للخطاب، فهو محل اختلاف ونقاش بين الباحثين في العلوم الاجتماعية والإنسانيات، ويستخدم الباحثون مفهوم الخطاب بطرق شديدة الاختلاف بحسب تخصصاتهم وثقافاتهم والأوساط الأكاديمية التي يعملون بها، وعلى الرغم من صعوبة الاتفاق على المقصود بالخطاب وحدوده وأبعاده واستخداماته، إلا أنه منتشر على نطاق واسع في العلوم الاجتماعية والإنسانيات، هذه المفارقة المحيرة تثير إشكاليات وتربك بعض الباحثين، لاسيما وأن كل تخصص في العلوم الاجتماعية يحدد مفهوما للخطاب خاص به استنادا إلى النظريات والمناهج المعتمدة لديه كما يستخدمه بأساليب وطرق مختلفة.
وقد أصابني الارتباك والحيرة قبل أكثر من ثلاثين عاما مع بدء اهتمامي بمتابعة مفهوم الخطاب واستخداماته في التحليل النقدي للخطابات الإعلامية، وكانت مشكلتي أنني لم أجد في الجامعات المصرية، وتحديدا كليات وأقسام الإعلام أستاذا أو دارسا يساعدني، ربما وجدت بعض الدراسات على الخطاب من منظور اللغويات أو البلاغة، لكني لم أجد بحوثا عن الخطاب الإعلامي، مما دفعني للبحث عن الأدبيات الغربية، حيث تعرفت على تيار البحوث النقدية للخطاب، وتمكنت من إصدار أول كتاب عن هذا المجال الصعب، والمراوغ، كان الأول من نوعه عام 2007، بعنوان تحليل الخطاب الإعلامي، أطر نظرية ونماذج تطبيقية. وسعى الكتاب إلى التعريف بالتحليل النقدي للخطاب، وكيفية استخدامه في تحليل الخطابات الإعلامية. لكن ومنذ هذا التاريخ جرت في النهر مياه كثيرة، وساهم باحثون جادون في اللغويات والبلاغة والإعلام بأعمال ودراسات مهمة، عن تيار التحليل النقدي للخطاب، وتشكلت لدينا في المنطقة العربية ملامح تقاليد بحثية في هذا المجال، لكنها لم تتمكن من تأسيس مدرسة عربية، كما أنها لم تتابع التحولات المهمة في الدراسات النقدية للخطاب، والتي تحولت من تحليل الخطابات في وسائل الإعلام التقليدية إلى تحليل خطابات وسائل التواصل، اعتمادا على تعددية الوسائط وبروز دور المتلقي - الجمهور على حساب المؤسسات الإعلامية والصحفيين.
ظهرت دائما محاولات كثيرة، وربما متناقضة لتوضيح المقصود بالخطاب ومكوناته، وأنواعه وتقسيماته، ونظريات وأساليب تحليله، وقد يذهب البعض إلى تضييق المقصود به أو توسيع معنى الخطاب، بحيث لا يشمل فقط النصوص أو العلامات والإشارات أو المظاهر العينية، وإنما قد يتسع ليشمل كل مظاهر الحياة المادية والمعنوية والعلاماتية. إن الخطاب عند بعض الباحثين هو نمط الكلام وكيفية استخدام اللغة واللهجة في مجتمع معين، أو هو اللغة أي النص اللغوي في سياق معين، لكن الخطاب ليس اللغة عند البعض الآخر، وهو يختلف عن النص لأنه يشمل نصوص عديدة مكتوبة أو منطوقة مصحوبة بعلامات كثيرة. ويعرف فيركلف الخطاب بأنه استخدام اللغة في الحديث والكتابة، إضافة إلى استخدام الأنشطة الإعلاماتية من صور وأفلام ورسوم بيانية وحركات جسد وتعبيرات وجه، ليصل إلى القول إلى أن الخطاب هو الممارسة الاجتماعية، وهو أيضا كل الأشياء التي تكون العالم الاجتماعي.
ويتبني بيكر Paul Baker مفهوم ورؤية فوكو للخطاب باعتباره «ممارسات تشكل بشكل منهجي الموضوعات التي يتحدثون عنها»، أن الخطاب كما يؤكد بيكر هو «نظام من العبارات التي تبني موضوعًا أو هو «اللغة في الممارسة العملية»، ويمكن تصنيف الخطاب على أنه أيضا «مجموعة من المعاني والاستعارات والتمثيلات والصور والقصص والبيانات وما إلى ذلك، والتي ينتج عنها بطريقة ما نسخة معينة من الأحداث... تحيط بأي شيء أو حدث أو شخص واحد إلخ، وقد تكون هناك مجموعة متنوعة من الخطابات المختلفة، ولكل منها قصة مختلفة ترويها عن العالم، وطريقة مختلفة لتمثيلها للعالم.. ويخلص بيكر إلى أن الخطابات ليست وصفًا صحيحًا لـ «معتقدات» الناس أو «آراءهم» ولا يمكن اعتبارها تمثل جانبًا داخليًا أساسيًا للهوية مثل الشخصية أو الموقف. ولكنها بدلاً من ذلك، مرتبطة بالممارسات والهياكل التي يعيشها المجتمع من يوم لآخر، لذلك قد يكون من الصعب تحديد الخطابات أو وصفها - فهي تتغير باستمرار وتتفاعل مع بعضها البعض وتتفكك وتندمج. ومن ثم لا يوجد «قاموس للخطابات». بالإضافة إلى ذلك، فإن أي فعل لتسمية الخطاب أو تعريفه سيكون تفسيريًا. وذلك لأن الخطابات تؤثر في أحكامنا لأننا نعيش معها غالبا بدون وعي.
ومع ذلك صارت دراسة الخطاب ممارسة شائعة ليس فقط في علم اللسانيات، ولكن أيضًا في العديد من العلوم الاجتماعية المتأثرة بما يسمى «المنعطف اللغوي» والذي ظهر في الستينات وركز على بحث أهمية دور اللغة في تكوين هوية الأفراد، وفي التواصل بينهم، فضلا عن دورها في بناء المجتمع، وقد نجد بعض الباحثين المهتمين بالخطاب لا يعرفون ما معني الخطاب وما يعنون به بالضبط، كما تظهر اختلافات كبيرة بينهم، اعتمادًا على المدرسة الفكرية التي ينتمون إليها، مع أنهم يتشاركون عمومًا في ثلاث قناعات هي، أن الخطاب والمجتمع يشكلان بعضهما البعض؛ وأن الخطاب هو «نتاج الممارسات الاجتماعية» وأن الظواهر الاجتماعية يمكن دراستها بشكل مفيد من خلال التداعيات النصية التي تولدها. وعلى الرغم من الاتفاق على هذه الافتراضات التأسيسية المشتركة، تشعبت التقاليد البحثية وتنوعت، وأصبح القيام بتحليل بالخطاب» يعني الآن أشياء مختلفة إلى حد ما لأناس مختلفين. وقد أشار بعض الباحثين إلى وجود اثيى عشر نوعًا مختلفًا من تحليل الخطاب. من هنا فإن عدم التجانس في مجال دراسات الخطاب يمكن أن يكون محيرًا إلى حد ما. ونتيجة لذلك، غالبًا ما يجد الباحثون الوافدون الجدد إلى هذا المجال صعوبات كثيرة.
وعلى الرغم من كل هذا التنوع والتضارب وما قد يسببه من حيرة فقد تتنامى الاهتمام بالخطاب ودخل تحليل الخطاب مجالات كثيرة، وجذب اهتمام ليس فقط اللغويين واللغويين التطبيقيين، ولكن أيضًا المنظرين الاجتماعيين والسياسيين وعلماء الاجتماع وعلماء الأنثروبولوجيا، والتربية، كما ظهرت مجموعة متنوعة من المدارس التي تستخدم اطر معرفية ومقاربات وإجراءات منهجية مختلفة. ولعل من أبرزها تحليل الخطاب النقدي، علم النفس الخطابي، تحليل المحادثة، علم اللغة الاجتماعي التفاعلي، اثنوغرافيا الاتصال، الأسلوبية، تحليل الخطاب الوسيط، تحليل لغويات المدونة الحاسوبية، تحليل السرد، تحليل الخطاب متعدد الوسائط، التحليل النحوي البلاغي، تحليل الحجج، وغيرها.
ويمكن القول بأن التحليل النقدي للخطاب قد اعتمد أساسًا في نشأته على الأعمال التأسيسية لعلم اللغة الوظيفي النظامي كما صاغها ما يكل هاليداي، واللغويات النقدية، خاصة أعمال كريس وهودج وترو، Hodge، Kress، Trew، كما يمكن القول أيضا بأن فضل تأسيس التحليل النقدي للخطاب CDA يرجع إلى مساهمات فيركلف Fairclough في البداية، والتي سبقت بوقت قصير، ثم تزامن مع أعمال فادن دايك وفوداك وفان لوين. وهناك اتفاق واسع على أن فيركلاوف هو أول من صك مفهوم التحليل النقدي للخطاب في مقال منشور له عام 1985، ثم أوضح المفهوم وطوّره في كتابه المهم اللغة والسلطة الصادر عام 1989، والذي يعتبر بمثابة البيان التأسيسي لتيار أو برنامج التحليل النقدي للخطاب، لكن فان دايك يعارض على استحياء هذه الرواية، ويرى أن كتاب نورمان فيركلف الأول حمل عنوان اللغة والسلطة، وليس الخطاب والسلطة، بينما اهتم هو بدراسة العنصرية في الخطاب منذ أواخر السبعينات.. إلى أن قدم استنتاجاته في كتاب الأخبار كخطاب عام 1988، والذي يصفه بأنه كان في الواقع دعوة صريحة للانخراط في خطاب نقدي واسع ومتعدد التخصصات، ومنذ الاجتماع الأول في عام 1991 في أمستردام، أصبح نموذج التحليل النقدي للخطابCDA نموذجاً راسخًا وحركة دولية بدأت في أوروبا وانتشرت لاحقًا في أماكن أخرى من العالم، وذلك على الرغم من وجود بعض المقاومة من قبل اللغويين التقليديين.
ويمكن القول أن الدراسات النقدية للخطاب من وجهة نظري لا تزال خطاباً مفتوحاً، بمعنى أن مؤسسيها الأربعة والباحثين المنتمين إليها يعملون باستمرار على تجديد أفكارهم وتطوير مقارباتهم النظرية وتجريب استخدام أدوات بحثية ووسائل جديدة سواء نوعية (كيفية) أو كمية، مع تغليب وزن الأدوات الكمية، من هنا ضرورة الانتباه إلى التغيرات التي طرأت -وما تزال- على أفكارهم وممارساتهم البحثية، ومن ثم ضرورة التعامل التاريخي النقدي مع مجمل مساهماتهم، وقراءة أفكار كل منهم ومساهماته في سياق كل مرحلة تاريخية مر بها، لذلك قد يجد الباحث اختلافات بين أعمال فان دايك أو فيركلف المنشورة في الثمانينات وأعمالهما المنشورة في العشر سنوات الأخيرة، حتى إنه يمكن التمييز بين أعمال فيركلف الشاب والعجوز، ففي مرحلة الشباب أو بدايات أعمال فيركلف كان أكثر اهتماما بالنقدي ذو الطابع السياسي المباشر، بينما صار كما تكشف أعماله الأخيرة وحواراته عن حرص أكبر على التمييز بين استحقاقات البحث العلمي وبين الموقف السياسي العام غير الحزبي. وكيف أنه ينتصر في السنوات الأخيرة لتفهم حجج ومنطق كل الأطراف المتصارعة حول الخطاب ويحذر من التسرع في إطلاق الأحكام أو الاستنتاجات العامة. من هنا يجوز القول أن فيركلف الشاب صاحب التوجه النقدي والمتورط بشكل كبير في السياسة الحزبية يختلف عن فيركلف الكهل.